"افتقدت ظلك، نعم لم أكن أرى سوى ظلك، كُتب لي أن أرافق الظلال إلى الأبد"
_منه سليمان
❑❑❑❑❑❑❑
في غرفتها، تجلس متقوقعة على نفسها، تجلس هكذا إلى ما يقارب ثلاثة أيام، لم تتحدث، لم تأكل أو تشرب، شحُب وجهها و فقدت وزنها قليلا، لم تكن تعلم أن الأمور ستضخم هكذا، طيلة سنوات عمرها الأخيرة لم تحبذ التحدث عما يدور في خلدها، أو مما تعاني، في لحظةٍ عابرة.. كُشف كل شيء.
وجدت الباب يدُق كسائر الأيام الماضية، لكن دون إجابة ، الجميع يشعر بالقلق حيالها، لكنها لا تريد مواجتهم.. تخشى نظرة الشفقة في عيونهم، لا تعلم ما يتوجب عليها فعله.
اعتدلت في جلستها، أعادت شعرها الناعم القصير إلى الخلف ببطئ، زفرت علها تُخرج ما بداخلها و لكن كما تُذكر هي نفسها دائما "ما بالداخل، سيبقى بالداخل"، خرج صوتها مُرهق هادئ: ادخل.
دلف مدحت بهدوء، أغلق الباب خلفه، وقف مُطيلًا النظر إليها، أختُه الصغيرة تعاني و هو لا يستطيع مساعدتها، لا يُريد إرغامها على أن تخضع للدواء، تذكر مقابلته ليوسف و ما قررا فعله لإقناعها، تقدم منها و جلس جانبها واضعًا يدَه على كتفها برفق.
نظر إليها بحنان، كانت تنظر أمامها دون أن يرف لها جفن، تعجب مدحت من جمودها.
شعر بالعجز أمامها، لا يقوَ على التحدث، لا يريد قول شيء يندم عليه بعد فترة، أخذ يستنشق بعض الهواء علها يستعيد لبقاته في الحديث و يُهون هموم أختِه الصُغرى، و لكن كيف؟!
نظرت إليه تشعر بتخبطه، لم ترد إنهاك عقله أكثر من ذلك فخرج صوتها البائس: ما تقلقش هبقا كويسة، مش أول مرة تحصلي حاجة تنكد عليا يعني.
قالت كلمتها الأخيرة بتهكم و سخرية، اعتدلت في مكانها و تحدثت بجدية منافية لنبرة صوتها منذ قليل : بس عارف أملي في ربنا كبير أوي، إنه يشفيني و يريح بالي، عمري ما حسيت بالوحدة و أنا متأكدة إني ليا رب بيدبرلي كل حاجة، إيماني بربنا عمره ما كان ضعيف و لا اتهز، بالعكس كل موقف و كل مشكلة كنت بتحط فيها ببقا متأكدة أكيد وراها حاجة جاية هتفرحني، و ده إلي بيحصل فعلا، علشان كده مش عايزاكم تدايقوا نفسكم على إنكم ما كنتوش معايا، أنا مبسوطة إنكم معايا دلوقتي و إني في وسطكم.
اقتربت منه تحتضنه و تربت على ظهره برفق و نبثت بنبرتها الحنون الدافئة : أنا عايزاكم تفرحوني و تكتبوا كتابكم كلكم علشان خاطري.. ماشي، نفسي نفرح شوية.
خرج صوته محشرج : طيب و يوسف.
ابتعدت عنه، نظراتها إليه لم توحِ بالخير، قالت بصوت عالٍ غاضب : اطلع برة يا مدحت، يلا و أنا هعمل شوية حاجات و انزل، و يا ريت تجمعهم كلهم.
◯◯◯◯
بعد خروج مدحت من الغرفة، ظلت تترقب دخول أحد غيره لتقُم بتوبيخه، تتخبط من الداخل، تريد النهوض و مواكبة حياتها و لكنها ترى أنهما لا تملك القدرة على فعل شيء سوى الحزن، ابتسمت بسخرية لاذعة تؤنب نفسها التي ستودي بها إلى القاع.