جن جنون هزان و صاحت به:
_ ماذا تريد منّي يا هذا؟ أليس لديك ما تفعله؟ لماذا تصرّ على ملاحقتي؟ كن واثقا بأنني لن أبقى هنا حتى لو قيّدتني..سأهرب و سأعود من حيث أتيت..أو سأموت و أنا أحاول.
ثم فتحت باب السيارة و نزلت مسرعة و انطلقت تركض دون أن تلتفت وراءها و كأن شياطين الجحيم تجري خلفها..سمعت فجأة صوتا أجبرها على التوقف..انه صوت رصاصة انطلقت في الهواء..شحب وجهها و اختلجت أطرافها و لم تعد قادرة على التحرّك..سيطر عليها الخوف رغما عنها..ليس جُبنا منها..و لكنها تواجه الرصاص لأول مرّة في حياتها..و هو يُصوّب تجاهها هذه المرة..التفتت فوجدته يقف قبالتها..استجمعت كل شجاعتها و راحت تضرب صدره بكلتا يديها و هي تردد بصوت مرتعش:
_ اللعنة عليك..ماذا تريد مني؟ لقد جعلتني أندم على اللحظة التي وضعت فيها قدمي في هذا المكان اللعين..أنا لست جاسوسة لأحد..و لا علاقة لي لا بك و لا بعائلتك..و لا أريد أن أؤذي أحدا و لا أن يؤذيني أحد..ابتعد عني و دعني أذهب في حال سبيلي.
أمسك ياغيز بكلتا يديها يبعدهما عنه و رد ببرود:
_ لن تذهبي الى أي مكان..تعلمي أن تطيعي الأوامر..أنا الآغا هنا و الكل يأتمر بأوامري..لا تجبريني على قتلك..كما رأيت..الأمر لا يحتاج سوى لرصاصة واحدة..اهدئي و أخرجي فكرة الهرب من رأسك لأنك لن تنجحي في ذلك أبدا.
أجابت بعصبية:
_ اذهب الى الجحيم..أنا لست رجلا من رجالك لكي أطيع أوامرك..لماذا لا تريد أن تفهم؟ لدي حياة تنتظرني في اسطنبول..لدي عمل و منزل و أصدقاء..و لا شيء يربطني بهذا المكان..لا شيء على الإطلاق.
سألها بهدوءه المعتاد:
_ حتى أمك و أختك؟
نظرت اليه لوهلة قبل أن تحملق فيه و تقول بإستغراب:
_ لماذا أشم في كلامك رائحة تهديد؟ أنت لن تتجرأ على إيذاء أمي و أختي لكي تبقيني هنا..أليس كذلك؟ لن تصل بك النذالة الى هذا المستوى..أليس كذلك؟
هز كتفيه بلا مبالاة قبل أن يجيب:
_ أنا أعرف جيدا كيف أروّض من يعصي أوامري..و أنصحك بألا تختبريني..أختك تدرس في جامعة عائلتي عن طريق منحة تتكفل بها عائلتي أيضا..و المسكينة لم يبق أمام تخرجها سوى بضعة أشهر..و أمك تخيط الثياب لأهل المنطقة و من السهل علي أن أجعلهم يقاطعونها و أنا بدوري لن أعطيها المنحة الشهرية التي..
رفعت هزان يدها لكي تصفعه لكنه أمسك معصمها و جذبها نحوه بشيء من العنف و هو يغمغم من بين أسنانه:
_ إياك أن تتجرئي على رفع يدك في وجهي مرة أخرى و إلا سأتصرف معك بالطريقة المناسبة.
كانت أنفاسها متسارعة من شدة الغضب و عيونها تكاد تغادر محاجرها و هي تحملق فيه و تتمنى لو تخنقه بكلتا يديها فتقتله و تتخلص منه..أما هو فكان يتأمل تقاطيع وجهها مستمتعا باقترابه منها الى ذلك الحدّ..انتزعت هي يدها منه بعد أن أوشك أن يحطم معصمها بين أصابعه و سألت بصوت مخنوق:
_ لماذا تفعل هذا؟ ماذا تريد منّي؟ ان كنت ستقتلني فإفعل ذلك الآن لأنني لن أخضع لك و لن أطيع أوامرك أبدا..لدي حياة تنتظرني هناك..ليس من حقك أن تحرمني منها.
أخذ ياغيز مسدّسه و وضعه على جبينها و هو يجيب:
_ حسنا..سيكون لك ما أردت..أنا لن أسمح لك بالذهاب من هنا بعدما رأيته و عرفته..و أنا واثق تماما بأنك ستخبرين الجميع بذلك..لأنك صحفية و تبحثين عن السبق الصحفي..و المنطقة هنا عبارة عن صفحة سوداء بالنسبة للناس هناك..و سيكون مغريا لهم بأن يعرفوا عن أسلوب حياتنا هنا..و بأن يسمعوا شهادة حيّة من شخص زار هذا المكان و رأى ما رأى..و هذا سيؤذي عائلتي..و أنا لن أسمح بذلك..لهذا..يؤسفني بأن أنهي حياتك في هذه اللحظة.
شعرت هزان ببرودة فوّهة المسدس التي لامست بشرتها..تسارعت خفقات قلبها و أيقنت بأن النهاية قد حانت..لن تتوسل اليه..و لن تستعطفه لكي يبقيها على قيد الحياة..ان كان سيقتلها فليفعل..و لتدفع هي ثمن فضولها الذي جاء بها الى هنا و قضى عليها..
رمقها ياغيز بنظرة اعجاب لم ينجح في اخفاءها..هذه الفتاة أشجع من بعض الرجال الذين بكوا بحرقة و توسلوا اليه و كادوا يقبلون قدميه لكي لا يقتلهم..حتى و ان أنكرت ذلك..ففي عروقها تجري دماء أهل هذا المكان..لقد ورثت منهم الشجاعة و الثبات و الإصرار و العناد..شامخة هي حتى في اللحظة التي لم يعد يفصلها فيها عن الموت سوى نفس واحد..لم تبك..لم تقل حرفا واحدا..لم تتوسل..لم تتذلل..انها هي..المرأة التي كان يبحث عنها طوال السنوات التي مضت..المرأة التي كان يحلم بلقاءها..المرأة التي تناسبه و التي تليق به..انها هي المرأة التي ستكون زوجة مناسبة له.
خاطبها قائلا:
_ هناك دائما حلّ بديل يا آنسة..لقد أشفقت على شبابك و تراجعت عن قتلك..شريطة أن تقبلي بالعرض الذي سأقدمه لك.
فتحت عيونها و نظرت اليه ثم سألت:
_ و ما هو هذا العرض؟
ابتسم و أجاب:
_ أن تكوني زوجة لي.
صمتت هزان قليلا ثم انفجرت ضاحكة بصوت عالي..راقبها هو في صمت..أما هي فانخرطت في وصلة ضحك هستيري قبل أن تقول:
_ لقد جعلتني أضحك كما لم أفعل منذ وقت طويل..هذا عرض لا يُردّ بصراحة..كم أنا محظوظة به.
ثم تجهم وجهها و عبست اساريرها و سألته بغضب:
_ هل تسخر مني يا هذا؟ هل ظننت بأنني سأطير من الفرح عندما تقدم لي عرضك السخيف هذا؟ هل أنا مجنونة لكي أقبل بالزواج منك؟ من تظن نفسك يا هذا؟ لم أر في حياتي اوقح منك..الموت أهون علي من قبول عرضك هذا.
هز كتفه بلا مبالاة و علق بسخرية:
_ أنت الخاسرة..إما ان تقبلي بعرضي أو سأحول حياتك الى جحيم لا خلاص لك منه..سأضيق الأرض عليك..سأطبق على أنفاسك و ستتمنين الموت كل يوم..لكنني لن أقتلك..و لن أريحك من عذابك..و كوني واثقة بأنني لن أرحمك أبدا..لا أنت و لا عائلتك..و الخيار لك.
كانت تريد أن تضربه بقوة..أن تصفعه..أن تخنقه..أن تقتله و ترتاح منه..لكنها ليست مجرمة مثله..فكرت في حيلة تجعله ينفر منها و يلغي فكرة زواجه منها بصورة نهائية..نطقت بأول شيء خطر على بالها عندما قالت:
_ لا أستطيع الزواج منك..لأنني مرتبطة بشخص آخر..و أنا أحبّه كثيرا..و طبعا أنت لن ترضى ذلك على نفسك..لن ترضى بأن تتزوج امرأة قلبها مع رجل غيرك..أليس كذلك؟
رمقها ياغيز بنظرات غريبة ثم أجاب:
_ جِدِي حيلة أخرى تخدعينني بها..تحاولين أن تتذاكي علي لكن هذا لا ينفع معي.
قالت بإصرار:
_ أقسم لك بأنني صادقة..أنا أحب شابّا إسمه أصلان..و هو يحبّني..و بيننا علاقة أيضا..هل فهمت ما أعنيه؟ أنا و هو أقمنا علاقة معا..و قد أكون حاملا منه.
وقف ياغيز في مكانه يسمع كلامها و احساس ينتابه بأنها تكذب لكي تتخلص منه..أما هي فشعرت بأنها أثّرت عليه و توشك أن تتمكن منه..أخذت تتنفس بسرعة و تظاهرت بأنها قد أغمي عليها..اقترب منها هو و حملها بين ذراعيه ثم أمر أردام بأن يجهز لها غرفة في الجناح الجنوبي للقصر و أدخلها اليها..وضعها على السرير و مرر يده على وجهها ثم انحنى و قرب وجهه منها قبل أن يهمس بصوت خافت:
_ هزان..هزان..افتحي عيونك.
سأله أردام الواقف بالباب:
_ سيدي..هل أستدعي الطبيب؟
أجابه:
_ نعم..و احرص على ألا ينتبه أحد من سكان القصر لما يجري هنا.
أومئ أردام برأسه ثم اختفى.
جلس ياغيز على حافة السرير و بقي ينظر الى هزان و يتأملها في صمت..كان أقرب الى تصديق كلامها لأنه بالنهاية لا يعرف عنها شيئا و لا عن حياتها الخاصة و قد يكون ما تقوله صحيحا رغم أنه كان يتمنى عكس ذلك من كل أعماقه..سيطر الخوف على هزان خاصة بعد أن سمعت بأن الطبيب قد يحضر في أية لحظة و قد يكشف الكذبة التي لفقتها..استغلت انشغاله بالبحث عن زجاجة عطر في جارور المنضدة القريبة من السرير و فتحت عيونها..رأت مزهرية زجاجية بالقرب منها..أمسكتها و دون أن تتردد للحظة واحدة..ضربته بها على رأسه و غادرت السرير ثم الغرفة بأقصى سرعة ممكنة.
كانت الضربة مباغتة لياغيز..آلمته و أشعرته بالدوار..وضع يده على رأسه فتخضّبت بالدماء الغزيرة التي سالت من جرحه العميق..نادى بصوت عالٍ:
_ أردام..أردام..تعالى الى هنا.
دخل أردام و صعقه مارآه..اقترب من سيده و هو يقول:
_ هل تلك العاهرة هي من فعلت بك هذا؟ أقسم بأنني سأقتلها بيدي هاتين.
رفع ياغيز عيونه نحوه و رد:
_ أردام..جدها..لا تسمح لها بأن تهرب..و اياك أن تؤذيها..هل هذا واضح؟
صمت أردام و لم يجبه فصاح به من جديد:
_ هل هذا واضح؟
طأطأ أردام رأسه و تمتم:
_ أمرك سيدي.
وصل الطبيب و اهتم بجرح ياغيز أما أردام فأخذ معه رجلين يثق بهما و انطلقوا يبحثون عن هزان..
كانت هي قد خرجت من الباب الخلفي فوجدت نفسها وسط غابة كثيفة الأشجار..لم تكن تعرف المكان..كانت كالتائهة لا تدري الى أين هي ذاهبة..لكنها لم تتوقف عن الركض بكل سرعتها و هي تمنّي النفس بأن تجد سيارة او شخصا يصطحبها الى المطار و يخلصها من هذه الورطة التي أوقعت نفسها فيها..
في منزل عائلة شامكران..كانت فضيلة قد استيقظت على صوت آذان الفجر لكي تصلّي..فتحت باب غرفة هزان لكي تطمئن عليها و تقبّلها و تعوض حرمان السنوات الفارطة لكنها لم تجدها..ذهبت الى غرفة ايجه التي كانت تغط في نوم عميق آملة أن تجدهمت نائمتين معا لكن هزان لم تكن هناك أيضا..بحثت عن ثيابها و عن حقيبتها..و عندما لم تجدهما فهمت بأنها غادرت دون أن تودعهما حتى..جلست على الأريكة و أخذت تبكي في صمت..شعرت بها إيجه فنهضت من سريرها و اقتربت منها..جلست بجانبها و وضعت يدها على كتفها ثم سألت:
_ مالأمر أمّاه؟ لماذا تبكين؟
مسحت فضيلة دموعها و أجابت:
_ هزان..لقد سافرت و عادت من حيث أتت..دون أن تقول كلمة واحدة..دون أن تودعنا حتى.
قطبت إيجه جبينها و قالت:
_ ماذا تقولين يا أمي؟ كيف تفعل هذا؟ و لماذا لم تقل شيئا؟ هل تفقدت أشياءها؟
ردت فضيلة:
_ أخذت أشياءها و غادرت..ظننت بأنني سأجد الوقت الكافي لكي أتحدث معها و لكي أذهب حسرة السنين..لكنني كنت مخطئة..هزان لا تكن لي أية عاطفة..و لا تعتبرني جزءا من عائلتها..و لا ألومها على ذلك..أنا لم أكن لها أُمّا..و هي لن تكون لي ابنة..أبدا.
عانقتها إيجه و هي تقول:
_ لا تقسي على نفسك هكذا..هزان عنيدة و يلزمها بعض الوقت لكي تتفهم ما حدث..أعتقد بأنها ستعود قريبا الى هنا و ستجلس معك لكي تعرف ظروفك..أنا واثقة من ذلك..فرغم قوّتها التي تتظاهر بها إلا أن لديها قلبا كبيرا و عاطفة جياشة ستجعلها تسامحك يوما.
تنهدت فضيلة بحرقة و همست:
_ ان شاء الله..أتمنى ذلك من كل قلبي.
طبعت ايجه قبلة على جبين أمها ثم عادت و اندست في فراشها..فكرت أن تتصل بأختها لكي تعاتبها و تلومها على سفرها المفاجئ لكنها عدلت عن ذلك.
VOUS LISEZ
الآغا
Romanceعندما تجد نفسك في مكان لا يشبهك و لا تنتمي إليه فماذا عليك أن تفعل؟ ستجيبون و ببساطة..ستهرب..لكن الأمر ليس بهذه السهولة..فقد يلعب القدر لعبته و تجتمع كل الظروف ضدك لكي تبقيك في مكانك ذاك..و تضطر الى التعايش مع الوضع و قد تتعلم كيف تتقبل كل سيئاته قب...