١٠..شعور جديد

772 52 24
                                    

دخلت إيليف الى القصر و اتجهت مباشرة نحو عمّها الجالس على كرسيّه المتحرّك و جثت أمامه على ركبتيها و قبّلت يده ثم وضعت رأسها على قدميه و قالت بصوت خنقته الدموع:
_ لقد اشتقت اليك كثيرا عمّاه.
مرر حازم يده على رأسها بحنان و أجاب:
_ و أنا أيضا اشتقت اليك كثيرا يا ابنتي..طمئنيني عنك..كيف حالك؟
رفعت عيونها الدامعة نحوه و ردت:
_ أنا بخير ما دمت أنت بخير عمّاه..أطال الله عمرك و أبقاك تاجا فوق رؤوسنا.
قبّل الرجل جبينها و عانقها مطوّلا و هو يغالب دموعه..سلّمت ايليف على زوجة عمّها و على جوكهان و زوجته و على سنان قبل أن تلتفت نحو ياغيز و تسأل:
_ أين هي زوجتك يا آغا؟ أريد أن أراها و أتعرف عليها.
دخلت هزان و اقتربت منها و هي تجيب:
_ مرحبا..أنا هزان..زوجة الآغا.
تفحّصتها ايليف من أعلى رأسها الى أخمص قدميها ثم مدت يدها تصافحها و تقول:
_ مرحبا..و أنا ايليف..ابنة عمّه.
صافحتها هزان و ردت:
_ تشرفنا.
نظرت ايليف الى ياغيز و سألت:
_ هل هذه هي نفس الهزان أم تراني مخطئة؟
أجاب ببرود:
_ بلى..انها هي.
علقت ايليف مازحة:
_ يا عيني..حب الطفولة و ما شابه..زوجتك جميلة يا آغا..لكنها ليست أجمل مني.
رد ياغيز و هو يجاريها في مزاحها:
_ لا أحد يضاهيك جمالا أيتها المشاغبة.
انزعجت هزان من كلامه لكنها لم تقل شيئا..شبكت إيليف يدها في ذراع ياغيز و قالت بدلال:
_ رافقني الى غرفتي يا ابن العم.
مشى معها دون اعتراض و راقبتهما هزان و قد سيطر عليها الغضب و الانفعال.
خرجت الى الحديقة و أخذت تروح و تجيء دون توقف قبل أن تصعد الى الغرفة..فتحت الباب فوجدت ياغيز هناك يبحث في جارور المنضدة..سألته:
_ عمّ تبحث؟
أجاب دون أن ينظر اليها:
_ أبحث عن دواء لوجع الرأس..ايليف تريده.
تمتمت بصوت خافت:
_ و كأنها وظيفتك أن تعالجها.
اقتربت منه و همست:
_ والدتك انتبهت أنك لم تنم ليلة البارحة في الغرفة و تحدثت معي لكي لا يتكرر الأمر مرة أخرى..لم يكن هناك داع لمبيتك خارج غرفتك.
ابتسم بسخرية و رد:
_ ليست الغرفة هي التي ازعجتني..بل من فيها.
وضعت يدها على ذراعه و قالت:
_ آسفة إذا كان كلامي قد أزعجك..لكنك تتأمل أن أمنحك ما أنا عاجزة عنه و ..
أبعد يدها عنه و رد بشيء من الحدة:
_ و ها قد تخليت عن الأمل..و توقفت عن انتظار ما لن يحدث..لن أتحدث في نفس الموضوع مرة أخرى..و لن أقترب منك أبدا..أليس هذا ما تريدينه؟ حسنا..فليكن ذلك.
قطبت جبينها و سألت:
_ و أمّك؟ ماذا سنفعل بشأنها؟
أجاب:
_ لا تقلقي بشأن أمي..ان كان يزعجها نومي خارج هذه الغرفة فسأفعل ما تريده و أقضي ليلتي هنا..و سنواصل تمثيل دور الثنائي السعيد لكي لا تضغط عليك..و الآن عن اذنك..لدي أمور أهم يجب أن أقوم بها.
و غادر الغرفة فيما بقيت هي في مكانها و صدرها ضائق و كأن الجدران تطبق عليها و تخنقها..مررت يدها على عنقها و رفعت رأسها عاليا لكي تبحث عن هواء تتنفسه فشعرت بأن الهواء أيضا يؤلم رئتيها..فتحت باب الشرفة و خرجت..رأت ياغيز في باحة القصر يتحدث مع أردام..وجدت نفسها دون وعي منها تحدق فيه و تتأمله في صمت و كأنها تراه للمرة الأولى..وقفته المهيبة..ثيابه الأنيقة..شعره البني الكثيف الذي لمع تحت أشعة الشمس..عيونه الملوّنة التي تحاكي صفاء البلوّر..صوته الجهوري الرجولي الذي يتردد في أرجاء القصر..حركات يديه التي ترافق كل كلمة يقولها..ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفاه هزان سرعان ما اختفت و هي تقول لنفسها:
_ لا تهذي هزان..ماذا تفعلين؟ عودي لرشدك.
سمعت صوت طرقات على الباب..قالت دون أن تبتعد عن الشرفة:
_ تفضل.
أطلّت أمها برأسها و هي تقول:
_ مرحبا حبيبتي..هل أنت متفرغة؟ أريد أن أتحدث معك قليلا.
مشت نحو أمها و ردت:
_ طبعا..تعالي.
جلست فضيلة و جلست هي قبالتها..صمتت أمها قليلا قبل أن تسألها:
_ هزان..حبيبتي..هل أنت سعيدة في زواجك؟ هل هناك ما تريدين اخباري به؟ أنا أمك و مستعدة أن أسمع منك..قولي و لا تخفي عني شيئا.
ربتت هزان على يد أمها و أجابت:
_ أنا بخير أماه..كل ما في الأمر أنني أجد صعوبة في تقبّل الحياة في هذا المكان الذي لا يشبهني..لقد عشت لسنوات طويلة في مدينة يحكمها القانون..مدينة كنت فيها فتاة شابة مستقلّة تعمل عملها المفضل و تعيش الحياة التي تريدها و التي تناسبها..أما الآن..فالوضع مختلف تماما..و هذا أكثر ما يرهقني.
ابتسمت فضيلة و قالت:
_ سبحان اللّه..و كأنني أسمع أباك يتكلم..لطالما وجد صعوبة في التأقلم مع حياتنا هنا..و لطالما اشتكى و تذمّر من أسلوب الحياة هذا..لا أدري أصلا كيف تحمل السنوات الثمانية التي قضاها هنا و نحن متزوجان..لكنه لم يسمح لكل ذلك بأن يؤثر على بيتنا السعيد و لا على علاقتنا الزوجية التي كان قوامها التفاهم و المحبة و المودة..صحيح أن الظروف كانت أقوى منا و نجحت في تفريقنا..لكنني لم أتوقف يوما عن حبه..و أنا واثقة بأنه لم يفعل هو أيضا.
امتلأت عيون هزان بالدموع و تمتمت:
_ لقد كان اسمك يرافقه في كل لحظة من حياته..و حتى آخر لحظة قبل موته..لقد أحبك أكثر من كل شيء..لكن افتراقك عنه كان مدمّرا..و كله بسبب هذه الحياة الغريبة التي تعيشونها هنا و التي تحكمها قوانين و أعراف ظالمة و رجعيّة..و تريدينني أنا أن أتقبلها و أتعايش معها و هي التي كانت سببا في حرماني منك..لا أستطيع.
نظرت فضيلة الى ابنتها و قالت:
_ التجئي الى زوجك..و استندي عليه..و ساعديه..و أحبّيه..و اجعلي من غرفتكما هذه جنة لكما..اقتربي منه..تعرّفي عليه..اسمحي لنفسك بأن تري جوانبه الجيدة و صفاته الحميدة..و اسمحي له بأن يكسر حاجز السنوات التي قضيتموها بعيدين عن بعضكما..ياغيز شخص رائع..مهذب..عادل..لائق..و شهم..و فيه كل الصفات التي تتمناها النساء..أنت الآن زوجته..و هذا ما تحسدك عليه كل بنات المنطقة و اللواتي كن تمنين أنفسهن بالظفر به..ضعي يدك في يده و ساعديه على تغيير ما يطمح الى تغييره..هو أيضا لم يكن يوما يريد أن يكون آغا..و لم يسع لنيل هذا المنصب..كان قد أنهى دراسته و تحصل على شهادة عليا في التاريخ..و كان يريد أن يصبح مدرّسا..لكن الحادث الذي تعرض له أبوه و الذي أودى بحياة عمه و ابن عمه حمّله مسؤولية ثقيلة لم يكن ليرفضها لكي لا تخسر عائلته لقبا ورثته أجيالا وراء أجيال..رجل لا يهرب من تحمل المسؤولية هو رجل جدير بالاحترام و التقدير..لا تسمحي للاختلاف بينكما بأن يفسد عليكما حياتكما معا..اجعلي الرابط الذي بينكما يكون أقوى من كل شيء..و ستجدين السعادة و الطمأنينة..أنا واثقة من ذلك حبيبتي.
عانقت هزان أمها بكل قوّتها و أخفت وجهها في حضنها و قد شعرت بأنها تحتاجها كثيرا في هذه المرحلة من حياتها..بقيت لبعض الوقت بين ذراعي أمها قبل أن تنظم اليهما ايجه التي عادت لتوّها من الكليّة..
على الغداء..اجتمعت العائلة كلها حول المائدة و قد حرصت السيدة سيفدا على تحضير كل المأكولات التي تحبذها ايليف احتفاءا بها و بعودتها من السفر..و خلال الغداء..لاحظت هزان تعمّد إيليف قصّ حكايات تخصّها مع ياغيز كذكريات لعبهما معا أو ذهابهما الى السينما أو تسوقهما معا و هذا كان يزعج هزان و يضايقها..لم تأكل شيئا..و راحت تتابع حديث ايليف..و تراقب حركاتها و هي تتعمد أن تتكئ على كتف ياغيز أو تلامس وجهه أو تضع في فمه شيئا من الطعام و كأنها هي زوجته و ليست هي.
و بعد الطعام..أرادت هزان أن تقوم بشيء مميز فأعدّت كعكة بالفراولة و زيّنتها بالكريمة المحلاّة ثم قطّعتها و وضعتها في أطباق و دخلت الى الغرفة الجلوس حيث كان الجميع و راحت توزع الأطباق..نظرت ايليف الى قطعة الكعك و قالت:
_ هزان..ألا تعلمين بأن زوجك يعاني من حساسية حادّة للفراولة و الطبيب منعه من أكلها.
شعرت هزان بأن كلام ايليف انغرس كالسكين في قلبها..ها قد أثبتت لها في لحظة واحدة بأنها لا تكاد تعرف شيئا عن زوجها و بأنها غريبة عنه مثلما هو غريب عنها.
تجمعت الدموع في عيونها فوضعت الأطباق على الطاولة و استأذنت في الذهاب الى غرفتها دون أن ترد على ايليف..دخلت الى غرفتها و صفقت الباب وراءها بعنف..أغمضت عيونها بقوة لكي لا تبكي ثم فتحتهما و واجهت نفسها في المرآة و قالت:
_ ما هذا يا هزان؟ مالذي أصابك؟ لماذا تفعلين هذا؟ لماذا تتأثرين الى هذه الدرجة؟ ما قصة حساسيتك الزائدة من هذه المسمّاة إيليف؟ انها ابنة عمه و من الطبيعي أن تكون قريبة منه و أن تعرف عنه الكثير من التفاصيل التي لا تعرفينها..فيم يزعجك الأمر؟ و لماذا يزعجك من الأساس؟ ما دخلك فيه و فيها؟ أنت تعلمين جيدا بأن بقاءك هنا مؤقت و سيأتي يوم و تتخلصين من سجنك هذا فلماذا اذا تتأثرين و تسمحين لنفسك بأن تشعري بهذا الشعور الغريب؟ تجاهليها..و تجاهلي وجودها و كلامها و تعليقاتها و لا تهتمي بها..ان كنت لا تعرفين شيئا عن ياغيز فهذا عادي لأنك أنت من ترفضين التعرف عليه أو الاقتراب منه..لكن..لماذا تشعرين الآن و كأنك تريدين أن تفعلي ذلك..أن تتعرفي عليه أكثر..و أن تقتربي منه أكثر..لماذا؟ مالذي تغيّر بعد ظهور ايليف في حياتكما؟ مالذي جعل هذه الأفكار تغزو عقلك؟ لماذا بدأت الآن في ملاحظة وجوده و في التدقيق في تفاصيله و كأنك ترينه للمرة الأولى؟ لماذا يزعجك اقتراب ايليف منه أو ملامستها له؟ لماذا تتضايقين من اهتمامها الزائد به؟ لماذا؟ توقفي عن فعل هذا بنفسك..أنت صاحبة ارادة قوية و تستطيعين السيطرة على كل هذا..نعم..لا يوجد شيء لا تقوين على التغلب عليه..لطالما كنت قوية و ستبقين كذلك..لا تسمحي لنفسك بأن تنهزمي أو تستسلمي..الأمر سهل و بسيط..المسألة مسألة إرادة..و أنت تملكين ذلك..اهدئي و خذي الأمور ببساطة..و ستنجحين في تجاوز هذا الارتباك الذي تعيشينه.
ارتسمت الابتسامة على شفتي هزان و رفعت رأسها عاليا بشموخ و كلها ثقة بأنها قادرة على التغلب على كل ما يقلقها..جلست على حافة السرير و أخذت حاسوبها و راحت تنقر بضع كلمات عليه عندما فتح ياغيز الباب و دخل..نظر اليها و قال:
_ في المساء سنتناول العشاء في مطعم الفندق احتفالا بعودة ايليف من السفر..كوني جاهزة على الساعة الثامنة.
سألت:
_ و هل من الضروري أن أكون موجودة معكم؟
أجاب بإقتضاب:
_ نعم.
ثم التفت نحوها و سأل:
_ هل يزعجك تواجدك مع ايليف في نفس المكان؟ هل ضايقتك ملاحظتها عن حساسيتي للفراولة؟
ابتسمت و ردت:
_ يزعجني؟ طبعا لا..لا يعنيني الأمر..طبيعي أن تعرف ابنة عمك تفاصيلا كثيرة عنك..و وجودها لا يزعجني..على العكس..أنا سعيدة بتقاربكما هذا..تبدوان كالأصدقاء المقربين أو ربما أكثر..سأستعد جيدا لعشاء الليلة..و سأكون جاهزة على الساعة الثامنة كما طلبت.
رمقها ياغيز بنظرة باردة قبل أن يفتح الخزانة و يأخذ منشفة الاستحمام خاصته و يختفي داخل الحمام.
انشغلت هي بالكتابة و لم ترفع نظرها عن حاسوبها إلا عندما خرج هو من الحمام و هو عاري الصدر و كان قد حلق ذقنه و تعطّر..تأملته في صمت دون أن تنجح في ابعاد عيونها عنه..انتبه هو لنظراتها المتفحصة لكنه تجاهلها..اختار قميصا ارتداه و خرج.
أغلقت هي حاسوبها و هي تلعن نفسها لأنها فشلت في اختبار بسيط كانت تريد أن تثبت به لنفسها بأنها قوية و بأنه لا يؤثر عليها أبدا..
استلقت على السرير و راحت تفكر الى أن غلبها النعاس و نامت..و كأنما ليؤكد سيطرته عليها..تسلل ياغيز حتى الى أحلامها..رأت نفسها واقفة في الشرفة العلوية للقصر و هي ترتدي فستانا أبيضا رائع الجمال. كانت ترفع رأسها نحو السماء و تتأمل النجوم عندما شعرت بيدين تحيطان خصرها و بشخص يقف خلفها و يضع ذقنه على كتفها..قالت تخاطبه:
_ ها قد أتيت أخيرا..لقد طال انتظاري لك..لماذا تأخرت علي؟
يجيبها صوت رجولي مألوف:
_ أنا لم أتأخر..أنا موجود دائما..أنت من تأخرت..أنا أراك لكنك لا ترينني..أنا أحدثك لكنك لا تسمعينني..أنا ألمسك لكنك لا تشعرين بي..أنا هنا هزان..متى سترينني؟ متى ستسمعينني؟ متى ستشعرين بي؟
طبع قبلة رقيقة على عنقها فالتفتت نحوه لتراه واقفا قبالتها و هو يرتدي بدلة أنيقة و عيونه تنطق بحبه..وضعت يديها حول وجهه و همست:
_ أنا أراك الآن حبيبي..أراك بقلبي قبل عيوني..أسمعك..و أشعر بك و بلمساتك الحنونة..و أريد أن أكون قريبة منك..أريد أن ألمسك..أريد أن أشعر بك أكثر.
ثم تقرب فمها من فمه و تقبّله..و قبل أن يبادلها قبلاتها..يسمعان صوت ايليف تناديه..ثم تقترب منه و تسحبه من يده فيتبعها و يبتعد عن هزان..تصيح بأعلى صوتها..يااااغيز...ياااغيز..لكنه لا يلتفت اليها..و يختفي وسط الظلام.
استيقظت هزان من نومها على صوت طرقات على الباب..فركت عيونها و تلفتت حولها لكي تتأكد بأن ما حدث منذ قليل لم يكن سوى حلم ثم غادرت سريرها لكي تفتح..وجدت أختها أمامها..أخبرتها بأنها ستذهب للتسوق و أرادت أن تصطحبها معها لكي تشتريان فساتين مناسبة لسهرة الليلة..فرافقتها هزان و قضتا معا ساعتين تقريبا في الأسواق قبل أن تعودان الى القصر و تستعدان.
اختارت هزان لنفسها فستانا أحمرا طويلا بكتفين مكشوفين و ينسدل على قوامها الممشوق و يناسبه تماما

الآغاOù les histoires vivent. Découvrez maintenant