غدا لن تمطر .....
حقوق الطبع محفوظة للناشر ❌️
الفصل الأول
رحلت ...
دون أن تفكر في عواقب قرارها هذا ، فلا مزيد من الوقت ليضيع في التفكير.
هربت ...
مثقلة بحقائب الألم في قلبها وشروخ الماضي في روحها .
تركت من خلفها قلوبا معلقه .. وعيونا دامعة .
الماضي والذكريات الحزينة أبت أن تتركها وحيدة فالتصقت بها .
لم تكن تتخيل أن يكون السفر هو وسيلتها يوما للفرار من الحبل الذي يضغط يوميا على رقبتها.
شخصيتها الحساسة الكتومة لم تكن لتحتمل آلاما جديده او متاهات مستقبليه .
تخشى المشاكل .. تمقتها وتهرب منها كلما ظهرت على الساحة ، لكن المشاكل لم تتركها قط ، أبت ألا تنعم بحياتها .
وبقي أمامها حلان لا ثالث لهما إما البقاء والمواجهة .. أو الهروب ، وكان الهروب هو الأسلم والآمن مستقبلا .
" النداء الاخير للطائرة رقم ٢٧ المتجهة إلي دوله الامارات مطار دبي الدولي ، على الساده المسافرين التوجه إلى الطائرة ".
انطلقت الكلمات في ارجاء صاله الركاب لتنتزع " نهله " من أفكارها ، فجذبت حقيبة يدها وابنتها الصغيره واتجهت صوب الطائرة .
هربت من مجتمع ذكوري لا يرحم المطلقة ولا الأرملة ولا كل من تحمل تاءا مربوطة دون وجود كفيل لها الذي ظله افضل من ظل الحائط .
هربت منهم جميعا وتركت شخصيتها القديمة هناك ، اصطحبت معها ابنتها فقط ..
قررت أن تسافر بأحلام جديده ، ستعمل وتحقق ذاتها وتخلق كيانا منفردا عوضا عن ذلك الذي دفنه الآخرون .
لن تحتاج لكفيل بعد الان .
ستبدأ بنفسها وبصفحه بيضاء مع الزمن .
********
خرجت من المطار لتجد" ندى" صديقتها المقربة في انتظارها بجوار سيارة رياضيه صغيره ، ما أن رأتها قادمه حتى أسرعت إليها تحتضنها بشده ، رحبت بها وبطفلتها متمنيه لهما التوفيق في البلد الجديد .
ظلت" نهله" طوال الطريق تفكر هل كان من مصلحه ابنتها أن تسافر بها بعيدا ، هل كان هروبها يستحق ؟.
هل وضعتها في حساباتها حينما اتخذت القرار وحينما نفذته ؟.
أدارت الصغيره رأسها إليها وكأنها قد سمعت سؤالها وقالت في براءة :
" المكان حلو اوي هنا يا ماما ، احنا هنفضل هنا على طول ".
ابتسمت لعفويه طفلتها وأحست أن ردها قد جاء في ميعاده ، ف" دانا " سريعة التأقلم وهذا شيء جيد .
لم تدر" نهله" هل ستظل هنا للأبد فعلا أو قد يحكم عليها القدر بمواصلة الهروب ؟.
أحست بأنها تسرعت في قرارها بالسفر بعد طلاقها، على الرغم من مرور فتره ليست بالقصيرة إلا أن الخبر قد فاجأ الجميع ، كيف ومتي ولمن ؟ .
لقد أرسلت لها ندى عقد عمل كسكرتيره خاصه في إحدى الشركات الكبرى في مجال المقاولات والتشييد بعد أن وضعت نهلة سيرتها الذاتية في مكاتب سفريات أخرى كثيره وراسلت شركات كبرى دون أن تلقى جوابا بالرفض أو القبول .
كانت تريد الفرار وأتتها الفرصة ، فهل ترفضها ؟.
فتاه بسيطة كانت تحلم ببيت هادئ تتجنب فيه كل أسباب الفشل والإحباط التي مرت بها في بيت أبيها .
ولكن للأسف لا تأت الرياح بما تشتهي السفن !
توقفت السيارة بهن أمام بيت بسيط يتكون من طابق واحد وحوله حديقة صغيره يحيط بها سور متوسط الارتفاع ، كان هذا البيت الجميل هو بيت صديقتها الحميمة التي أصرت أن تعيش معها وتقف بجانبها .
ندى ....
سافرت ندى بعد تخرجها من الجامعة مباشرة إلى دبي ، ثم عادت لتسوي بعض مشاكل الإرث الخاصة بها بعد وفاة أبيها ومكثت في الإسكندرية سنه كامله لم ترى خلالها " نهله " بسبب زوجها الذي حجبها عن الجميع ثم عادت مره أخرى إلى دبي واستطاعت تكوين شركتها الخاصة الصغيره مع شريك أخر لها .
ورغم ما مرت به نهله في حياتها إلا أنها لم تشك لأحد قط حتى ندى أعز صديقاتها.
اختزنت همها داخلها ، لم يدر بحالها سوى الله ، لم يرى دموعها أحد سوى وسادتها ليلا .
لم ترتح في حياتها من المشاكل قط لا قبل زواجها ولا أثناءه ولا بعده .
والسبب في جميع مشاكلها هو ............ الرجال .
قالتها في ألم ، هم السبب في أوجاعها .
هم من يخلقون عالم النساء ويتحكمون في قواعده طبقا لشرائعهم.
هم من يحطمون القوارير..
رغم أنه لم تعد هناك قوارير ، فلا الرجال بقوا رجالا ولا النساء ظللن قوارير .... كل منهما أخذ دور الأخر !.
زفرت نهلة بقوه ومسحت وجهها بيدها في محاولة للهدوء ....
كل ما يهمها الأن هو مستقبلها الجديد ، فقد هربت من تطفلهم على حياتها ، ووعدت قلبها المكلوم أن تنأى به ولو قليلا عن دروب الحزن والشقاء ، ستقيده لو لزم الأمر فلا مجال للحب وقصصه فلا الحب أفادها ولا الزواج .
انتزعتها ندى من أفكارها وذكرياتها قائلة :
" ربع ساعة ويكون الأكل جاهز يا نهلة ، على فكرة أنتى ليكي أوضة خاصة فيها مكتب ولاب توب وتلفزيون صغير و دانا ليها أوضتها الجميلة اللي مليانة لعب "
ألقت جملتها الأخيرة في مرح وهى تغمز بعينها ل" دانا " التي بدت السعادة على وجهها .
كان شعور الامتنان طاغيا على وجه نهلة وعيناها تنطقان بذلك ، دلفت الى داخل المطبخ لتساعد صديقتها في إعداد الطعام ، وضعت ندى يدها على كتفها قائلة في اهتمام وجديه :
( نهله ، حاولي تنسي اللي فات وتهتمي بمستقبلك أنتي ودانا وبس ، أنا عارفه الظروف اللي مريتي بيها أد إيه كانت قاسيه وصعبه عليكي بس لازم ترمي الماضي ده ورا ضهرك وتستغلي الفرصة اللي ربنا بعتهالك) .
اومأت نهله برأسها متفهمه فهي بالفعل اتخذت قرارها بأن تفكر في نفسها وابنتها فقط ، وبرغم ألمها لتركها أحبة لها في مصر إلا أن بقاءها هناك لم يكن ليفيد أيا منهم على الإطلاق .
*****
استيقظت نهلة مبكرا ، أعدت فطورا لها ولندى وللصغيرة دانا التي على وشك استقبال أول أيامها الدراسية ، والفضل في ذلك يرجع لندى التي قدمت أوراقها لتلتحق بمدرسه قريبه من البيت حتى تستطيع نهله العمل في اطمئنان .
أوصلتها ندى بسيارتها للشركة داعمه إياها ببعض كلمات التشجيع والتحفيز لتستعيد قوتها وترتب أفكارها فيما تحاول السيطرة على خفقات قلبها المتزايدة.
دلفت إلى الشركة ومرت من مدخلها الفندقي المبهر ، أحست بضآلة حجمها مقارنة بحجم المبنى الضخم ، ذكرها بالمول التجاري الذي كانت تعمل فيه يوما ما وكان بداية تعاستها الحقيقية.
هزت رأسها تطرد الأفكار اللعينة من المرور مجددا .
تنحنحت أمام الموظف الجالس في مكتب الاستقبال قائلة :
" صباح الخير، أنا موظفه جديده في قسم السكرتارية ، نهلة زاهد المنصوري ، وعندي مقابله مع نواف بك ".
" صباح النور يا فندم ، استريحي شوي من فضلك، أبلغ نواف بك " قالها الموظف في ترحاب ثم رفع سماعه الاتصال الداخلي بالشركة .
ابتسم لها قائلا:
" اتفضلي يا فندم نواف بك في انتظارج ، المكتب الرئيسي في أخر الممر".
وصلت نهله للمكتب المعلق عليه لافتة ذهبيه صغيره محفور عليها
" المكتب الرئيسي ب .... أ\ نواف الزيدان ".
طرقت على الباب طرقتين ثم دلفت الى الداخل بعد أن أتاها أذن الدخول ، كان يجلس أمامها رجل وقور في أواخر الخمسينات من عمره ذو لحيه بيضاء تتخللها بعض الشعيرات السوداء الصغيره ، له زوج من الأعين السوداء المريحة ، يرتدي ثوبا أبيض وغترة بنفس اللون وعقالا أسود ، رفع الرجل رأسه وأشار إليها بالجلوس مرحبا :
" أهلا وسهلا يا بنيتي شحوالك ، عساكي بخير وسهاله ، أبا من الله أن ترتاحي للعمل معنا " .
" الحمد لله بخير ، إن شاء الله يا نواف بك "، قالتها في هدوء ومنحت الرجل ابتسامه رقيقه .
" وشحوال صغيرتك ، بخير ؟" سألها في اهتمام .
" الحمد لله بخير ، مبسوطة جدا بوجودها هنا ".
" ندى رفيقتج .. كانت عندنا في ذات القسم ، خلاف نهت وتركتنا للحين ، والله توحشانها وايد ".
" ندى بقى عندها شركتها الخاصة " قالتها نهلة بإبتسامة رقيقة .
" أها ، أعرف يا بنيتي ، الله ييسر له دربه ، ندى بنت مزيونة وايد والكل كانوا يحبونه ".
ثم ارتسمت على ملامحه الجدية وبدأ في شرح العمل لها وأن زينة هي المسئولة عن قسم السكرتارية بأكمله وسكرتيرته الخاصة ، وهي التي ستتولى تدريبها حتى يعود خالد بك من سفره .
شرح لها وضعه في الشركة، فهو المدير العام والمسئول عن مجموعة الشركات القائمة على أرض الإمارات ونائبا لرئيس مجلس الإدارة للمجموعة الأم .
رئيس مجلس الإدارة هو خالد الزيدان وهو الأخ غير الشقيق لنواف فهو من نفس الأب ولكن من أم مصرية، ولد في الإمارات وحاليا يقيم في انجلترا .
أكملت لها زينة كل ما قد تحتاجه من معلومات عن الشركة و أصحابها وفروعها حول العالم كما أصطحبتها في جولة سريعة على باقي الاقسام .
اقتربت الساعة من الرابعة عصرا فبدأ الجميع في النهوض للانصراف ، استقلت نهلة الباص الخاص بالشركة وتعرفت فيه على بعض الفتيات من أهل البلدة ، لم تكن تفهم أغلب الكلام إذ بدت لها اللهجة صعبة خصوصا إذا تكلمن سريعا .
أنهت نهلة صلاتها لتجد دانا الصغيرة في انتظارها ، جرت الصغيرة
نحوها قائلة في سعادة :
" ماما المدرسة حلوة أوى وفيها أنشطة كتير جميلة ، أنا مبسوطة" .
التقطت أنفاسها ثم أكملت :
" وبقى عندي أصحاب كتير ".
ظلت الصغيرة تحكى لأمها عن صديقاتها ، وسعدت نهلة لما تسمعه فراحة أبنتها الوحيدة تبعث لها إيضا بدورها براحة نفسية وتخفف من إحساسها بالذنب تجاهها لغربتها عن أحبائها واقتطاع جزء كبير من وقتها في عملها .
حمدلله أن ندى أنقذتها بتلك المدرسة التي تمتلك أنشطة أخرى على الدوام وترحب باستضافتها إذا ما تأخرت كلاهما عن العودة .
***
بدأت في إخراج مشاعرها المكتومة وذكرياتها في العمل رغم هجومها العنيف عليها احيانا ، خاصة إذا كانت تعاني من فراغ في الوقت ، لكنها بذلت اقصى جهدها وتركيزها في وظيفتها مما دفع زينة للإشادة بها أمام نواف الذى أسعده تقدمها في التدريب الذى وضعها تحته لحين عودة خالد من سفره .
أظهرت تقدما ملحوظا خلال هذه الفترة ، ومع نهايتها أحست بالتوتر، فمديح نواف لها لا يعنى أن الأمور على ما يرام... فهي تستعد دائما للأسوأ حتى لا تفاجأ بما لا تشتهي ...
وكم تفاجأت بما لم تشتهِ ؟.!
رن الجرس الداخلي للسكرتارية .. إنه نواف يطلب منها القدوم، دلفت إلى مكتبه بعد الاستئذان ، أشار الرجل إليها بالجلوس ، لكنه بدا منشغلا بمكالمة على هاتفه المحمول ، علا صوته قليلا :
" شوف يا خالد هيد شوى ، شوبلاك .... أنزين ، تروم تسافر الغد ، عيزان والله عيزان .. تبي وكعة معي ... أها ، يعلك العافية خالد " .
لم تكن من عادتها استراق السمع ولكن صوته كان عاليا ، وعلى العموم لم تفهم شيئا من كلامه سوى خالد، ضحكت في نفسها ، لم تعتد اللهجة الإماراتية بعد ومازالت تتكلم بلهجتها الإسكندرانية البحتة مما يدفع زميلاتها أحيانا للضحك منها عندما تتقمص شخصية السائح الغريب فهي لا تفهمهن وهن أيضا لا يفهمن بعض مصطلحاتها .
أنهى الرجل مكالمته وبدأ في الحديث معها حول عملها وكيف أنها أصبحت جديرة به بعد ما تخطت التدريب وأشادت زينة بجهدها ، وأضاف إليها بعض الملاحظات والنصائح ، بدت سعيدة لكلامه ووضعت ملاحظاته في الاعتبار وشكرت له سعة صدره وخلقه جوا لهم يساعدهم على العمل دون ضغوط .
ابتسم الرجل لجملتها الأخيرة ثم قال محذرا في لهجة مرحة :
( لها لحين مافى ضغوط هيد شوى، باجر يجي خالد ، خلاف تلجى الضغوط تسيل عليك ).
صمتت قليلا لم تفهم شيئا غير أن بقدوم خالد هنالك ارتباطا بالضغوط ، أحس الرجل بعدم قدرتها على استيعاب بعض الكلمات فقال مبتسما :
" أبا أحاكيكى مصري من الحين ".
ألتقط نفسا طويلا ثم أكمل :
( شوفي يا نهلة ، خالد غيرى كتير .. عصبي ولا يتجبل الأخطاء ، الإمبراطورية اللي شايفاها هذي خالد اللي كبرها لوحده بذكائه وعقله ،
هو رجل أعمال منذ صغره ، الشركات هذي كانت عبارة عن شركة واحدة ورثناها من أبينا وفى خلال عشر سنوات أصبح ليها كيان وفروع ، ليش كلامي هذا لإنك هتكوني سكرتيرته الخاصة وخالد شخص مو سهل وما يحب يضيع وجته ، هتلجى منه أحيانا وجه أخر ما تحبينه ، بس نجاحك مع خالد يعنى نجاحك مع أي شخص تجابلينه خلاف ، أنا أخوه ووالله لها لحين صاير ما أفهمه أحيانا ) .
أحس منها بالتوتر فهو لم يطمئنها بل زادها حيرة ، فأكمل في ود :
( ما أبا أوترك بس هذي نصايح أتفيدك مستقبلا لتفهمينه ، خالد شخص طيب وايد وصادق وسخى على مرؤوسيه لكن هناك نجاط ما بيجبل التهاون فيها ، وأنا أتوسم فيك يا نهلة الاتزان واللباقة وصار لي وقت واظعك تحت الإختبار أرقب ردودك وتصرفاتك ولها الحين يعجبني الفتاة اللي مثلك ، اللي تفكر بس في عملها وتمهد طريجه ) .
قالها الرجل في احترام لها ، مما أكسبها شيئا من الراحة فعلى الأقل اثنان من رؤسائها راضون عنها ( نواف وزينة ) ، لم يتبق لها سوى إرضاء خالد عن مستواها في العمل حتى تضمن لنفسها أرضية ثابتة في هذه الشركة وهذا البلد وتضمن لها هروبا مستقرا.
غادرت نهلة المكتب وهى تفكر لم يحذرها الجميع من خالد وكأنه التنين المجنح الذى ينفث اللهب من فمه ؟.
فهي لم تعد تهاب الرجال ، بل فقط يعكرون حالتها المزاجية .
الرجال..
جنس " مصطفى أبو حجر " تلك الشخصية التي ظهرت وصفا في فيلم ) حب البنات ( وانتشر إسمه على السوشيال ميديا ليصبح علامة مميزة لجميع صنف الرجال ... الخائنون .
ظهر وصفا فقط ... لربما هذا أفضل ليسع النوع كله ولا يقتصر على واحد منهم .
وجميع من قابلتهم في حياتها كانوا من هذا الصنف ... صنف مصطفى ابو حجر.
******
أكملت نهلة تعليمها بستر الله ، وبفضل أمها المرأة المتعلمة التي عملت في البيوت تنظف وتساعد وهى التي كانت يوما ما ملكة متوجة في بيت أبيها الغنى وعندما مات أرغموها إخوتها الذكور الثلاث على الزواج من زاهد سائقهم الذى لم يكمل الإعدادية وسحبوا كل ثروتها وأعطوا زاهد مكافأته التي ضيعها على شرب الحشيش والسهر مع أصحابه وعندما نفد المال توسل لأخوالها فسفروه ليصنع أموالا أخرى ليضيعها مجددا.
لم تشتكِ أمها قط ، لم تتذمر أو تشكو قدرها كانت راضية مستسلمة وعلى الرغم من أنها كانت تبدو في أعينهن قديسة إلا أن نهلة لم تكن تقبل أن تحيا نفس حياة والدتها ولا أن تكون بسلبيتها واستسلامها لمن آذوها ، فأمها ما زالت تستقبل إخوتها في بيتها في الأعياد عندما يتذكرون أن لهم بنات أخت على وشك الكفاف فيأتون للمن عليهن بما تزود به أنفسهم السخية الكريمة...
يا للسخرية !.
يمنون عليهن من أموالهن !!!.
لم تكن أمها تتكلم ، كانت تطرق برأسها في الأرض تأخذ المال وتشكر عطفهم .
قديسة ربما.... لكن في أرض العهر لا تفيد قدسيتها بشيء .
لذلك هربت نهلة ....
هربت من سجنهم جميعا ، من أغلالهم.. من تحكم أبيها وقسوة أخوالها وسلبية أمها واستسلام أختيها ، هي لم تولد مثلهم لم تعتد أن تطأطئ رأسها ، لم تتقبل قط مالا من أخوالها سواء كان مساعدة أو عيدية أو ملابس تجود بها بناتهم عليهن ، كانت ترفض أخذ ما لمسته إيديهم فرائحتهم الكريهة فيه ، ابتسامتهم الصفراء وغلهم ، أنوفهم المتعالية وجحود قلبهم ...
ورغم كل ذلك لم تكن أمها تقول كلمة سيئة في حقهم، لم تعرف نهلة ما حدث
إلا من أبيها الذى يذمهم ويسبهم في الخفاء ويتسول منهم ويمسح جوخهم في العلن .
لم ترد أن تصبح مثلهم فإما أن تستسلم لقدرها وتحيا تحت وطأة الآخرين أو يبيعها أباها كما باعها من قبل أو تتسول الفتات من أخوالها لتطعم نفسها وابنتها ولربما عملت خادمة عند بناتهم إيضا .
توقفت بذكرياتها عند هذا الحد ، فهي ما زالت تعانى ألما في كرامتها وجرحا في قلبها .
انحدرت منها دمعتان ساخنتان على وجنتيها في شراهة لنكأ جراحها .
وابتسمت الذكريات لنفسها في شماتة فقد وجدت ثغرة لتنفذ منها من جديد .
لم تنسى منظر أمها وهى مستسلمة لا رأى لها ولا قرار !!
انتظرت نهلة منها أن تثور ، تغضب ، ولكن شيئا من هذا لم يحدث ، لقد انكمشت المرأة في مقعدها ولم تنطق وكأن التضحية بنهلة قد تحمى الأخريات .
لابد من التضحية بأي كبش ... وكانت هي هذا الكبش .
سلمتها أمها في هدوء لموتها وبرغم دموعها وانكسارها لكنها لم تستطع الوقوف أمام أبيهن وجبروته .
نهلة ... الصفقة الرابحة .
سيتربح الجميع من ورائها أو هكذا ظنوا ، فالرجل الذى ستتزوج منه ثرى بل فاحش الثراء ، رجل أعمال من الوزن الثقيل ، سكندري يملك من السمعة السيئة ما يملكه من صيت الثروة ، ولكن لا بأس مادام ثريا !.
المال ... هو ما اشتراها به وباركه الجميع ، الرجل كان قادرا على شراء الجميع وضمائرهم إيضا إذا لزم الأمر .
أعدوا السيوف لنحرها فلا مفر .
حتى يوم زفافها كانت كعصفور رقيق يساق إلى موته ، بل الموت أرحم من زواجها بذلك الرجل .
" سعيد " ...
الوسيم ذو الجسد الرياضي الرشيق الذي تحسدها عليه زميلاتها وأطل الحقد من أعينهن وكلماتهن دون خجل، ولكن لم تدر أيهن ما الذي يكمن خلف هذه الوسامة ؟! ، وما الذي تخفيه هيبة سنوات عمره التي تخطت الأربعين ؟.!
نهلة الوحيدة التي تعلم ، نهلة التي بدت بجواره يومها كحورية من حوريات البحر قد أسرها الأشكيف في سجنه .
حتى أصدقاءه لم يستطيعوا كتم حقدهم وحسدهم عليه من جمالها ورقتها ، فألقوا على مسامعه عبارات الحسد التي زادته زهوا ، فها هو يضيف تحفة أخرى إلى تحفه التي يمتلكها ، فالرجل يشترى كل ما يشتهيه أو تميل إليه نفسه .
عادت نهلة بجسدها في مقعدها ، وسافرت بذكرياتها للوراء ، تذكرت كيف عرفته .
كانت تعمل بائعة في أحد المحلات الواقعة في موله التجاري الضخم وكانت المرة الأولى التي تراه فيها خلال أربع سنوات عملت خلالها في نفس المكان، فهو لا يزور للمول أو يتجول فيه كثيرا ، وكان قدرها هو ما يسوقه إليها .
رأها أثناء تجوله مع حراسه الشخصيين وبعض مديري المحلات ، كانت في طريقها خارجة من المحل على عجل لتلحق بمحاضراتها فهي في أخر سنة لها في الجامعة ، ولم تره وهي مسرعة فاصطدمت به في قوة مما
جعلها تتأوه في صوت مسموع ، بدا أنه لم يحس بالصدمة فصدمة عصفور بثور لا تحدث في الثور شيئا إلا أنها كادت تخلع جناح العصفور من مكانه .
حاولت نهلة الاعتذار ولكن نظرات الرجل الجريئة التي تفحصتها ببطء ألجمتها عن النطق ، وهيبته وحراسه بعثوا داخلها شيئا من الحذر ، خرج مديرها من المحل على صوت صرختها ، فهم ما حدث وأعتذر لسعيد بك ووبخ نهلة على عجلتها .
وقف سعيد مكانه يدخن سجائره الفاخرة في بطء فهنالك ما يدور داخل عقله المادي وقلبه المتحجر ، فالثور الأجش قد أشتهى العصفور الرقيق وبدأ يخطط لنحره ولم تمض دقائق حتى عرف عنها كل شيء فهو رجل لا يضيع وقته إلا في صفقات رابحة .
كانت نهلة في طريقها للجامعة عندما بدأ سعيد إجراءات نقلها للأعلى، حيث الإدارة ومكتبه الخاص الذى تتم فيه غالبا صفقاته القذرة .
عادت نهلة اليوم التالي لعملها لتجد قرارا بنقلها للأعلى .. الدور الأخير قسم السكرتارية ، أبلغها مديرها بالخبر وعندما سألته )وليه أنا بالذات ؟
( أخبرها أن سعيد بك علم أنها كانت في عجلة بسبب المحاضرات، وأنها في أخر سنة جامعية لها في كلية التجارة قسم إدارة الأعمال ، وقسم الإدارة في المول يحتاج للخريجات مثلها كل عام ، وهذا ما دفع به لنقلها ، وهذا القرار يشمل كل فتاة في المول يقع تخصصها في الجامعة في نفس نطاق الإدارة والسكرتارية ، فلم لا تكون تحت التدريب حتى تخرجها ؟.
لقد أعد سعيد خطته ببراعة وعلى الرغم من عدم ارتياحها لهذا القرار إلا أنها لم تبد رفضا ، فالمرتب قد زيد للضعف وهى في أمس الحاجة لأى قرش زيادة لتتمكن من تعليم أختيها مثلها والإنفاق على البيت الذي صارت رجله.
بارك لها زميلاتها ترقيتها المفاجئة فبالتأكيد هي وظيفة افضل من كونها بائعة.. هكذا قلن لها .
لم تدر أن هناك من يضمر لها شرا في نفسه .. من ينتظر نضج الطعام على نار هادئة.
أثناء خروجها من الجامعة في أحد الأيام، فوجئت بشخص يناديها بإسمها مشيرا لها أن سعيد بك يريدها في سيارته ، كان حارسه الشخصي ، استغربت ما الذى أتى بهذا الرجل لجامعتها ولم قد يريدها ، هل أخطأت في شيء ما ولم لا ينتظر حتى تعود للعمل أو يبلغ رئيسها المباشر بذلك ، فهي لم تحتك بسعيد مباشرة أبدا ، دارت كل هذه الافكار في رأسها وهي تتقدم نحو السيارة السوداء الفارهة التي هبط زجاجها الأسود ليظهر وجه سعيد الذى عاد ليتفحصها بنفس النظرات المقيتة التي تكرهها، عرض عليها توصيلها للبيت لكنها رفضت، بدا مصرا فهذا الرجل لم يعتد الرفض من أحد وتحجج بأن هناك ما يخص العمل ويريد أن يتناقش معها فيه ، لكنها تمسكت برفضها فهي ليست ساذجة وما أهميتها أساسا في العمل وهي لا تتعدى كونها موظفة صغيرة مثل عشرات غيرها ، لم ترتح نهلة لنظراته فاعتذرت في رقة ومنحته ابتسامة مهذبة أشعلت في الرجل النيران فهو لن يهدأ حتى ينالها وتقع في كمينه وتحت يده .
استدارت مبتعدة عن السيارة في خطوات سريعة، لكنه لم يخفض بصره عنها وابتسم لنفسه فهي لن تفلت من يده مهما ابتعدت .
فمن تلك الفقيرة حتى تصمد أمام سعيد جابر الغريب حوت السوق التجاري وملك المولات ؟، سعيد الغريب رجل الأعمال الاعزب الوسيم الأكثر شهرة في الإسكندرية وفي مصر كلها.
مر أسبوع كامل في هدوء بعد مجيئه لجامعتها، ولم يحتك بها حتى ذلك اليوم الذى أبلغها فيه مديرها المباشر أن سعيد بك يطلبها في مكتبه بعد انتهاء العمل ، أحست بشيء ما في أعماقها يحذرها من لقائه ، هي لم تكن ساذجة أو غبية ، فسعيد هذا يخفى لها في نفسه شيئا ليس بالجيد على الرغم من كونها بلا قيمة بالنسبة له وهى تدرك ذلك جيدا لكنها لا تدري سبب اهتمامه بها .
انتظرت بعد دوام العمل ومرت فترة ليست بالقصيرة ، فمديرها أبلغها أن سعيد بك هو الذى سيطلبها وحتى الآن لم يطلبها أحد .

أنت تقرأ
غداً لن تمطر _الجزء الأول
Romanceرومانسية / اجتماعية / دراما غدا لن تمطر ..... أو ليسوا جميعا مصطفى أبو حجر أدم بدأ بأكل التفاحة ... أدم وحواء أكلاها معا ..... حتى الأن حواء هي الوحيدة الملامة ؟...! كانت تعمل بائعة في أحد المحلات الواقعة في موله التجاري الضخم وكانت المرة الأو...