٢٠..بين الحب و الحنين

729 44 15
                                    

في اسطنبول..ترجّلت هزان من سيارة التاكسي التي استقلّتها من المطار الى منزلها الذي ورثته عن أبيها و الذي تقيم فيه فيليز كمستأجرة..رفعت هزان عيونها نحو السماء و تأملت السماء الغائمة التي تنذر بيوم ممطر و بارد..سحبت نفسا عميقا من الهواء النديّ الذي لامس وجهها ثم راحت تجول بنظرها في المكان..لقد اشتاقت لكل شيء هنا..اشتاقت للشوارع..للجيران..للاكتظاظ..للأصدقاء..للعمل..للذكريات العديدة التي يخبأها عقلها عميقا بين ثناياه..وقفت أمام البوابة الحديدية و فتحتها ثم مشت في الممر الحجري الذي حرص أبوها المرحوم أن يضع على جانبيه أصص الورود الملونة و هي عادة حرصت على اتباعها بعد وفاته..و هاهي فيليز تستمر هي الأخرى في فعل ذلك..أغمضت هزان عيونها و تذكرت أباها و هو يستمتع بملامسة التراب بيديه العاريتين و بزرع النباتات المختلفة و هو يغني بصوته الرقيق الذي كانت تعشق سماعه..أو صوت ضحكاته التي تملأ المنزل كلما شاهد فيلما من أفلامه الكوميدية المفضّلة..او تلك اللمعة الجميلة التي كانت تلمحها في عيونه كلما أتى ذكر أمّها في كلامه..وضعت حقيبتها أمام الباب ثم اتجهت مباشرة الى المقبرة..سترت شعرها بالوشاح الذي كانت تضعه على رقبتها و وقفت أمام قبر والدها..قرأت له سورة الفاتحة و رشت القبر بالماء ثم غمغمت بصوت مخنوق:
_ لقد اشتقت اليك كثيرا يا أبي..أفتقدك و أفتقد وجودك في حياتي..أعلم أنني خالفت وصيّتك و أغضبتك في قبرك عندما ذهبت الى وان و بقيت هناك..لكن..أتمنى أن تتفهمني..لقد وقعت في الحب..و الحب هو ما ربطني بتلك الأرض..روحك الطاهرة تحوم حول المنزل و ذكرياتي معك تعيش في ذهني و أراها في كل زاوية..سامحني حبيبي..و اغفر لي..أنت تعلم أنني أحبك أكثر من نفسي..و كنت أتمنى ألا أخالف وصيتك الأخيرة..لكنني سعيدة جدا مع ياغيز..و هو يحبني و يراعيني و يعاملني بطريقة رائعة..و علاقتي مع أمي و أختي صارت أفضل و أقوى و صرنا عائلة جميلة لا ينقصنا سوى وجودك معنا..أحبك أبي..و أحب كل ذكرياتنا..مكانك محفوظ في قلبي و في روحي..و أعلم أنك ستكون سعيدا لسعادتي..نم بسلام و اطمئن..ابنتاك بخير..و حبيبتك فضيلة بخير أيضا..انها تشتاق اليك كثيرا..و تسلّم عليك..و الخيار الذي اتخذته في حياتها لا يعني بأنها توقفت عن حبّك أبدا..و أنت تعلم ذلك جيدا..لقد عاش كلاكما منفصلين دون أن يتوقف أحدكما عن حب الثاني..و هذا ما جعل علاقتكما خاصة جدا و لا تشبه غيرها..أما أنا فأريد أن أكون مع الرجل الذي اختاره قلبي و أن أعيش معه الحياة بكل اختباراتها القاسية قبل السهلة..أريد أن أكون له زوجة و رفيقة و صديقة و حبيبة و كل ما ينقصه في حياته..لقد اكتملت معه..نعم..و تمكنت من ايجاد الجزء الناقص لدي بوجودي له..أنا الآن امرأة كاملة لأنني أحب ياغيز و أعيش معه و أشاركه حياته بكل تفاصيلها..لا أحد آخر غيرك سيفهمني عندما أقول هذا الكلام..لأنني كنت شاهدة على حياتك الناقصة دون وجود أمي معك..ذلك الحزن الذي كنت أراه في عيونك كلما ذكرتها..ذلك الأسى..ذلك الحنين..و ذلك الشوق الذي لا ينتهي..كنت أشعر بأن ضحكك أيضا ناقص من دونها..و أنا لا أريد أن أكون مثلك في هذا الجانب..أريد لحبّي أن يكون كاملا..فأرجوك يا أبي..باركني..و لا تغضب مني..لطالما كنت ابنتك التي تفخر بها..و أتمنى أن أبقى كذلك دائما.
ثم وضعت يدها على تراب القبر قبل أن تأخذ منه حفنة تقربها من أنفها ثم تقبّلها و تعيدها الى مكانها و قد غرقت عيونها بالدموع السخية ثم غادرت المقبرة و عادت الى المنزل..

الآغاOù les histoires vivent. Découvrez maintenant