بعد عدة أيام ...
وضع كارم دفاتر المذكرات على الطاولة في شرفة غرفتها ، ومعهم وصيته في مظروف مغلق ، أعادهم إليها حين عادت ، ابنته الكبرى التي لم يكسرها شيء ، هو فعل بطريقٍ غير مباشر ، حرمها من سعادتها وها هى خُطِفَت وعُذِبَت انتقاماً منه ، فما كان هناك كلام يصف احساسه بالذنب وعذاب أبوته ، سوى أن يظهر قوته وحزمه في عمله كالمعتاد ، قسماً أن يحضر مَن فعل بها هذا
لم تجب روزان سوى بإيماءة ضعيفة على اسئلته عن حالها ، كتبت بنفسها الأدوية التي تريد على ورقة تحمل اسمها كطبيبة ، مسكنات للألم ومهدئات للذكريات ، مادة فعالة للنسيان الوديع ، فيضفي عليها تلك الوداعة السلسة الخامدة عن هذه الدنيا الشرسة.
قبل كارم جبينها وخرج ليجد غفران أمامه ، نظر إليها بغرابة قبل أن يأخذها لحضنه النادر قائلا
" لم تنطق بكلمة لكنها هادئة متماسكة كعادتها .. يقلقني رفضها لفحص الطبيبة فحاولي إقناعها .. لا اقتنع انها بخير كما تدعي "
اومأت غفران وهى تشعر به حقاً ، اغتم وجهه وازدادت همومه كما لم تره يوماً ، ربما هو مَن احتاج حضنها أكثر ، اعتذاراً لما يحدث لهم بسببه حتى وإن بسبب واجبه ، واعترافاً بتقصيرٍ حدث رغماً عنه ، وأحياناً بسلطته وأمره ، ودرءاً لإعادة الكرة معها وهو يضع قلبها في مهب رياح عاتية كرياح ماضي حكم.
غادر كارم مع تشديد الأوامر للحرس الخاص بالمنزل فطرقت باب روزان ، حين أتاها الجواب بالصمت دخلت ، وأعلنت عن وجودها بصوتها المبتسم
" روزان "
ترتدي لوناً أصفر وأزرق حاربت نفسها لكي تنزع الأسود والداكن مجدداً ، ولا شيء يشفي روحها مما فعلت ، فلا تستطيع إعادة الزمن ولا المضي قدماً ، فقط تحاول التناسي ، والابتسام في وجه أختها كذباً انهم بخير
وجدت روزان تأخذ دواءها وتستريح في الكرسي الضخم مستندة برأسها على ظهره ، وتغيب في عالمٍ وحدها تواجه فيه ما لا يعلمه إلا خالقها ، فوقفت خلفها تمسح على رأسها وتردد يقيناً
( بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .. بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .. بِسْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَضُرُّ مَعَ اسْمِهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )
( قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا .. قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا )
بضع خصلات ظاهرة من الوشاح المتراخي أخرجتهم أكثر على وجهها الذابل بحنان قولها
" اقترب لون الكراميل أن يضيع من شعركِ لكنه يزيد طولاً وكثافة كما كان وأجمل "
أغمضت روزان عينيها بلا أدنى رد فعل فجلست غفران على الكرسي الآخر تغوص فيه حزناً
" اشتقت إلي جلوسنا معاً هكذا .. بدون خوف أو مشاكل في شرفتنا أمام البحر .. وأمي تحضر شاي البرتقال وتشعل البخور فتختلط رائحة البحر برائحة العود والمسك كأنها تبصم في أرواحنا ما سنحتاجه مع قسوة ما نواجه "
خطر على بالها عملها ، دكتور نبيل وحديثه ، فابتسمت بصدق
" هل تذكرين قولها المتكرر الذي أحبته ؟.. كانت درامية أحياناً ونحن كذلك "
لم تصمت لتتذكر بل قالت بصمة ثابتة فيهما لجبران خليل جبران
" لن يتوقف الكون لأنك قد كُسِرت ، ولن تُقام طقوس العزاء لأنك حزنت ، الجميع قادرٌ على تأمل لحظة سقوطك ، لذا قف وانهض ورمم نفسك بنفسك "
فتحت روزان عينيها بضيق فيخترق السؤال تبلد روحها
" هل تعرفين أن الصراخ يحد من الألم ؟.. بالطبع تعرفين "
لم تعرف غفران أتقول الحقيقة حقاً بأنانية أم حافزاً لتنهض روزان باحتياجها هى لكنها تدرك عن يقين أن كلماتها تصيب موضعها
" لكنكِ لا تعرفين كم أريد أن اصرخ .. الألم داخلي يجعلني أنانية لأن اخبركِ انني احتاجكِ بشدة .. انني احترق مع كل نفس .. لا تظني انني لا اشعر بكِ .. أنا أيضاً أموت "
.................................................
أغلقت رحيل هاتفها بحذف الرسالة التي وصلتها بصعوبة انتقالها حالياً إلي فلسطين مع تأكيد برعاية أهلها قدر ما يستطيع رجال ونساء المقاومة في ظل الاحتراق المشهود في غزة
ظلت جالسة في غرفتها تنظر من نافذة المكان الجديد الذي نُقلوا إليه ، منزل بسيط في منطقة هادئة يطل على أرض منعزلة شبه مهجورة وبمحيطه القليل من ورش اصلاح السيارات أو قطع الغيار تظن انها مجرد تمويه ، مَن يراه لن يشك انه تابع للسلطات الرسمية كأحد المنازل الآمنة
أما هى فتعرف انها ليست آمنة ، وانها مسألة وقت وستكون النهاية ، قضايا الاغتيالات أكثر مما يظن مواطن عادي يستيقظ إلي عمله كل صباح ، ولفرط إتقان تصويرها بأسباب طبيعية لا يظن شخص انه اغتيال مع سبق اصرار شياطين الأرض ، بل لا تُذكَر معظمها علناً
لكنها أيضاً تعرف عن يقين انه لن يصيبها إلا ما كتبه الله لها ، ستموت بنفس الموعد وإن لم تغادر فراشها الآمن ، فإن قُدِرَ لها موتاً بسبب اغتيالهم فإن له حكمة أعظم لن يدركها الجميع ، فما لا يعرفونه هم أن تتعدد الأسباب والموت واحد ، وكم تتمنى أن تكون الحكمة هى جزء من إيقاظ الغفلة ومحاسبة القتلة
" كيف حالكِ اليوم ؟.. إن حدث لكِ شيء لم أكن لاسامح نفسي فقد تركتكِ للمرة الثانية "
التفتت حيث يقف اياد عند الباب المفتوح ، يطرقه بهدوء ويطمئن عليها ككل يوم بعد وصوله ، عفوياً لمست جرحاً في مؤخرة رأسها قلّ وجعه ، لا تعرف كيف أصيبت به فكل ما تتذكره وقت دخول زبانية الموساد كما اعتادت تسميتهم بحلقاتها أن أحدهم اطلق في وجهها مخدراً فسقطت وهى تحاول المقاومة والهروب
أعادت ارتداء نظارتها وهى ترد
" هذه المرة أنقذت ريحان سيظلون يسعون خلفها قبلنا جميعاً .. هى الأهم الآن "
كانت تعنيها حقاً ، فما رأت على مدار سنوات حياتها في وطنها المسلوب جعلها أقوى ، أكثر صلابة عند أي محاولة تعدٍ بأي شكل ، فلا تتذكر انها ذرفت دمعة أو ضعفت دقيقة
فيترفق صوته مبتسماً
" وأنتِ أيضاً من الأهم رحيل "
التقدير في نظراته لا يفارقها إن أقبل بأي وقت فلم تره يخص أحداً به سواها فقالت بضيق
" أنا السبب في معرفتهم مكاننا .. أجريت اتصالاً لارتب رحيلي من هنا ودخولي غزة إلي أهلي ولابد أنهم عرفوا بسببه "
أطرقت عيناه لحظات مفكراً بذلك الخائن
" لا لستِ السبب لكن أنتِ واثقة فيمَن اتصلتِ بهم ؟ "
عقدت ذراعيها على المكتب الصغير متنهدة لتحكي
" الرجل الذي اتصلت به مثلك .. له حكاية تشبهك .. عاش طوال حياته في المقاومة ولم ينعم بيومٍ هادئ حتى بزواجه .. تزوج سراً وأنجب سراً وكان يزور أهله سراً حتى لا يرصده أحد .. لكنهم فعلوا .. اغتال أضعف جنود الاحتلال أسرته وخطف أصغر أطفاله ذو العامين ولا يعرف مصيره مهما حاول .. هل سينشأ في اسرائيل ليقتله يوماً دون أن يعرف أم قتلوه ؟.. لا يعرف عنه شيئاً لكنه يقاوم بلا هوادة .. هكذا حالنا جميعاً "
وكأن ذلك النفس المتنهد من أعماق صدرها المهموم بالحزن وثقل القضية تردد في صدره بشكلٍ ما
" لماذا اشعر دائماً إنني اعرفكِ منذ زمن في حين أن جزءاً من مهمتي هو ألا اشعر ؟! "
تلاقت أعينهما فأعطته الجواب
" لكَ في أرضي جزءٌ أكبر "
إجابتها وحدها صفحة بيضاء ليكتب فيها من جديد جزءاً جديداً ، مرفقة بقلمٍ آخر من عزيمة واختلاف ، واعتراف .. اعتراف منها ومنه بالنور الحاضر الغائب ، والانتماء الذي لن ينقطع ، والواجب كجمرة نار تطلب تنحي المشاعر بهذا التوقيت
لولا أن قطعت ريحان مسار نظره وهى تقف أمامه
" وصلت رسالة جديدة "
بكامل انتباهه كان معها وهو يومئ إلي رحيل ويخرج معها إلي غرفة الأجهزة
" من افرايم ؟ "
اومأت ريحان وهى تلتقط ورقة من أمام حاسوبها فتقرأ
" تأخرت كثيراً في زيارة قبر الكبير رغم إنني حفرت للصغير قبره بنفسي .. الليلة سأكون هناك ومعي القلم .. فليأخذه مَن يستحقه للمرة الأخيرة "
أخذ اياد الورقة ولم يستغرق شيئاً ليفهم إجابة سؤالها
" ماذا يقصد ؟ "
.................................................
مرت ساعات النهار وانتصف وهى في الشرفة تحدق في السماء الصافية ، ربما تفتح باباً في عقلها لتخرج من حالتها ، وربما استسلمت للمعاناة والألم الذي تشعره بروحها وجسدها ، لم تفهم غفران سوى أن الصمت الذي يغلف روزان هو أنين من نوعٍ خاص ، يفوق احتراق روحها بما فعلت لذلك تدرك مقدار وجعه
اقتربت في هدوء تميل نحوها
" روزان .. حكيم يستأذن ليدخل إليكِ "
ظل صمتها كأن لم تسمع ، ثم اعتدلت على كرسيها فأنزلت قدميها أرضاً ، وأدخلت خصلات نافرة من وشاحها ، فعلمت غفران أن هذه إجابتها
مكث حكيم حتى أعطته غفران دعوة دخوله الأكثر انتظاراً ، وقد يحدث أن يعلمك الانتظار شهوة اللهفة لا مهارة الصبر ، فدخل على بساطٍ من نار ، يخطو فوق علامات استفهام أحرقت عقله بشمع أختامها
توقف عند باب الشرفة ينظر إلي الأدوية جوارها ، ينظر إلي يديها الهامدتين ، ثم يخطو لتصيب ملامحها عينيه ، شاحبة ، خاضعة ، كأنها لا تشعر بشيء ، سببت لها الأدوية نوع من تبلد الشعور للهروب ، أو أنها أخفت مشاعرها كالعادة في سكون الظاهر
نطق فقط اسمها قبل أن يجلس لا يجد جدوى للكلمات ، بياض ثوبها ذكره بفستان الزفاف الذي اشتراه ، ثم مات مع فرحتهما ، يا ليت الفرحة تُشتَرى مع الفساتين ، لجلب ما يكفي أجيالاً لهما معاً
" كنت أريد أن أقول اشياءً كثيرة .. اسئلة تحرقني .. اسأل بمَ تشعرين .. اخبركِ أن كل شيء سيكون بخير لكنني ادرك أن هذا كذب .. الآن اكتفي بصمتي ورؤيتكِ "
سمعت القهر في صوته ، وما تحركت ، يقينها أن القدر يتحرك يكفيها ، يرضيها ، هى الآن طائفة في ذلك الكذب لكنه حقيقتها الوحيدة
عيناها ترمش كي لا تسيل الدموع المتجمعة فيها سحابة شتاء مع همسه
" هنا .. في أمان .. وأمامي .. لا أريد أكثر .. أريدكِ فقط أن تدركي انني موجود لأجلكِ مهما انقلبت الدنيا .. أنتِ ميزان دنيتي روزان "
كانت كذلك وستظل ، فما حدث لها ما أنقص من قدرها عنده شيئاً ، وإن حملت ذلك الامضاء الذي لا يعرفه إلي الآن ولا يدري كيف يسأل عنه
فقط رأى دموعها تتحرر أخيراً فقالها مرة أخرى
" تعالي في حضني روزان .. ابكي هنا "
ككل مرة يرتجف جسدها لها ، كأنه يلغي مفعول الأدوية معه فيستجيب ، مد كفه يغطي يدها فسحبتها تمسح وجهاً بقيت عليه آثار صفعات أخفاها الوشاح ، فسأل فجأة
" ماذا فعل بكِ ولا أراه ؟ "
رأى عينيها تتذكر ووجهها يتحجر فتحرك من كرسيه لينخفض أمامها راجياً بقهر
" اخبريني روزان .. أنا أموت "
ترديه الحرب داخله بين غضبه وعمله ، جنونه وثباته ، ومحاولة دعمها أم تذكيرها بالسؤال لكنه لا يطيق ما يحتمل فيحترق مثلها
" لمسكِ مجددا ؟ "
شعر بجسدها ينفر دون أن يمسه فضربت قبضته الارض وهو يكرر
" لقد فعلوا بكِ شيئاً اخبريني ما هو ؟ "
( أنا يوسي جدعون .. تذكري هذا الاسم جيداً )
يتداخل الصوتان معاً بين كل الحب وكل الكره ، بين احتماء واختباء الذاكرة ، نطقت روزان بعد أيام صمت تام
" اقتل يوسي جدعون .. اقتل الخمسة "
عبس حكيم كأنه لم يفهم أو .. لم يتوقع فتفاجأ مما سمع ، ظل مكانه متجهماً ينتظر كلمة أخرى لكنها عادت فارغة الملامح إلا من طيفٍ عنيد يبقيها قيد حياتها ، طيف هو نفسه يأمل أن ينسيها أصعب ما يمر على بشر
نهض يغادر مدفوعاً بغضب ذلك الأمر الوحيد ، أن تطلب روزان منه قتلاً ، يعني أن تطلب الرحمة ثأراً ، ويستغيث الجمال ليرى قبحاً ، يعني أن ما رأته في عدة أيام يفوق ما يتخيل ، وأن الإمضاء أتى بريشةٍ تنحت كالسوط على الجلد بحبرٍ من الدم ، وأن الحياة لن تعود حقاً إلا بالموت
لولا أن أوقفه صوت كارم
" حكيم .. لقد صدر الأمر رسمياً "
التفت فقط مع طرقة قلب تقلب الميزان ، اقترب كارم وخفت صوته أكثر
" غداً مساءً ستكون قد دخلت اسرائيل "
لم ينطق حكيم ، استدار مجدداً ليعود نحو غرفة غادرها ، يلقي عليها نظرة وداع ، هذا هو النصيب ، إلي هنا النصيب.
...........................
" دكتور محب تاج الدين .. أنا الرائد حكيم الصقر "
أوقف السيارة على جانب طريقه إلي مقر المخابرات العامة لدراسة تفاصيل مهمته ، أتاه صوت محدثه بالهاتف هادئاً
" أهلا بك لكن هل تعارفنا من قبل ؟! "
أجاب حكيم بمرٍ ساخر
" مؤكد حدثتك عني الدكتورة روزان دوير "
لحظتان من الصمت سمع همس المكر في صوته الواضح أو ربما تخيل
" آه حكيم .. عفواً .. سيادة الرائد .. كنت نقيباً .. مبارك الترقية "
اشتدت يد حكيم على المقود فلا يسمح للغيرة أن تحل ضيفةً ثقيلة وهو يستعد للموت .. بكل الطرق
" أريد أن اقابلك .. روزان تمر بحالة نفسية صعبة "
.................................................
في شقةٍ صغيرة مجهزة جوار أحد مواقع المقابر انتقل رجال الموساد إليها خفيةً في ظلام الليل بمعاونة رجالهم في الخلايا النائمة السرية التي يزرعونها في كل دولة بالعالم ، تسلل افرايم قبل موعده بساعة ليجمع أجهزته الاليكترونية وأغراضه مستعداً للرحيل الليلة ، غافلا عن مراقبة شارون لتحركاته بالأيام الأخيرة وهو يفتح باب غرفته بغتةً
" ماذا تفعل ؟ "
أغلق افرايم الحاسوب بعدما تلقى الرد على رسائله ووضعه في حقيبة ظهر حملها واستدار إليه
" لابد أن اعود إلي امريكا هناك ما لا يستطيعون فعله بدوني .. لابد أن انهي ما بيني وبين اياد حكم الليلة .. باقي المهمة عندك تنفذها كيفما تريد "
لم يكن خبراً ، بل أمراً يلقيه فاستاء شارون محذراً
" اياد حكم ليس على القائمة تسعة بل هو مجرد طعم لاصطياد أخيه .. هذه هى الخطة وستُنفَذ كما وضعتها .. إن تخلصت منه أولاً سيدرك الموساد انك فعلت لثأرك الشخصي وليس لحماية أمن اسرائيل وهذا سيضعني في مواجهة شرسة مع المصريين والموساد نفسه .. اتفقنا أن نتخلص منه في النهاية كأي ضرر عابر .. أنا المسؤول هنا لا تنس نفسك "
كان أمامه نموذجاً لغباء كثيرين منهم يحفظه ويعوقه فاحتد صوته رافعاً قبضته
" أنا الموساد نفسه .. هل تظن أن المسؤولين عنك في اسرائيل يعملون لحماية الأرض التي أخذناها بالتحايل أو الشعب الذي جمعناه من كل بلد بعد توهان ؟!.. إنهم كلاب مال ومصالح في قبضتي هذه "
اقترب شارون ليزيح قبضته بظهر يده متحدياً
" أنت أحمق ومغرور ولا تفهم أن امريكا التي تظن نفسك آمناً بها في قبضتنا نحن .. نحرك قراراتها كما نشاء فنأخذ منها ما نشاء وقتما نشاء "
تحرك افرايم ساخراً بلا مبالاة ليستطرد شارون خلفه بكل ثقته
" القائمة تسعة مهمتي أنا وستتم عمليات الاغتيال بهدوء ونجاح وأنت ستنصاع إلي أوامري بدلاً من خطواتك الفاشلة إلي الآن وإلا ساحرص بنفسي أن يجدك المصريون مرفقاً بالأدلة التي تعتبر في مصر خطاً أحمر من دماء لا تراجع فيها .. أو يجدك الأمريكيون بأدلة العمليات الإرهابية التي تمولها في امريكا .. أو يجدك الاسرائيليون بأدلة عمليات القتل التي تنفذها وتلقيها على الفلسطينيين رغم إنني اشجعها وبقوة ! "
توقف افرايم مكانه متلقياً التهديد صريحاً ، التفت إلي شارون ببرود يسبر مدى صحة حصوله على أدلة ضده بالفعل ثم قال
" حسناً ساعود لخطتك لكن يجب أن ألقن اياد حكم درساً صغيراً بعدما أخذ مني الدكتورة .. لا تقلق لن اقتله الآن ولكي تطمئن تعال معي وراقب شارون "
.................................................
دخلت غفران الغرفة لتجد روزان بمكانها ، انسدل الليل عليها كأنه يشيعها ويترك عليها ظله كئيباً مغموراً ، لم تجد حركة سوى سجادة الصلاة التي لم تجد روزان جهداً لرفعها بعدما انتهت ، وثوب فضفاض غيرته مجدداً كأنها لا تطيق الثياب على جسدها أكثر من دقائق !
تنفست غفران ببعض الارتياح وهى تقترب منها فتغمر أنفها رائحة شاي البرتقال حتى وضعته على الطاولة بينهما وجلست ، ثم فردت يدها أمام عيني روزان عن مشبك شعر من الريزن داخله زهرة وردية اللون وحبيبات من ورق الذهب
" لم اصنع شيئاً منذ عامين تقريباً "
مالت شفتا روزان بشبه ابتسامة حنين مريرة وهى تنظر إلي جمال القطعة الفنية المزخرفة بحب ، إلي شريحة البرتقال التي تعلو اللون الأحمر الداكن للشاي في فنجانه الزجاجي ، كما كانت تعده لمار في الشرفة أمام البحر ، اليوم شرفة أخرى وحزن آخر ليس على حبٍ ضائع ، بل صدمة أكبر ، وانقلاب حياة
وتذكرت قطعة فنية أخرى لم تنهها في بيت حكيم ، وفستان زفاف تلوث بالوحل على أعتاب السعادة المنتظرة ، وصوت جارح قدر المشرط الذي استعمله على جسدها ، فأغمضت عينيها بقشعريرة حادة باردة ، يقال أن النسيان آفة البشر ، والتذكر أحياناً الآفة الأكبر
وضعت غفران المشبك وسحبت يدها لتظل صامتة طويلاً ، ناظرة أمامها بثقلٍ آخر يجثم على صدرها لا ينساها لحظة ، تشرب الشاي وعلى يدها تذكر الله وحده وتعترف بإنها كانت من الظالمين فتهدأ
ومر الوقت بصمته حتى كسرته
" هل اخبرتكِ عن عملي مع دكتور نبيل .. لأول مرة ارتاح في عمل لهذه الدرجة بل واتعلم أكثر .. اشعر إنني أصبح أكثر هدوءً وتفكراً في كل شيء .. هذه الفترة اجمع له أحكام الفقه في كثير من المواضيع من أجل عمله القادم .. أتعرفين أن البحث في الدين كمَن يأخذ دواءً لأي مرض بالدنيا .. إذا كانت هذه هى حال الباحث فكيف هى حال العالم والحافظ والولي ؟ "
لم ترد روزان لكنها تنصت ، في محاولة للعودة إلي حياتها قبل أن تستسلم ، وتدرك في غفران ألماً قوياً يريد البوح لكنها ليست مستعدة ، ليس قبل أن تعالج نفسها أولاً ، ثم تتذكر ما كسرها فتشرد وتهرب مجدداً
نظرت غفران إليها بتنهيدة محبطة ثم وقعت عيناها على الدفتر الكبير حيث وضعه كارم كما هو فأخذته
" عرفت من أبي انكِ قرأتِ جزءاً كبيراً من مذكرات جدنا ورأى علاماتكِ على الصفحات التي تقفين عندها "
حين كانت تنتظر حكيم فتضع له الطعام والحليب وتحذره من كثرة القهوة ، هل تبكي ؟! ، تسقط دمعة على وجنتها وترسم بقعة تتسع على كنزتها الرمادية ، بينما تفتح غفران الدفتر تتفحصه ثم تروي فيتبدل الوقت والعالم ويأخذ جدها دوير دفة الحكاية
" يقول دكتور نبيل أن صوتي جيد في القراءة وعليّ تسجيل كتبه ورواياته .. ها هى علامتكِ عند هذه الصفحة ... "
( 1955 – 1964
عدت إلي غزة مع الوفد الرئاسي مع جمال عبد الناصر شخصياً ولم تهدأ المظاهرات إلا بحضوره ، صفقة القرن ، مشروع أيزنهاور ، مشروع إيغال آلون ، مشروع ليڤي أشكول ، مشروع ڤانس ، واسماء كثيرة تم اطلاقها على رغبتهم في توطين الفلسطينيين بأرض سيناء أو غيرها من أراضي الدول العربية على مدار السنين ، لكن جاءت مظاهرات الفلسطينيين في غزة بنتيجة بذلك الوقت وتم إلغائه ، أو كما ظننت تأجيله ، فاسرائيل لا تتراجع عن شيء تريد نهبه بهذه السهولة.
حين تساءل الجميع عن موقف عبد الناصر وصمته وموافقته الضمنية لم تأتِ الإجابة مباشرة ، لكنها أتت فيما بعد ، حين أصدرت اللجنة العلمية بسيناء تقريرها أن تلك المنطقة التي تمت دراستها للتوطين غير صالحة المياه أو للحياة حالياً ! ، هل كان عبد الناصر يدرك مسبقاً وتلاعب بالأمم المتحدة ؟! ، وهل كان يتوقع انتفاضة الشعب الفلسطيني أو ما تبقى منه وأنها ستوقف التوطين في سيناء ؟! ، لم نعرف حقاً ولم نتحدث في الأمر كثيراً
ربما لأن مصر لم تكن بكامل قواها وهى ما زالت تخرج من تحت عباءة الاحتلال فلم يرفض الأمر رفضاً قطعياً بل كان من الذكاء أن يتلاعب بالأمم المتحدة وامريكا واسرائيل بالموافقة الوهمية ، على حد علمي لم يجزم أحد ، لكن كلماته حين ذهبنا إلي غزة هى ما تجزم ، ما زلت اذكر كلمته فلا تخونني ذاكرتي ، وقف ناصر في مدرسة الزهراء أمام الشعب الفلسطيني قائلا " إننا لن ننسى أبداً المؤامرات التي دُبِرت للقضاء على القومية العربية في فلسطين ، وإذا كنتم أنتم أهل فلسطين قد اعتبرتموها موجهة لكم ، فإننا نحن أهل مصر نعتبرها وُجِهت لنا أيضاً "
وقال عن تطوعه في حرب فلسطين " لما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعاً في أعماقي بأن القتال في فلسطين ليس قتالاً في أرض غريبة ، وهو ليس انسياقاً وراء عاطفة ، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس" ، وبعدها تم تبني مصر للعمل الفدائي انطلاقاً من غزة.
ما زلت اذكر الوجوه الحامية المتحمسة لذلك القرار داخل فلسطين ، كان ناصر زعيماً أحبه كثيرون بلا شك واعجبوا بالناصرية ، ولكن في رأيي لم يكن حكم عبد الناصر صائباً في كل قراراته ، ولم تكن الفئة الحاكمة حوله هى الأحق بالمكان والسلطة التي أخذتها ، كنت في منصبي وأرى الأخطاء التي تحدث وتردي البلد بدلاً من الرفعة به ، واليوم وأنا اكتب مذكراتي أو ما اتذكر منها اُحمِل ناصر الكثير من تدهور الحال الذي أراه بعيني ضابط متقاعد و...
وبعودة لقرار تبني مصر للعمل الفدائي تم تدريب أكثر من ألف رجل من ابناء غزة وخان يونس ومعظم قرى فلسطين بقيادة ضابط المخابرات مصطفى حافظ والذي اعترفت اسرائيل بعدها انه من افضل العقول المصرية واطلق عليه الموساد ' الرجل الظل ' ، وتشكلت منهم الكتيبة 141 وقامت بتنفيذ أكثر من مائتي عملية ضد الصهاينة لدرجة أن خسائرهم تم تقديرها بأكثر من خسائرهم وقت العدوان الثلاثي ، حتى اغتالوا مصطفى حافظ في يوليو 1956 برسالة مفخخة بخطة وضعها موشيه ديان بنفسه بعدما فشلوا كثيراً في قتله
وبسبب تلك الخسائر ومع تأميم قناة السويس حدث العدوان الثلاثي من اسرائيل لاحتلال سيناء وضم قطاع غزة لسلطتهم ، ومن فرنسا انتقاماً من عبد الناصر لانه ساند ثورة الجزائر وأمم القناة التي كانت تحت إدارة فرنسية ، ومن بريطانيا لانه حقق جلاء الانجليز وأنهى استعمارهم في مصر ، وبالفعل احتلت اسرائيل سيناء وأخذت غزة ثم أعادتهما إلي مصر بعد تدخل امريكا وروسيا وأمرهم بالانسحاب ببداية مارس 1957 ، فخرجت مصر بصورة أقوى وأكثر تماسكاً دولياً ، وحافظ ناصر على مكانته كزعيم صامد له كلمة مسموعة.
كان عقداً مليئاً بالأحداث لدرجة انني انسى الكثير مما حضرته ، وبينما انشغل العالم بقيام حلف وارسو وتحالفاته ، كنت منشغلاً بمجزرة قرية كفر قاسم التي نفذتها اسرائيل في الفلسطينيين العزل فقتلت الرجال والنساء والأطفال ، ثلاثة وعشرون طفلاً اكاد اتذكرهم جميعاً ، بعدها عدت إلي مصر ، وتابعت الأخبار وصداها ، حين أسس ياسر عرفات والآخرون حركة فتح ، وتأسست منظمة التحرير الفلسطينية برعاية جامعة الدول العربية وبدعم مصري ، وخرج منها جيش التحرير الفلسطيني ، واحتفلنا ببناء السد العالي و.... )
.................................................
انسدل ظلام الليل على شواهد قبور ادركت مثواها ، تقطعه خيوط من اضواء ضعيفة ، فتوقف اياد أمام بوابة انكسر قفلها ناظراً إلي الواقف أمام مقبرة حكم ، عند قبر عمرو حكم ، عمه ، وضابط المخابرات من قبله ، مَن أسمى ابنه على اسمه ، مَن قُتِلَ بيد رجال الموساد بإحدى مهامه
يسري صوت افرايم فحيحاً وسط الهدوء التام
" لم أظن انك ستأتي خاصةً بعدما عدت إلي مهمتك "
انقبضت يداه غضباً بإشارة افرايم إلي تلك الخيانة التي لم يكشفها أحد بعد حتى استدار ورأى وجهه عن قرب
" لكنك لا تقاوم شهوة الانتقام "
وتحول الغضب كله إلي تلك الشهوة ، يجعله لا يرى حقاً ، يقاتل لنهاية موت حتمية حتى لا يقتله الفراغ فكراً وعدواناً ، حين كان افرايم ميتاً ، أما الآن فليس بعد ، أما الآن فقد لاح للحياةِ أمل
ضرب افرايم على سطح القبر فأوقد غليان دمائه وهو يخرج القلم يلوح به يستفزه
" لم يحالفني الحظ لمقابلة عمرو حكم الكبير .. تقول ملفاتنا انه كان ناصري بجدارة .. ربما لم يفهم أن عبد الناصر ذاك هو مَن أغرقكم ودمر شعبكم .. ترمون بفشلكم على خططنا ومؤامراتنا وهو فعل قبلنا "
في العتمة تزيد أكثر تلك الشهوة ، واقترب اياد مشحوناً بالعنف فقفز فجأة بضربة واحدة
" كلام مُتوَقَع من الضباع حين تتحدث عن الأسود "
نطقها وتشابكت أيديهما في عراكٍ منتظر ، ما بين ثأر وثأر ، ودماء تنزف وألم لا يستسلم ، يفرغ اياد غلاً لا ينتهي فلا يجاريه افرايم هذه المرة رغم تكافؤ القوى
كيف تقف أمام أنفاس أحدهم خنق أنفاس أقرب الناس إليك ، وتنظر إلي حياته بعدما سلب حياتك ؟، تترك عنان غضبك يبلغ منتهاه فلا خطط ولا أوامر تتبادر إلي ذهنك اللحظة ، فقط توحش يدفعك كلما أغرقت الدماء وجه قاتلك ، ليخرجه بضربات أقوى فيتغبران تراباً وجنونا
بلحظة غدر أخرج افرايم سكيناً فشق صدر اياد قبل أن يدفعه بقدمه مغتاظاً لاهثاً بشدة الألم
" إن كنا الضباع فأنتم النعام الذي يدفن رأسه عن سماع الحقائق .. العرب يُظهِرون اسرائيل خائفة من عبد الناصر وغيره وتُظهِرون رجالها ضعفاء لانكم تخافون الحقيقة .. تصدرون الأكاذيب إلي شعوبكم كي تظل عابثة لاهية في استهانتها بنا فلا تفهم الحقيقة حتى لا تتمرد عليكم أولاً .. أنتم مثلنا تماماً .. مخادعون .. إن ظنت الشعوب فينا ضعفاً فسيظلون هم أيضاً ضعفاء فلا داعٍ للقوة "
لم يشعر اياد بنزيف دمه ، أسكت الألم واقتربت خطواته ثابتة بهدفٍ أمام عينيه ، فأسقط السكين قبل أن ينغرس بجسده وأكد كلامه ساحقاً فكه
" لا داعٍ للقوة حقاً "
سقط افرايم بعدة لكمات ساحقة قابضاً على القلم لأخر لحظة ويده الأخرى تمسح الدماء عن عينه فيبصقها مع عناد كلماته
" نسيت سؤالك هل جئت وحدك أم مع رجالك ليحملوك كالمرة الماضية ؟!.. هذه المرة جثتك "
لم يرد اياد وهو يأخذ السكين يرفعه لطعنه بكلمة نهاية
" أعدك أن ينغلق الأمر بإعادة جثتك أنت أمام أعين الموساد كأخيك "
رأى منه ابتسامة باردة وهو يرفع عينيه إليه لم يفهمها إلا حين تفاجأ بضربة على مؤخرة عنقه فقاوم الدوار وهو يستدير إلي شارون فاقداً توازنه لكنه لم يمهله وهو يدفعه بلكمات في وجهه وجرح صدره ، وقع السكين أمام بوابة المقبرة ليسمع ضحكة افرايم الساخرة رافعاً يده بالقلم مجهداً
" أما زلت تصدق أنك ناب الأسد كما اطلقوا عليك ؟!.. ناب الأسد في يدي هذه المرة وسيتلطخ بدمائك لترفع منه وصمة دماء أوري "
لمع القلم في عينيّ اياد فنفخ في نار تستعر ليدفع رأسه بجبهة شارون ثم يكيل له قبضات أوقعته
" المرة السابقة قتلت منكم ثلاثة دفعة واحدة لذلك اتوسل إليكم أن تحضروا يوسي لننتهي من هذه المهمة الثقيلة "
في مرماه كانا يقفان ، أمام رصاص سلاحه الماكر ، لكن افرايم اطلق رصاصة واحدة كانت إشارة لينهال الرصاص فجأة من رجاله المختبئين فتراجع شارون نحوه بينما احتمى اياد عائدا داخل المقبرة فإذ به يسمع إشارة أخرى لاستدعاء رجالهم ليراه
" حكيم !.. كيف جئت هنا ؟! "
كل منهما خلف جدار معداً سلاحه فأجابه
" هل تظنني ساتوقف عن مراقبتك بهذه السهولة ؟! "
ابتسم اياد ساخراً
" ظننت انني الوحيد الذي كسرت مراقبة الصقر ! "
رد حكيم وهو يطلق على أحدهم
" أنا مَن أعطيتك إيحاءً بهذا "
يراقب اياد موقع افرايم فلا يغيب عن عينيه ثم يعلو صوته وسط الرصاص
" حكيم عد هذه ليست مهمتك "
اطلق رصاصة أصابت ساق شارون أسقطته صارخاً فأمر افرايم بوقف اطلاق النيران وتراجع رجاله وهو يسمع صوت حكيم
" بل هى كذلك وأكثر "
لذلك جاء ، لانها معركته وليست فقط مهمته ، لانها أصبحت ثأراً يريده في ساعات قليلة قبل أن يذهب لموته
عاد الهدوء يسود إلا من صدى الرصاص ورائحة البارود ، وانقشع الغبار لتجتمع الخصوم مجدداً وجهاً لوجه ، فصرخ شارون متوجعاً
" اجعلهم يطلقون عليهما لماذا اوقفتهم ؟! "
وقف افرايم متراجعاً بمكر
" أنت قلت لا "
نظر شارون إليهما ثم إلي دمائه التي تقطر أرضاً فتزيده توحشاً ، حق اصابته بئر دماء لن تكفيه ، السلاح في يده لابد من أن يذبح وإلا لن يعود لغمده ، فرفعه ناظراً لعينيّ حكيم بسؤال واحد
" كيف حال الدكتورة .. هل أرتك إمضاء يوسي أم ليس بعد ؟! "
دوت ثلاث رصاصات في ثانية وربما أقل فشق صوت اياد صمتاً آخر
" حكيـــــــم "
تلك الثانية .. تحركت يد حكيم كأنها أخذت الأمر وحدها ، بسكين التقطه حين جاء فقذفه ليرشق في منتصف قلب شارون تماما
تلك الثانية .. سقط حكيم بين ذراعيّ اياد بعدما استقبل صدره الثلاث رصاصات
تلك الثانية .. ركض افرايم هارباً من فوق جثة شارون
تلك الثانية .. لم يجد اياد ما يطلق عليه فوقع سلاحه متأثراً بجراحٍ لا تُشفَى
تلك الثانية الأهم .. والدماء تسيل من جسده وبين شفتيه وهو يلفظ أنفاسه الضعيفة ، ربما الأخيرة ، سلاحه في يده ، ويده الأخرى تحارب لتصل إلي زرٍ بساعته يضغطه قبل النفس الأخير
تلك الثانية .. أغمض حكيم عينيه.
.................................................
أغلقت غفران المذكرات حين وجدت عيني روزان تنغلقان بين نوم ويقظة على كرسيها فصمت صوتها الحنون ، وضعت الدفتر وأعادت فنجاني الشاي الفارغين للصينية لتساعد روزان على النهوض ، في طاعة تقارب استسلاماً تركت روزان نفسها لتقودها حتى سريرها وأغلقت عينيها ، دثرتها واطفأت الضوء لتترك مصباحاً خافتاً وتخرج ، إلا انها سمعت اهتزاز هاتف روزان فعادت لتراه لعلمها أن روزان لا تمسكه هذه الفترة ، وجدت رسالة جديدة ضمن عدة رسائل للعمل لم تجاب بعد
رسالة من حكيم ترددت في فتحها لكنها ألقت نظرة على روزان ثم فتحتها لتجلس على حافة السرير بقلق
" روزان .. حكيم ارسل إليكِ رسالة لكنها تبدو .. تبدو رسالة وداع ! "
تلك الثانية .. فتحت روزان عينيها.
.................................................
أسرع افرايم بسيارته رامياً عينيه المتورمة على المرآة حيث يطارده اياد بعد لحظات من انطلاقه فتزيده السرعة انتشاءً وسخرية ، حكيم مقابل شارون وانتهى بعض ما يزعجه الليلة ، ولا شاهد أمام الموساد سوى شارون نفسه ، وإلي حين تتعامل المخابرات المصرية مع الأمر ستكون القائمة تسعة في خبر كان ، وهذا ما لن يستفيد منه كثيراً ، إنما هى خطط الموساد لاخراس الأصوات المضادة
اتسعت ابتسامته الدامية حين لحقته سيارة اياد فضربت مؤخرة سيارته ، ثم دفعه لجانب الطريق الصحراوي فردها إليه لينطلق بسرعة أكبر متجهاً لبقعة ضوء على مرمى بصره
يطارده اياد والغضب يشتعل في عروقه رغبةً في تمزيقه فلن يفلت منه اليوم ، حتى صدم السيارة مرة وأخرى وأخرى ، فتوقف افرايم منحرفاً لينزل اياد يفتح بابه ويجره من ياقته دافعاً جبهته برأسه الأصلع صارخاً
" يا ابن الـ.... أخذت مني زوجتي وابنائي واليوم صديق عمري .. اقسم انني سامزق فيك حتى تتوسل الموت من الألم .. لن اسلمك لأحد أنت تخصني أنا ولو خالفت الأوامر وحوكمت لن يقتلك غيري "
ينضرب ظهره بالسيارة بقوة لكنه يضحك بشراهة شامت وغل متحجر رغم جسده المتهاوي ودواره العنيف
" لن تستطيع قتلي .. بالأمر الواقع أنت الوحيد الذي سيحافظ على حياتي لأن حياتك أنت ما زالت في يدي "
تحرك ذلك الضوء من بعيد مقترباً ، سيارة نقل ضخمة توقفت ونزل منها رجاله مجدداً مر عليهم اياد بعينيه ، لكي تقتل الثعبان ما عليك سوى قطع رأسه فيهمد اتباعه بلا جدوى ، وهو معه رأس الثعبان كالمرة الماضية ، ولن تنتهي كالمرة الماضية .. بل اسوأ ! ، حين نظر افرايم إلي أحدهم فمد يده بجهاز صغير يضغط زراً فانسدلت لوحة كبيرة على جانب صندوق السيارة من قطعة مضيئة مثبتة أعلاه ..
لوحة أجمل من كل هذا الدمار والشر ، لوحة لطفلة صغيرة بديعة الجمال ، ملامحها تمحو حزن الروح ، بيضاء بشعر أسود مموج قلبية الوجه رفيعة الشفاه ، طفلة ذات أربعة أعوام !
نظروا إليها ساخرين إلا هو ، فقد ضربت كلمات افرايم قلبه وهو يعيد تشكيلها على الصورة ، كانت حياته حقاً في يده
نبض قلب اياد نبضات مختلفة وعيناه تتسمر على الصورة ، وضحكة افرايم تجلجل شرسة تمزق ذاك القلب
" رحبوا معي بحفيدة حكم .. ابنة سيادة الرائد .. ابنة ناب الأسد .. الحقيقية ! .. خطة الخمسة عشر عاماً ما زالت مستمرة .. وستكتمل "
انتهى
أنت تقرأ
روزان للكاتبة نورهان عبدالحميد
Romanceبعد ألماسة الفؤاد وعشقك عاصمة ضباب تعود الكاتبة ساندي نور باسمها الحقيقي و.... " اكتملت القائمة تسعة ، إنها ليست متاهة ، لكن خلف أحد الأبواب هناك الحب ، وخلف آخر هناك الواجب ، وخلف آخر هناك المسؤولية ، وخلف آخر هناك قبر مَن يجده سينجو أحباؤه ، وهذا...