-الفصل الثامن-

325 14 3
                                    

لم يكن ذلكٓ الصوت الذي يتسلل إلى مسامعها مجرد لحن جميل..لقد كان...أشبه بأسطورة عتيقة الجمال.. كمعجزة تم تخليدها عبر الأزمان..كحكاية دافئة تسردها أم حنونة لطفلها الصغير قبل النوم..

و قد اتخذت أنامله اليوم هوية الراوي..و كأن هناكٓ قصائد و أشعار تسرد خلفها..من حولها..تتسلل إلى أذنيها متمردة في اجتياح قلبها و كل جوارحها..

كانت تقف أمام النافذة الصغيرة الجانبية..نفسها التي وقفت خلفها ذلكٓ اليوم تراقب رجلًا غريبًا اكتشفت للتو صفة جديدة عنه فاقمت من تخليد صورة غرابته و اختلافه عنها..

لقد كان الرجل الذي توقف هناك يرفع سيجارة يدخن بين أنامله بهدوء بينه و بين نفسه..نفس تلكٓ الأصابع التي كانت تحمل السيجارة يومها هي من كان ترفع القوس متنقلة بين الأوتار اليوم بانسجام شديد..

و كأن مهمتها الوحيدة في الحياة مد روحها المنهكة طويلًا ببعض طاقة الحياة..أن تنقلها من عالمنا الواقعي المجرد الكئيب إلى عالم خيالي جميل حد الانبهار..

أما صوت قطرات المطر التي تحرّرت أخيرًا مؤكدة توقعها السابق و التي كانت تمتزج الآن بصوتِ لحنه فقد كان حكاية أخرى..حكاية قد لا يكفي عمر كامل لسردها..

لقد طلبت منه أن يعلمها العزف..و ها هي ذي تقف منذ دقائق عديدة..توليه ظهرها..مغمضة عينيها..عاقدة ذراعيها..تتأمل تلكٓ الألحان..تتأمله هو حصرًا بروحها و بكل جوارحها..

أما كان يجدر بها الآن أن تجلس أمامه محاولة تتبع حركات أنامله بتركيز كما طلب منها ؟! لكنها وجدت نفسها بدون أن تشعر أو تعي ذلكٓ تقف من مكانها لتتجه إلى هذه النافذة كالمنومة مغناطيسيًا ما إن بدأ صوت عزفه بالتسرب إلى روحها..

ربما ما كانت تريده فعلًا هو لحظات الصفاء هذه..بعيدًا عن العالم أجمع..بعيدًا عن عملها و منزلها و حياتها...مع رجل كان غريبًا حتى الأمس ربما..

لكنها تشعر به اليوم بطريقة ما..و قد بات بسِحره يجتاح كل ذرة من كيانها..

تشعر به قريبًا..قريبًا جدًا منها !

لقد كانت تتوقع منه أن يعترض على وقوفها المُباغت و ابتعادها..لكن العكس تمامًا هو ما حدث..فما إن وضعت الكمان فوق الطاولة أمامه..

و امتدت يداه تلقائيًا يخرجه من حقيبته الأنيقة و يبدأ في تعديله ملامسًا تلكٓ الأوتار بأطراف أنامله الخشنة ببطءٍ و كأنه يلامس ذكرى قديمة..لكنها تظل غالية على قلبه بقدر الحنين الذي غلف تلكٓ الأنامل و العينين..

لم ينطق بكلمة واحدة..فقد رفعه بتأني و هدوء شديد ليسنده إلى كتفه برفق..و ارتخت أنامله و هو يرفع القوس ليلامس به الأوتار أخيرًا مغمضًا عينيه بسلام..و يلامس قلبها أيضًا بلحن ما توقعت أن تسمع بروعته يومًا..

كَرصِيف محطّة مهجورةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن