العراق.. بغداد
على سطح البيت الذي شهد إطلاق النار تجلس ناي وسط الكراكيب منزوية في الركن..
الجو شديد البرودة على جسد كجسدها لم يعد - بعد أمان جدها- يستره شيء!
تضم عباءته البنية عليها لعلها تحتوي رعدة جسدها..
منذ عادت هنا بعد موته وهي ترتديها فوقها لعلها تمنحها نفس الدفء الذي كان يبعثه وجوده..
لكن هيهات!الدموع الحارقة تكوي وجهها وهي ترفع عينيها من مكانها نحو الشمس التي تحاول شق ظلمة الليل..
فجر جديد لكنها لا تستقبله أمام نافذة غرفتها كالعادة أمام حوض الأقحوان..
الأقحوان كان يعني لها الأمل..
الولاء للنذر الذي نذرته لأمها..
والآن تلطخ بدم جدها..
فكيف تستقبل عيناها الصورة؟!هاتفها يرن باسم مظفر!
العنيد لا يمل..
العاشق لا يهدأ..
الأحمق يظن أن لا يزال في قصتهما سطور!!كم تود الآن لو تفتح الاتصال..
لو تعلنها له صريحة أنها خدعته!
لا..
لم تخدعه في مشاعرها..
فمنذ التقته من جديد بعد سنوات الطفولة وهي قررت ألا يكون غيره رفيق طريقها القادم!
حب؟!
لا تعرف.. لا تعرف كيف من المفترض أن تسمي مشاعرها المختلطة نحوه..
هذا الأنس الحقيقي الذي يرفرف بقلبها كلما زارتها ذكرياتهما معاَ صغاراَ..
هذا الحلم الذي أصرت أن تسقيه لتكبر شجرته في صدرها بعدما وجدته أخيراَ بعد سنوات الفراق!الغافل يظنها مصادفة!!
يظنها مصادفة أن وجدها بعد كل هذه السنوات!!
لا يعرف أنها هي من سعت خلفه..
هي من تعمدت أول لقاء بينهما بعد هذه السنوات بعدما رأته في الجامعة..
وجعلته يبدو في صورة تصادم عفوي بعدما عرفته عليها صديقتها موقنةً أنه سيتذكر اسمها متى نطقت به!
رؤيته من جديد أيقظت داخلها وقتها كل شيء!
أيقظت الحلم والجرح..
الماضي والغد..مظفر.. صديق الطفولة بكل ما تحمله ذكرياتهما من دفء..
وهو مظفر.. ابن عدو حياتها كلها.. بكل ما يحمله ماضيها من برد!البرد ينخر عظمها أكثر فتضم عباءة جدها عليها أكثر وأكثر..
عبثاَ!
أي دفء قد يعرفه قلبها بعد الآن.. أي دفء؟!!الشمس تتقدم أكثر في السماء بخطوات واثقة كأنما تدهس قلبها هي..
السحاب الأبيض يبدو وكأنه يرمقها من عليائه كشهود متربصين..سحابة واحدة بدت لها وكأنها تشكلت في صورة قاضٍ يكتب في دفتره..
صورة خيالية استجاب لها قلبها المكدوم وهي تنظر لهذه السحابة هامسة كأنها تكلمها :
_اكتب أيها القاضي.. اكتب حكايتي وليشملني عدل حكمك.. أنا ناي بسام.. ابنة (اللص) كما بقوا يعيرونني لسنوات بعد موت أبي! هل جربت ان تسأل نفسك ما الأقسى على قلب طفل؟! أن يموت أبوه أم أن يُعيّر بجريمته؟!! أن يفقد حنان أبيه أم يفقد شرف سيرته؟! أنا ابتليت بالاثنين معاَ!! ليلة واحدة قلبت كل الموازين! ليلة لا أذكر قبلها إلا جلستنا في الحديقة المشتركة مع جيراننا الأحباء.. لعبي مع مظفر الذي لا يكاد يفارقني إلا وقت النوم.. أمي تعد الطعام مع أمه أحياناَ بنفس المطبخ.. ليوضع على نفس المائدة.. أبي لا يفارق أباه في عملهما نهاراً وسمرهما ليلاً.. سعادة صافية لم يكن ينغصها أي شيء إلا مرض أم مظفر أحياناَ.. قلبها كان عليلاً.. مجهودها قليل.. وكانت أمي تقدّر هذا فتكفيها الكثير من أعبائها دون أن تنتظر طلباَ أو مقابلاً.. كانت أمي طاقة نور لا يشترط أن تطلب منها شيئاً.. يكفيك فقط أن تقترب ليسعك ضوؤها.. كنت أحزن على المرأة بطبيعة الحال لكنني كنت أحزن على مظفر أكثر! كان يبكي كثيراَ كلما أصابتها واحدة من نوباتها.. يبقى جوار فراشها ممسكاَ كفها رافضاَ النوم.. وكنت أبقى جواره أمسك كفها الآخر.. ندعو بكل الأدعية التي تحفظها عقولنا الصغيرة حتى تتحسن حالتها.. ساعتها كان يعانقني بعد أن يعانقها.. يهتف بصوته الطفولي (انتِ أجمل (نوني) في الدنيا).. فأصدقه! كنت أحب (نوني) منه أكثر مما أحببت اسمي.. (نوني) كانت الحارسة لبوابة السعادة الوردية التي فتحوها لي يوماَ قبل أن يغلقوها على أصابعي فتبقى دامية كسيرة طول العمر..
![](https://img.wattpad.com/cover/358299196-288-k690075.jpg)