الفصل الثامن

219 11 7
                                    

بعد أربعة أيام

الموقع : على ربوةٍ صخرية واسعة تنحدر إلي شاطئ بحيرة قارون ، على بعد 55 كيلومتراً من مدينة الفيوم

الوجهة : منزل بسيط من الطين ، له قبة من الطوب اللبني على سطحه ، وُضِعَ حولها سعف النخيل الأخضر الريشي ليتدلى قليلا من حواف السطح

توقفت سيارة اياد أمام بوابة صغيرة زرقاء اللون لسور قصير يحيط بالمنزل ، ترجل وفتحها وأغلقها خلفه ، خطا على الأرض الرملية وقد تراصت فيها جذوع النخل العتيقة بشكل هرمي عن شماله مكونة سور فاصل عن حظيرة خشبية مقسمة بين عدة أنواع من الطيور

وعن يمينه أرض عشبية خضراء مزروعة بالفل والياسمين والريحان والنعناع وبعض البنفسج والخزامي

وأمام الملحق المكون من غرفتين كبيرتين كان يجلس حارس البيت ، رجل أسمر طويل قوي البنيان يشرب شاي الصباح مع إفطاره في هدوء يُحسَد عليه المكان ، يستعد بذهن صافٍ لأعمال اليوم في العناية بحظيرته وزروعه ، ثم الاشتغال بهوايته في صنع المنتجات اليدوية من جريد النخيل

ما إن رأى اياد حتى وقف وتقدم منه مصافحاً بكلمات قليلة تبادلها كلاهما عن الحال كذباً دون الخوض في مرارته ، قبل أن ينصرف الرجل لساعات كالعادة تاركاً لصاحب البيت حرية الانفراد بنفسه

فتح اياد باب المنزل الذي غمرته آشعة الشمس بخيلاء وجودها في يومٍ خريفي به لسعة برودة شتوية ، ثم أحكم غلق الباب ، جال ببصره في الأرجاء التي لم يرها منذ سافر أوكرانيا ، كل شيء نظيف مرتب كحال حارسه الذي يعتني به طوال غيابه ، مريح راحة قطع شريط الفوز بعد سباق طويل ، وصامت صمت الاستماع إلي صوت صغار النمل !

جميل دافئ ملون الأثاث مرسوم الجدران ، به بساطة بدائية أحبتها نور حين زارت معه مصر قبل عودته لعمله بالسفارة المصرية في تل أبيب ، فاختلى بها أياماً أثمرت عن طفله الذي يبحث عنه بلا جدوى

لم يأتِ اليوم لما فعلته ريحان وهى تضغط على جرحه ، أو بسبب تعلقه بحكايات رحيل وصوتها واسلوبها ولهجتها تذكيراً بالراحلين ، أو بسبب الغضب الذي يتفجر داخله بلا متنفس خارجي ، أو بسبب الطلقة التي ينتظرها برأسه ليرتاح ، ربما لهذا كله مجتمعاً ، وربما لسبب أهم وأعتى .. أتى ليُذكِر نفسه بمَن هو ؟ ، وماذا كان سيفعل قبل أن يتوهم موت عدوه ؟ ، لقد اقسم يوماً أن افرايم سيتعذب حتى ينال رحمة الدنيا بالموت.

اتجه مباشرةً نحو مكتبة داخلية كبيرة رصت الكتب فيها بتنسيق مميز ، وقف عند جانبها الذي غطت حافته ما خلفها تماماً ، أزاحها للأمام بقوة ليظهر الحائط الطيني ورائها ، تحسس أسفل الحائط حتى موضع غائر قليلاً ليفتح عنده ذلك الجزء المنخفض من الحائط على هيئة باب منخفض ، ثم انحنى ودخل بتلك المساحة الضيقة ، أنار ضوء الهاتف ليظهر أمامه الباب الأسود المصفح والمزود بإطار كاتم للصوت مثل الداخل ، ضغط الأرقام السرية في اللوح الصغير للقفل الالكتروني وسمع تكة فتح الباب ، أغلق الباب الطيني المنخفض ودخل الغرفة مغلقاً الباب المصفح

ضغطة زر وأظهر الضوء الأبيض محتويات الغرفة الواسعة ، امتلأت جدرانها وجوانبها بوحدات اشبه بخزائن زجاجية تحفظ .. أسلحة ، ترسانة سلاح من كل الأنواع !
وأمام الجدار الأمامي لوح تدريب الرماية لتجربة الأسلحة الجديدة كل حين والتي من الممكن تجريبها في غرفة مغلقة ، هوس .. فلا يكفيه سلاحه الرسمي ولا يكفيه تدريب الضباط المعتاد ، وأسرع طريقة محظورة لإنهاء مستقبله المهني واعتباره رسمياً تاجر سلاح !

تحرك يساراً ليفتح زجاج أول خزانة مفتقداً هذا الاحساس بالنشوة ويمسك بسلاحٍ منها معلق على الجدار .. توكاريف روسي ، مسدس نصف آلي وأول سوڤيتي خُصِص للجيش ، شد الجزء المنزلق واستمتع بصوت الاستعداد كأنه ليس جزءا من عمله ، هنا يختلف
أعاده وأمسك آخر وبريق الإعجاب يشتد في عينيه ، التحفة ذو الساقية الدوارة سميث ويثون 500 بوزنه المقارب إلي اثنين كجم فارغاً ، الخيار الأمثل للعبة الموت مع الرصاصة الواحدة !

ثم آخر .. براونينج بلچيكي عيار 13 ، بالمقبض الخشبي الكلاسيكي بني اللون ، ثم آخر .. من فصيلة والتر الألماني ، الأنيق المتحفظ الأخف وزناً والأكثر منهم فتكاً
ثم توالت خطواته ، خزانة زجاجية أخرى .. جلوك 17 نمساوي ، نسخة أولية نادرة قبل التطوير محظور تداولها ، وآخر .. بيريتا 92 ايطالي .. لاما أسباني .. مكاروف روسي .. كولت ام 1911 امريكي .. وغيرهم

لم يدرِ كم من الوقت الذي مر عليه وهو يتناسى الماضي ، لكنه كان على الجانب الآخر حيث خزائن أكبر للبنادق والمدافع الرشاشة ، يمسكها ، يشعر ثقلها ، يسمع أصواتها ، وينظفها جزءاً جزءاً

كلاشينكوف روسي .. كرينكوف بلغاري .. رشاش اف 2000 البلچيكي الآلي .. بندقية اف ان الأكثر نجومية في عالم الهجوم .. بندقية ستونر امريكي .. بندقية إتش كيه 416 الألمانية المتفردة عالية المتطلبات كالعروس غالية المهر .. وغيرهم .. أنظمة استهداف بالليزر .. سكين الماسورة الملتوي .. صوت الزناد .. صوت الساحب .. صوت الفك والتركيب ..

وعلى طاولة وحده الأشد فتكاً ، مدفع تومسون إم 1921 أمريكي ، الشرس الملقب برشاش شيكاغو 1500 طلقة بالدقيقة

وعلى طاولة أخرى بندقية قنص بريطانية تستند على قوائمها ويتحداك منظارها أن تضع عينيك ، الداهية ذات وزن الأربعة عشر كيلوجراماً ، فرقة قتالية وحدها.

فكر يوماً أن يجعله مسموحاً ومرخصاً ثم منعته النسخ النادرة والأولية والمحظورة ، إن المتعة في السر ، والسر في هوسه وجنونه الحتمي !.

بعد وقتٍ طويل خرج اياد مغلقاً البابين ثم أعاد المكتبة مكانها ، هادئ نسبياً ، متوقف التفكير بإرادته ، تحرك ليغادر ثم عاد نحو كرسي جانبي مقابل للنافذة التي يفتحها الحارس كل صباح وجلس ، عاد التفكير ، وعاثت الذكريات في رأسه حنيناً ، فسال الدمع من عينيه ببطء .. نجاح .. عمل .. سفر .. عمل .. حب .. زواج .. عمل .. ثم ..

صهاينة .. اسرائيل .. تل أبيب .. إيلات .. كيرم شالوم .. زخاريا .. اشكلون .. أحيهود .. تسيبوري .. يزرعيل .. دماء .. قتل .. دماء .. ذبح .. دماء دماء دماء

عادت يده تضغط بكل قوته على جانب جبهته بذلك الموضع المؤلم برأسه كلما ركز على تلك الصورة .. امرأة وطفلان مذبوحان أرضاً فوق الدماء

لم يكن ذنب جنسيتها الفلسطينية ، لم يكن ذنب أختها أن كانت منضمة للمقاومة سراً ، ثم كُشِفَ السر ، وفي إحدى الليالي بالقرب من منزله هاجمها ضابط اسرائيلي واثنان من جنوده في أحد الأزقة بصمت الليل اثناء عودتها ، رأتها امرأة وأختها من عائلة فلسطينية كانت تسكن معهم تلك المنطقة ضمن الخمس بالمائة الضئيلة للفلسطينيين في يافا التي أصبحت قسراً واحتلالاً تل أبيب ، هرعت الأخت خفيةً إلي بيته لتخبره ، لكنهم انتبهوا إلي المرأة التي كانت تراقب ما يحدث من مكانها بنهاية الزقاق بخشية ، كانت ترى فتاة مُدربة تقاوم بيديها وقدميها بعدما أخذوا منها سكينها الذي كادت به أن تقتل الجنديين بالفعل مسببة فيهما جروح عميقة ، جروح أثارت وحشيتهم لتجريدها من ملابسها وجرح جسدها وتقديمها إلي ضابطهم لاغتصابها أولاً ، ولا مانع من مناوبة اغتصاب وقتل تلك التي تراقب فركض أحدهم وجرها كاتماً أنفاسها وبدأ فيما بدا عمله اليومي ، لولا أن وصل هو ، ودار الاشتباك بمعايير أخرى

معايير ضابط مخابرات مصري شديد الكفاءة ، تكوم الجنديان أرضاً بعد عدة ضربات ساحقة ، فأشهر الضابط سكيناً ودار اشتباك آخر يقارب التكافؤ ، ركلات وتفادٍ ، وقع السكين ، لكمات قاتلة ودم يسيل من فم الضابط الاسرائيلي ، تظاهر بالسقوط ، سقط

كان غضب اياد يطغى ويفور ويغلي وهو يلمح أخت زوجته التي تعاود ارتداء ثيابها فوق دمائها لتستر جسدها المجروح ، ويلمح تلك المرأة التي تبكي في حضن أختها التي تغطي ما تعرى منها ، والغضب يفور ويفور فانحنى مجدداً يكيل للضابط ضربات شوهت وجهه ، لكنه لم يرَ السكين وهو ينغرس في جانبه ، كاد الألم يخلع قلبه في انتفاضة هادرة ، والمزيد من الألم والسكين يخرج ليطعن جانبه مجدداً ، فسمع صرخة يافا ، ليست فقط الأنثى التي اعتبرها أخته ، بل يافا المدينة ، الجميلة الفلسطينية التي اغتصبوها غدراً ، الصارخة المتضرعة لثوبٍ يستر عريها ، التائهة المحتاجة لآبائها وأجدادها حمايةً من الأغراب ، الهامسة باسمها بلا نسيان مهما صرخوا في وجهها باسمٍ غاشم جديد

فدار خلفه قبل أن يخرج السكين مرة أخرى ، وبلا تفكير كان يغرس قلمه المدبب الحاد في جانب عنقه ، مرة ويزيد ، مرة ويزيد ، أخرى ويزيد ، فارتمى جثة هامدة على دمائه ، لاحقاً عرف أنه الضابط أوري عزرا الأخ الأكبر لضابط الموساد افرايم عزرا

نظر لاهثا متحاملاً إلي الثلاثة نساء والدماء تسيل من جانبه تغرق ثيابه ، إذا كانت المهمة يافا وحدها فهناك امرأتان ستدفعان ثمناً لا ذنب لهما فيه ، فاقترب من الجنديين المكومين فاقدي الوعي ، وبلا تردد سحب رأس كل منهما كالشاه لينال طعنة عنق قاتلة ، مات الشاهدان ، بمساعدة سرية اختفت أي أدلة على وجود امرأتين في مسرح القتل ، اختفت أي أدلة على وجوده ، اختفت يافا ، واختفى سلاح يشبه ناب الأسد ، ظل في جيب صاحبه وهو يُعالَج سراً في بيته دون أن يجرؤ أحد منهم على اتخاذ خطوة ضده ، فمهمتهم كانت سرية ، كانت قتل يافا.

روزان للكاتبة نورهان عبدالحميدحيث تعيش القصص. اكتشف الآن