٢٢..مواجهة حاسمة

713 42 19
                                    

في غرفتها..استحمت هزان و غيرت ملابسها ثم جلست على حافة السرير و هي تخفي وجهها بين يديها..عقلها ما يزال يعيد تلك اللحظات العصيبة التي قضتها عندما كانت مخطوفة و محتجزة لدى ياسين..سمعت صوت طرقات على الباب ثم رأت ياغيز و هو يطل برأسه و يسأل:
_ هل أستطيع الدخول؟
أجابت: وهو
_ طبعا..تفضل.
دخل و اقترب منها..طبع قبلة على رأسها قبل أن يجلس بجانبها و يلف ذراعه حول كتفها يقربها منه لكي تضع رأسها على كتفه..تحركت يده على ذراعها و هو يهمس بحنان:
_ أنت بأمان الآن..لا تخافي..لن أسمح لأي أذى بأن يصيبك و أنت بين ذراعي.
وضعت هزان يدها على صدره و ردت:
_ هذا ما أحتاجه في هذه اللحظة بالذات..أن أكون بين ذراعيك.
مرر شفتيه برقة على جبينها و غمغم بصوت مبحوح:
_ مكانك محفوظ هنا على الدوام..أنفاسك التي تلفح عنقي هي ما يشعرني بأنني على قيد الحياة..الحمد لله أنك بخير..الوقت الذي قضيته من دونك كان أقسى تجربة مررت بها.
رفعت عيونها نحوه و سألت:
_ هل خفت علي كثيرا؟
نظر اليها و أجاب:
_ لا أدري ان كانت كلمة خوف تعبّر عن الاحساس الذي انتابني بمجرد أن وصلتني رسالة ذلك الحقير..و الأغرب أنني كنت قلقا عليك من قبل وصول الرسالة بكثير..كنت أشعر بضيق رهيب..و كأن قلبي كان يحدثني بأن أمرا سيئا كان على وشك الحدوث.
ثم وضع يده تحت ذقنها و رفع وجهها أكثر نحوه قبل أن يضيف:
_ ممنوع أن تغيبي عن ناظري مرة أخرى..أبدا..هل هذا واضح؟
ابتسمت و ردت:
_ أمرك يا آغا.
قرّب فمه من فمها و قبّلها قبل أن يسألها:
_ كيف تشعرين الآن؟ هل أنت بخير؟
تعلقت أصابعها بياقة قميصه و دفنت وجهها في صدره و هي تغمغم:
_ أنا بخير ما دمت هنا.
وضع يده على وسطها و جذبها نحوه ثم استلقيا معا على السرير..سألته:
_ ماذا ستفعل الآن مع ياسين؟ كيف ستجده؟
قطب ياغيز جبينه و تكلم و هو يجز على أسنانه من الغضب:
_ اللعنة عليه..سأدق رقبته بمجرد أن أضع عيني عليه..سأقطع يده التي تجرأ و وضعها عليك..سأجعله يدفع ثمن نذالته هذه..فاتح هو من سيوصلني اليه..انه يملك أصدقاء هنا في اسطنبول..لقد أمرت الرجال بأن يتتبعوا أثره في كل مكان..و أنا واثق بأنني سأحظى به و بسيّده عما قريب.
نظرت اليه و همست:
_ هل ستقتله اذا عثرت عليه؟
أبعد عيونه عنها و رد:
_ لا تسألي سؤالا تعرفين إجابته جيّدا..لا تتوقعي منّي أن أرأف بسافل مثله..لقد تجرّأ علي بكل الطرق و كنت قادرا على تجاهله و على الاكتفاء بنفيه من البلد..لكن..أن يتجرّأ و يمسّك أنت..فهذا ما لن أغفره له أبدا..و يجب أن يدفع حياته ثمنا لذلك.
أغمضت عيونها بقوة و غمغمت:
_ أكره ذلك..أكره رؤيتك و أنت تسلب إنسانا حياته..أعلم أن ياسين تمادى و آذاك كثيرا..و تعمّد أن يستغلّ حبّك لي و ضعفك تجاهي..لكن..لماذا لا تلتجئ إلى الشرطة و تقدّم شكوى رسمية و ..
قاطعها بعصبية:
_ هل تريدينني أن أصبح محلّ سخرية من جميع أهل وان؟ أي هيبة ستبقى لآغا المنطقة ان لم يأخذ حقه بيده و أدخل الشرطة في أمور داخلية خاصة؟ الأمور عندنا لا تسير بهذا الشكل هزان و أنت تعلمين هذا جيدا.
استوت جالسة و قالت:
_ لكنك سمحت لفيليز بأن تخبر الشرطة عن اختفائي..و ها أنت تدخل الشرطة في أمر خاص و ..
قاطعها من جديد:
_ و ماذا فعلت الشرطة؟ لم يرضوا بأن يتدخلوا أولا لأنهم يعرفون بأنك زوجتي و ثانيا لأنه لم تمض ثمان و أربعون ساعة على اختفائك لهذا سعيت الى اغلاق المحضر دون اتهام أحد..و أنا أعلم كيف سآخذ حقي من ذلك النذل الحقير.
تأففت هزان بضيق و أشاحت بوجهها عنه فوقع نظرها على صورة أبيها الموضوعة على المنضدة بجانبها..تنهدت بحرقة و لمعت الدموع في عينيها..جلس ياغيز بدوره و مرر يده على ظهرها بحنان قبل أن يقرب فمه من كتفها و يطبع عليه قبلة رقيقة..تسللت يده الى خصرها و استقرّت عليه بينما دفن وجهه في عنقها و هو يهمس:
_ لا تغضبي..و لا تتضايقي حبيبتي..و حاولي أن تري الأمور بطريقة أخرى..تخيلي لو كنت أنا المخطوف..و لو بقيت غائبا عنك ليومين كاملين دون أن تعرفي عني شيئا..و عندما عثرت علي رأيتني و أنا غارق في دمي جراء الضرب و العنف..فماذا كنت ستفعلين عندئذ؟ هل كنت ستسامحين ياسين الذي خطفني؟ هل كنت ستتساهلين معه؟ قولي.
أجابت:
_ معك حق..أظن بأنني كنت لأحطم وجهه..لكن..أن أقتله..لا أعتقد..انها ثقيلة علي أن أسلب حياة انسان بهذه البساطة..لقد تربيت على يد رجل يقدّس القانون و يلتزم به و لطالما دافع عن المظلوم و نصره دون أن يلتجئ الى العنف أو القتل إلا إذا اضطر..هذا الفرق بيننا أنا و أنت..مازلت لا أستوعب شكل حياتكم هناك و لا طريقة تفكيركم..و المصيبة أن كباركم يورثون فكرهم المتزمّت و الرجعي لأطفالهم الذين يمسكون السلاح قبل القلم..أحاول أن أتفهم و أن أتنازل لكن هذا الشيء أصعب من قدرتي على الاستيعاب أو التغاضي..يرتعد قلبي بين أضلعي خوفا و رعبا كلما فكرت بأن طفلنا أنا و أنت مستقبلا سيتربى في هذه البيئة الخطرة..لا أريد لإبننا أن يحمل سلاحا و لا أن يقتل ببرودة دم..أريده أن يتعلم و أن يتثقف و أن يكون رجلا يحترم القانون و يخضع لسلطته بفكر متفتّح و تقدّميّ..و أنت؟ ألا تفكّر مثلي؟ هل ترضى أن يتربى ابنك كما تربيت أنت؟ هل تقبل له أن يجد نفسه في تلك البيئة المؤذية؟
ابتعد ياغيز عنها و غادر السرير و هو يجيب:
_ و أنا أيضا أريد له حياة رائعة بكل المقاييس..أريده أن يكون الأفضل..لكن..لا تنسي بأنه سيكون آغا هو الآخر..و سيرث هذا اللقب و هذه المكانة بكل ثقلها و مسؤولياتها..ليس سهلا أن أفرض على كبار المنطقة أن يغيروا نمط حياة عاشوها لمئات السنين لكي أضمن لإبني حياة آمنة دون مخاطر.
قطبت هزان جبينها و قالت:
_ اللعنة على هذا..كلما ظننت بأننا وصلنا الى برّ الأمان في هذه العلاقة إلاّ و اكتشفت بأنني مخطئة..و هذه المرة لست خائفة على نفسي..أنا خائفة على روح بريئة ستأتي ذات يوم لتجد نفسها مقيّدة بقوانين ظالمة و خارجة عن المألوف.
التفت نحوها و سألها بصوت مرتعش:
_ لماذا أشتمّ رائحة الندم في كلامك؟ هزان..ان كنت نادمة على زواجك مني و على حبّك لي فهذه مصيبة لا أقوى على تحمّلها..لست أنا من يُبقي معه إمرأة تشعر بالندم لأنها أصبحت له..قلتها لك سابقا..أنا أحاول جاهدا بأن أغيّر ما أقوى على تغييره..لكن..لا تحمّليني ما لا أطيق..و لا تطالبيني بأشياء تفوق قدرتي.
غادرت السرير بدورها و اقتربت منه..وضعت يدها على وجهه و همست:
_ ياغيز..لست نادمة..أرجوك حبيبي..لا تُؤوّل كلامي بطريقة خاطئة..ظروف الحياة المفروضة علينا هي ما يخيفني..أريد أن أكون أُمّا لطفلك..أريد ذلك من كل قلبي..لكن..أن أنجب طفلا سيصبح يوما تاجر سلاح و يعيش وفق قوانين تفرض عليه هو ما أعجز على المجازفة به..قد أتهاون في ذلك مع نفسي..لكن مع ابني..فهذا مستحيل..لماذا لا تحاول أن تجعل المنطقة بأكملها منطقة منزوعة السلاح؟
حملق فيها ياغيز لوهلة قبل أن يبعد يدها عن وجهه و هو يقول بنبرة استنكار واضحة:
_ هزان..هل تسمعين الكلام الذي تقولينه؟ أحقّا تصدّقين بأن ما قلته قابل للتنفيذ في منطقة كوان؟ هل تريدين أن تجعلي مني أضحوكة للجميع؟ نحن تجار سلاح منذ مئات السنين..و لست فخورا بذلك..لكن هذا هو واقعنا..و هذا ما نحن عليه..لا تتوقعي مني بأن أغيّر ما لا يتغيّر و لن يتغيّر أبدا..أرجوك.
ثم مشى نحو الباب و أضاف:
_ لقد تأخر الوقت و يجب أن تنامي..سأدعك ترتاحين.
همّت هزان بالكلام لكنه كان قد خرج و أغلق الباب خلفه..ارتمت على السرير و بقيت تنظر الى صورة والدها و الدموع تنهمر غزيرة من عينيها..لقد رمت مخاوفها كلّها دفعة واحدة في وجه ياغيز..و هذا أراحها من جهة و أتعبها من جهة أخرى..انها ترتعب فعلا من فكرة انجاب طفل في وان و هي تعي يقينا بأنه لن يكون سوى تاجر سلاح مستقبلي و وريث للقب الآغا بكل تعقيداته و مسؤولياته و مصاعبه..و هي لا تريد حياة كهذه لطفلها..تحبّ ياغيز..نعم..من كل قلبها..و قدمت تنازلات كثيرة لكي تبقى معه..و ليست نادمة على ذلك..لكن هذا لا ينفي بأنها يجب أن تفكر بعقلها عندما يتعلّق الأمر بإبنها الذي قد يأتي في أي وقت..و هذا أبوها أمامها ينظر اليها و كأنه يقول لها هذا ما حاولت أن أحميك منه منذ أن كنت طفلة صغيرة..حاولت أن أبعدك عن تلك البيئة المسمومة التي ما ان تتورطي فيها حتى تجدين نفسك مقيّدة بسلاسل يصعب انتزاعها و لا التحرر منها..لكنك عاندتني و خالفت رغبتي الأخيرة..و وقعت في الحب ظنّا منك بأن الحب سيكون كافيا لكي يحميك من كل تلك القيود المرهقة..لكن الحقيقة الثابتة هي أن الحب لا يكفي أحيانا لكي يضمن لنا الحياة التي نريدها و التي نتمناها..طأطأت هزان رأسها و هربت بعيونها من عيون والدها التي لامست أعماقها و التي هزمتها بالحقائق التي كانت تحاول أن تهرب من مواجهتها و من الاعتراف بها من الأساس..نعم..لقد أعماها الحب..و جعل رؤيتها ضبابية..و حملها الى الغيوم بسحره الرائع..عاشت أياما و لحظات لا تنسى..هذا أكيد..لكن..حان الوقت لكي تواجه مخاوفها الكبرى و التي يصعب أن تتخطاها مع الواقع المخيف المفروض في وان.

الآغاOù les histoires vivent. Découvrez maintenant