بسم الله الرحمن الرحيم
ملاكي الساقط
تنويه
• الرواية مقتبسة من شخصيات حقيقية واحداث حصلت بالفعل وقد تم حذف كل أسماء الأماكن والبلاد وتغيير جميع أسماء الابطال_ معادا اسمي بالطبع_ حفاظا على خصوصياتهم وأي تشابه بين الأسماء وبين الواقع هو من محض القدر ولا أقول محض الصدفة لأنني لا اؤمن بالصدف
مقدمة
قدرا وضعها الله في طريق حياتي لتغيرها أو لأغيرها أو الاثنين معا...
إلى بطلة القصة الحقيقية هذه صرخاتك المكبوتة احاول نثرها في الكون بأسره فليصمت الكون وليستمع لصراخك واستمعي له بإمعان، عسى الله أن يعنيني على تحقيق وعدي لكي، وعسى أن يهب لي خالقي القدرة على إبلاغ العالم بحكايتك.
كتبت شمس في مذكراتها، في هذا الدفتر المكتوب على غلافه تلك الحكمة الملهمة
"لكي تتبع النور يجب أن تتعلم كيف تسير في الظلام"
كتبت بطلتنا:
لا أدري من اين أبدأ، لم يخطر على بالي قط أنني قد أكتب قصة حياتي في يوم من الأيام ، لا أدري حتى هل في حياتي شيئا مهما يستحق السرد، هل مررت أساسا بالحياة لأكتب قصة حياتي أم أن الحياة هي التي مرت فوقي فدهستني وجعلتني في تعداد الموتى... ربما أنا مجرد شبح لا أكثر!
********
الفصل الأول
(على محك الموت)
-ايه الكلام اللي بتقوله ده يادكتور، يعنى خلاص كده مفيش أي أمل
-انا اسف والله يا جماعة لو فيه أي أمل حتى لو نص فى المية انا كنت قلتلكم متشلوش الأجهزة، في كل الأحوال انا مش خسران حاجه بالعكس، اي حد مكاني كان ممكن يديكم أمل كذاب عشان تفضلوا تدفعوا فلوس للمستشفى عالفاضي ولكن ضميري ميسمحليش بده مش هو ده اللي رباني عليه دكتور ياسر، احنا اهم حاجة عندنا مصلحة المريض وأهله زي ما حضراتكم عارفين ...
وقف دكتور يحيى ياسر عبد الجواد _أمام المريضة الغارقة في غيبوبة أبدية منذ قرابة السبعة أشهر _ يشرح لذويها تطورات الحالة أو بمعنى أصح (تدهورات) حالتها، فمنذ دخلت شمس إلى مستشفى والده الدكتور ياسر عبد الجواد - منذ قرابة السنة أشهر- ولم يحدث أي تطور ولو بسيط في حالتها، أي تطور ولو بسيط في حالتها كان سيعطيهم أمل يدفعهم لإبقائها متصلة بالأجهزة التي تبقيها متصلة بالحياة، ولكن مادام كل الأطباء في المشفى_ ماعدا دكتور يوسف ياسر عبد الجواد_ اقروا أن حالتها ميؤوس منها فلا داعى لتعذيبها وتعذيب أنفسهم أكثر من ذلك...
استكان الأهل والزوج أخيرا لفكرة نزع الأجهزة من جسدها وتركها للموت وعدم معاندة القدر، لم يجادل أحدا منهم دكتور يحيى وهو يجعلهم يوقعون على إقرار بموافقتهم على تخليص جسدها من الأجهزة التي تبقيها عنوة على محك الحياة
هذا الإقرار الذي أقر الزوج سابقا بالموافقة عليه بعدما تأكد من خيانتها له، ولكنه مازال مستمرا في زيارتها من أجل أولادهما...
بدأ الممرضات في مباشرة عملهم كما أمرهم دكتور يحيي بناء على تعليمات والده الدكتور ياسر، عليهم أن ينتهوا سريعا قبل أن ينتبه أخوه الدكتور يوسف لما يفعلونه بحبيبته شمس...
من بين الممرضات تسللت كوثر عليوة لتخبر دكتور يوسف بما اقدم عليه أخاه برعاية أبيه، كان دكتور يحيي يعلم مسبقا بما ستفعله كوثر لذا كان منتبها جيدا لها واستطاع أن يوقف عملية تسللها _هذه المرة_ في اللحظة المناسبة، حيث تسللت كوثر في المرة السابقة وتوجهت نحو دكتور يوسف لتخبره بأن دكتور يحيي أقنع زوج شمس بالإمضاء على إقرار بالموافقة بنزع أجهزتها وقد كان على وشك إقناع أهلها أيضا ولكن كوثر سبقته إلى أخيه وحبيبها يوسف والذي قدم إليهم واقنعهم بعدم الامضاء على هذا الإقرار... تنهدت كوثر وبكت وانتحبت مع أهلها وزوجها وكأنها منهم برغم انها وشمس لم يكن بينهما اي سابق معرفة ولكنها منذ رأتها للوهلة الأولى حين دخلت إلى المشفى في حالة غيبوبة كاملة شعرت كوثر بشيء ما غامض اتجاه تلك المريضة الغامضة، شيئا يشبه إلى حد ضئيل ما شعر به دكتور يوسف اتجاهها، ولا احد يدري حتى الآن هل دخولها إلى مشفى والده كان أول عهدهما معا هي ويوسف ام أن بينهما سابق معرفة، في الحقيقة أنهما مشكوكا جدا في علاقتهما التي يشوبها الغموض والارتياب...
حاولت كوثر تعطيل العاملين على إنهاء حياة شمس قدر الإمكان حتى تفكر في طريقة ما لتخبر بها دكتور يوسف بما يجري هنا لشمس حبيبته، لكن في الحقيقة كوثر لم تكن في حاجة لفعل اي شيء لتعلمه بما يحدث فقد هام طيف شمس في المستشفى حتى وصل إلى بغيته وبطريقة ما غامضة شعر يوسف ببوادر احتضار فعلم أن هناك خطب جلل يحدث في غرفة العناية المركزة الخاصة بحبيبته فركض ملهوفا مضطربا نحوها، وعندما رأى هذا المشهد المرعب المهيب فقد صوابه وصرخ بهم صرخة مدوية أمرا إياهم أن يتوقفوا على الفور، التفت بغضب عارم باتجاه أخيه، اقترب منه والشرر يطق في عينيه، أمسك بلياقة قميصه بعنف وراح يهزه ويصرخ فيه موبخا إياه بأبشع الألفاظ، شعر دكتور يحيي بالحرج الشديد فنفض يد أخيه بقسوة من على لياقة قميصه وانصرف مغاضبا باتجاه مكتب والده ليشكو له ما حدث من أخيه ويحكي له كيف أبطل مخططهم للتخلص من شمس مجددا
ترك دكتور يحيى يوسف في مواجهة أهل شمس وزوجها الذى كان ينظر إليه في حنق وهو يزمجر غيظا كأسد جوعان يتربص بفريسته، قرأ دكتور يوسف كالعادة اتهامات الخيانة في عين الزوج وحتى الأهل فحاول التخفيف من وطأة الموقف بحيث راح ينوه أولا أن ما كان يحدث الآن هنا ليس إلا عملية قتل حقيقية لا يقبلها ضميره ابدا كطبيب معالج لهذه الحالة النادرة ثم شرح لهم كيف أن ضميره يحتم عليه الإبقاء على حياة المريضة وعدم تركها للموت حتى ولو لم يكن هناك أمل من نجاتها سوى نصف في المائة وهذا مارباهم عليه والده الدكتور ياسر صاحب المشفى، فهم في الأصل لا يهمهم سوى مصلحة المريض وأهله... فلربما تحدث المعجزة وتشرق شمس من جديد!
"انت واحد نصاب وحرامي، كل الدكاترة هنا أكدولنا أن مفيش أمل أنها تعيش وانت الوحيد اللي مصمم تعلقنا بأمل كداب عشان تخرب بيوتنا، عموما انا مش دافع ولا مليم احمر تانى عشان الخاينة دي ...خليهالك اشبع بيها "
هكذا قاطعه الزوج الذى مازال يزمجر بغيرة وخنق حيث لم يصدق كعادته ولا كلمة مما قالها يوسف ثم تركهم فجأة وانصرف وهو في أوج غضبه، شعر يوسف بالحرج الشديد وحاول الدفاع عن نفسه وعنها للمرة الأولى بعد الألف فنفى تهمة الخيانة عنهما مؤكدا لهم أنه فقط يشفق عليها كمريضة ويقدس حياتها كطبيب وهذه هي العلاقة الوحيدة التي تجمع بينهما، لكنه تفاجئ أن أهلها مازالوا لا يصدقونه والأعجب من ذلك أنهم غير مستائين نهائيا من تصرفات زوجها الرعناء بل إنهم راحوا يدافعون عنه ويشيدون بأخلاقه كالعادة مدعين أن أي رجل في محله كان سيتصرف نفس تصرفه، وكنوع من تبرير مواقفه وأحاديثه المقيتة مع يوسف راحوا يشرحون له على استحياء كيف تأثروا جميعا ماديا بسبب مصاريف العناية المركزة بابنتهم حتى أنهم انتقلوا من الطبقة فوق المتوسطة ميسورة الحال إلى ما تحت خط الفقر...
لو كانوا أعطوه فرصته منذ البداية لقدم لهم يوسف عرضا سخيا، فهنالك فاعل خير سيتبرع بكل تكلفة أجهزة شمس وغرفتها في المستشفى ، وبذلك ضمن يوسف عدم تفكير أهلها في نزع حياتها القليلة المتبقية منها مجددا، كان الجميع يعلم أن فاعل الخير هذا هو يوسف بعينه ولكن شعورهم بالخزي والعار اتجاه ابنتهم جعلهم يرفضون التصريح بما فهموه، وقد فهموا من تصرفه هذا أن خيانتهما مؤكدة فقلت زيارتهم لها تدريجيا حتى تلاشت تماما وكأنهم اعتبروها ماتت حقا، وفي النهاية لم يتبقى بجوارها سواه هو...
جلس يوسف على كرسي بجوار سريرها يتأملها بأسى كعادته وهو يعِدُها كالعادة أنه لن يتخلى عنها أبدا حتى ولو فعل الجميع، وفي أثناء تأمله الحميمي لها طرأت على باله فكرة اسطورية قد تعيدها للحياة، لام يوسف نفسه بشدة لأنه كان قد نسى هذه الحيلة القديمة المجربة بنجاح والتي يعلمها الجميع، مال ناحيتها، ذم شفتيه في لهفة، وهم بتنفيذ حيلته ولكن كوثر داهمت الغرفة لتنبأه بأن خطيبته بانتظاره في المكتب، ذم يوسف شفتيه في ضيق، تأمل شمس للمرة الأخيرة قبل أن ينصرف، وبعد أن انصرف دخلت كوثر الغرفة، اطمأنت على شمس وغطأتها جيدا، ثم قبلتها في جبينها وانصرفت مغلقة الباب خلفها
فتح يوسف باب مكتبه فوجد روان خطيبته حزينة في انتظاره، كظ على أسنانه وهو يبتسم محاولا اخفاء ضيقه من وجودها ولكنها برغم كل شيء لاحظت استياءه فدمعت عينها وقالت محاولة الحفاظ على ماء وجهها:
متضيقشى قوى كده يادكتور أنا اصلا مكنتش جيالك، أنا جايه ازور واحدة صاحبتى هنا في المستشفى بس قلت ميصحش معديش اسلم عليك الاول ...مش هى دى الأصول اللى ربتنى عليها يا...يابابا
ضحك يوسف في حنين عندما سمع كلمة "بابا" وحينها مر بخياله
تلك اللحظات الأولى التي أودعت فيها روان بين أحضانه ليصبح فجأة ابيها الصغير...
منذ قرابة العقدين حدث حادث سير مريع لأسرة روان الصغيرة توفيت على أثره والدتها ووالدها وأخيها الكبير، كان (هادي )أخوها من عمر يوسف حين توفاه الله، حيث لم يكن قد تجاوز العاشرة من عمره بعد في حين كانت (روان ) في بداية عامها الثالث في الحياة...
تولت والدة يوسف مسئولية ابنة أختها من بعد وفاة أختها، ومن حينها تولى يوسف رعاية روان الصغيرة تحت إشراف والديه...
راح يوسف يبتسم من جديد وهو يمر بباله ابتسامتها الأولى، خطوتها الأولى، ضحكتها الأولى، وحبه الأول...
روان حبه الأول الذي شب عليه قلبه وكان يظن أنه سيشيب عليه أيضا، لولا اقتحام شمس المبكر جدا لحياته، وانتزاعها لحب حياته من قلبه، لتصبح هي وحدها الماضي والحاضر والمستقبل...
سرحان في ايه! يوسف! يوسف... بابا!
كان يوسف نعم الاب لروان حيث اعتبر (روان) ابنته التي أهداها له القدر مبكرا، وقد كان يجد جل سعادته في ممارسة أبوته عليها، فبالنسبة مثلا لجانب الرعاية فقد كان كثيرا ما يعد لها طعامها ويُحضر لها ثيابها ويختار لها من الملابس ما يناسبها في كل مناسبة، وبالنسبة للجانب التعليمي كان يصطحبها إلى مدرستها كل صباحا ويعيدها إلى المنزل بعد انتهاء اليوم الدراسي، وكان يستذكر معها كل دروسها ويحثها على المذاكرة فأصبحت من المتفوقين في دراستها والنابغين المتميزين بفضل الله ثم بفضله، وبرغم حنيته المفرطة اتجاهها إلا أن الأب الصغير لم يتجاهل أبدا الجانب الأخلاقي والتربوي في تنشئة روان حيث بات يكافئها إن احسنت التصرف ويعاقبها إن اخطأت وقد ساهم ذلك في تنمية شخصيتها وتعديل سلوكها، وفجأة كبرت ابنته الصغيرة أمام عينيه لتصبح شابة جميلة فاتنة وليتحول حبه الأبوي الجامح لها إلى حب من نوع آخر ولكنه أيضا جامح...
هاااايه...مالك سرحان كده فى ايه... بقالي ساعة بكلم فيك وانادي عليك مبتردش... للدرجادى مش قادر تبطل تفكير فيها حتى وانا قاعدة معاك!
هكذا صاحت روان بغضب في يوسف، ففاق يوسف من سرحته الطويلة وسأل روان متلجلجا:
هى مين دى...تقصدى ايه!
تجاهلت روان سؤاله، وانصرفت بعد أن استأذنته مخبرة إياه أنها ذاهبة لزيارة صديقتها المريضة، دفعه فضوله للسير خلفها وهو يتسأل في نفسه من صديقتها تلك ياترى!
سارت (روان) تترنح في طرقات المستشفى كالسكرانة وشعرها الأشقر هائج خلفها من الغضب ، انقبض قلبه فجأة حين وجدها تقترب من غرفة شمس، بحيث عادت ذكرياته من الماضي القريب وتذكر غيرة روان اللا معقولة عليه، تذكر كيف كانت تتصرف مع كل أنثى تحاول الاقتراب منه...
تذكر زميلته في المدرسة الثانوية والتي كانت دائمة الاتصال بهاتف المنزل وكانت روان التي لا تتوانى أبدا عن مراقبته ليل نهار ولا عن التنصت على كل اتصالاته، دائما ما ترد عليها من هاتف أرضي آخر لتسبها وتوبخها لدرجة أنها هددتها بالقتل ذات مرة ومن حينها اختفت تلك الفتاة ولم يظهر لها بعد ذلك أثرا... فكر يوسف في هذا الحين أنه لابد أن روان لها يد في محاولات والده وأخيه للتخلص من شمس...
تذكر يوسف أيضا في هذه الأثناء زميلته في الجامعة التي تجرأت وزارته يوما ما في منزله، فاستقبلتها روان خير الاستقبال بحيث نتفت شعرها بأناملها وشوهت وجهها بأظافرها وسممت بدنها بسبها وطردها لها مر الطرد وكان يوسف يراقب الموقف من بعيد وهو يكتم ضحكه، فهو لم يتضايق يوما ما من غيرتها المفرطة، بل بالعكس فلطالما اشعرته غيرتها المبالغ فيها برجولته وايضا بمقدار حبها له...
لكنه لا يعلم لماذا يعتصر الضيق قلبه الآن وهو يراها تتأمل شمس بحقد من خلف الزجاج الشفاف المثبت في حائط غرفة العناية المركزة خاصتها، روان لا تصدق أن تلك اللعينة العليلة الضعيفة القبيحة استطاعت أن تسلبها حب حياتها بعدما فشل جميعهن في ذلك رغم حسنهن ، رغم أنهن ينبضن بالحياة وهي مجرد جثة هامدة
" هى دى صاحبتك"
سألها يوسف متوجسا مصدوما، فردت عليه بحسرة:
هى دى بقى يايوسف اللى خدتك منى ، عرفتها ازاى دى وامتى!
صمتت لثواني وهي تكبح نحيبها ثم استطردت بصوت خفيض كأنها تتحدث مع نفسها:
دخلت حياتك ازاي دي! دانا كنت معاك زي ظلك.
ايه الكلام اللي بتقوليه ده يا روان!
حاول يوسف أن يقنعها _ كما حاول من قبل أن يقنع الجميع_ أن شعوره اتجاه شمس مجرد مشاعر شفقة من طبيب اتجاه مريضته المسكينة لا أكثر، ولكنها لم تقتنع بكذبته تلك مثلما لم يقتنع أحدا أبدا بها، لم يسعى يوسف لبذل جهدا أكبر لجعلها تصدقه وتركها تنصرف منهارة غاضبة حزينة ، كل ما كان يفكر فيه يوسف في تلك الأونة هو معرفة الجاسوس الحقير الذى يوشي به وينقل كل أخباره لخطيبته، فوالده وأخاه من المستحيل أن يخبراها بأمر شمس حيث يعلمان أنها مجنونة حقا مهووسة بيوسف ومن الممكن أن ترتكب اي حماقة لأجل الحفاظ على حبهما تسلل يوسف خلف روان يراقبها وقبل خروجها من المستشفى لمحها تتحدث الى دينا الممرضة فشك ( بدينا) شكا اقرب إلى اليقين، سيتفرغ لاحقا لهذه الخائنة ولكنه الآن لديه مهمة أخرى أهم، عليه أن ينجزها على الفور، عسى أن تحدث المعجزة وتعود حبيبته إلى الحياة نافضة عنها ظلال الموت.
جلس أمامها يتأملها بحب وشغف وأمل ، ذم شفتيه ومال نحوها في شبق وقد لاحت أمام مخيلته مجددا كل الأساطير القديمة التي حكتها له أمه وهو صغير وكل أمهاتنا، تذكر سنو وايت التي عادت إلى الحياة بقبلة من أميرها العاشق، تذكر الأمير الضفدع الذي انقذته وأعادته إلى البشرية قبلة حب من أميرته، وتذكر الأميرة النائمة والتي فك سباتها العميق مجرد قبلة من حبيبها، سيطبع قبلته الآن على وجنة اميرته النائمة مزحزحا عنها كل الأجهزة التي تحول بينه وبين خدها دون إزالتها كليا، كان يتمنى أن يطبع قبلته الأسطورية على فمها لكنه لا يستطيع إزاحة الجهاز الذى يمدها بالأكسجين لأن قبلته حينها ستصبح قبلة الموت لا الحياة وسيحين بالفعل أجلها
كاد أن يطبع قبلته على خدها ولكنه تذكر أسطورة أخرى الجمته بمحله، تذكر الأسطورة الرابعة ، أسطورة خاصة صنعها هو بنفسه، أسطورة حبه لروان
في إحدى الأيام _ منذ قرابة السبع سنوات_ كانت روان مريضة محمومة، وكان يوسف جالسا بجوارها حزينا يرعاها ويمرضها، وفجأة راحت روان تهزي بأشياء غير مفهومة ثم طلبت منه أن يقترب منها أكثر لتخبره سرا خطيرا، ولما اقترب فاجأته بقبلة ساخنة على فمه وهى تقول بصوت واهن لكنه ساحر "احبك"، كاد أن يتطور الأمر أكثر لولا دخول أمه المفاجئ في هذه اللحظات الحرجة، أخفت الأم ابتسامتها واصطنعت الغضب ثم راحت توبخ ابنها منبهة إياه أن ابنة خالتهم أمانة عندهم يجب أن يحافظوا عليها، وعليه ألا يرتكب فعلته الدنيئة تلك مجددا أبدا، لم يشأ يوسف أن يبرأ نفسه ويوشى بحبيبته فرد على أمه مازحا:
انا مستعد اصلح غلطتى دى واجوزها
-تتجوزها ازاى يافالح مش لما تخلص تعليمك وتشتغل الأول، وبعدين البنت صغيرة، دى لسه فى الثانوية
تحول حديث يوسف من المزح إلى الجدية وهو يطلب من أمه أن يعلنا خطبتهما الآن هو وروان ثم يتزوجان بعد تخرجهما، ثم عاد للمزح قائلا:
وبالنسبة للشغل ، مش هنغلب يعنى ، مش هتبقى المستشفى مستشفة ابونا وندور على الغرب يشغلونا
تنازل يوسف لاحقا عن تكليف الدولة له بالعمل في إحدى المستشفيات الحكومية للتفرغ للعمل في مشفى والده ولكنه ندم مؤخرا على هذا القرار أشد الندم
نفض يوسف من عقله هذه الأفكار القديمة وعاد ليلتقط قبلة من على خد حبيبته القديمة الحالية، ولكن والده داهمه هذه المرة طالبا منه أن يلتحق به نحو مكتبه لأنه يريده في أمر هام، انتفض يوسف معتدلا في جلسته داعيا الله الا يكون والده قد لاحظ ما كان ينوى فعله، حمد الله عندما وجده ينصرف من غرفة العناية بشمس دون أن يعقب ولكنه استدار مستدركا وسأل يوسف في شك متوجسا عن ماهية ما كان يفعله الآن، فرد يوسف متوترا متلجلجا:
كنت بظبطلها جهاز التنفس... عشان حاسه مش مظبوط كده شوية
لكن والده مازال مرتابا فرد عليه متهكما:
ااااه... جهاز التنفس هو اللى مش مظبوط!
قبل أن ينصرف، أكد عليه مجددا أن يتبعه على الفور وهو سينتظره في مكتبه، سار يوسف خلفه قلقا متوجسا، كان يعلم علم اليقين أن هنالك مصيبة جديدة في انتظاره، وفجأة دون ارادة منه بدأت تطفو من مؤخرة ذاكرته بعض الذكريات الجميلة له مع روان، لربما ظن عقله الباطن أنه بهذه الطريقة قد يخفف من حدة ارتباكه، ولكنه اخطأ التقدير فزاد من حدة شعوره بالذنب اتجاه روان وبالتالي زاد من حدة ارتباكه وتوتره
لاح بمخيلة يوسف يوم حفل خطبتهما الساهر الساحر، وتذكر أيضا سهر روان بجواره ايام امتحاناته لتعد له الوجبات السريعة والمنبهات كي يبقى مستيقظا، تذكر المجهود الذي بذلته معه وساهم في حصوله على درجة الماجستير في مدة وجيزة جدا، عامين فقط، تذكر مزاحهما وضحكاتهما ونزهاتهما واحلامهما التي حلماها معا، تذكر بيت الأحلام الذى كانا يقومان بتأسيسه بكل حب خطوة بخطوة مع بعضهما البعض ، تذكر كل ما لم يكن لينساه ابدا لولا تذكره لشمس، حبه الأول والأخير
في مكتب والده كانت الأجواء شديدة التوتر بينهما، وقف والده باستقامة وعلامات التربص بادية على وجهه، ضيق عينه ومط شفتيه ثم سأله عن اخبار منزلهما هو وروان وعن تطورات العمل عليه من أجل زفافهما المتفق على إتمامه بعد قرابة شهرين ونصف الشهر تماما في يوم مولده مثلما يرغب هو، طمأنه يوسف أن كل شيئا على ما يرام، وأن العمل على إنجاز تجهيز المنزل جارى على أفضل وجه
"انت كذاب يادكتور"
هكذا داهمه والده برده صادما إياه قبل أن يكمل حديثه مبررا اتهامه:
روان كانت فى بيتكم النهارده بتطمن وصلوا لغاية فين، المصيبة بقى أنها لقت الشغل واقف من اكتر من شهرين يعني من يوم ما أهل شمس بطلوا يدفعولها مصاريف المستشفى و لما روان زعقتلهم عشان موقفين الشغل اكدولها أن انت اللي مديهم أوامر بكدة
صمت دكتور ياسر طويلا منتظرا مبررا من يوسف لفعلته، كان يوسف يفكر في كذبة مناسبة يبرر بها موقفه ولكنه لم يجد فاضطر إلى قول الحقيقة خائفا:
ممعيش فلوس يابابا
صاح به والده في غضب:
بابا دى فى البيت مش هنا يادكتور...وبعدين قلى مش معاك فلوس ازاى، بتصرف فلوسك على ايه وانا بديك مرتب يعيشك ملك ده غير انك ساكن قاعد نايم شارب واكل ببلاش ، بتصرف فلوسك على الراقصات والكباريهات ولابتصرفها على المخدرات ولا على ايه بالظبط
- ميصحش كده ياب...قصدى يادكتور...انا مش بتاع الكلام ده...وانت عارفنى كويس...انا ابنك اللى ربيته...انا مش صايع يابا...يادكتور
- ياريتك كنت صايع...ياريتك كنت بتصرف فلوسك على الراقصات والكباريهات والمخدرات، اهو لما تكون صايع احسن ماتكون مجنون...
- مجنون!
- اه مجنون ماهو اللى يعلق نفسه بواحدة كلنا عارفين انها ميته ويخلص فلوسه كلها عليها ع الفاضي يبقى اكيد مجنون...
ابتلع دكتور ياسر ريقه ثم قال معقبا وهو يجلس بعد أن خارت قواه وخانته قدماه بسبب شعوره بالعار:
فضحتنا فى المستشفى كلها، كل الناس بتتكلم علينا، بيقولوا الدكتور الأهطل اللى بيحب جثة ومخلص فلوسه عليها اهه...يابنى دا زاكان أهلها نفسهم وجوزها عارفين انها كده كده هتموت فى كل الأحوال ورفضوا يصرفوا عليها ويضيعوا فلوسهم ع الفاضي
كاد يوسف أن يبكى كمدا وهو يصيح في أبيه:
بالله عليك متقلش كده...شمس هتعيش..
ثم خفض صوته واشاح بوجهه بعيدا عن والده وقال محاولا طمأنت نفسه:
اكيد هتعيش إن شاء الله
اعتلى صوت دكتور ياسر بعض الشفقة على ابنه الذى سلب الحب عقله وهو يقول:
حتى لو حصلت المعجزة وعاشت، مش هتعيش ليك انت، هتعيش لجوزها واولادها واهلها، الست دى مش بتاعتك فى كل الاحوال، التفت لمستقبلك ومضيعش نفسك وفلوسك وتضيع واحدة ذى روان عشان واحدة زى دى وعشان حاجه مش بتاعتك ومش هتكون ليك ابدا ، لاما هياخدها عذرائيل منكوا وده الأحتمال الأكبر لاما هياخدها جوزها منك لومخدهاش عذرائيل منه
"محدش هياخدها منى "
هكذا صاح يوسف في نفسه قبل أن يقول لوالده:
يابابا...قصدى يادكتور انا قلت لحضرتك ميت مرة ان اللى بيدفع مصاريف علاجها فاعل خير وبيدفع الفلوس للجمعية الخيرية اللى قلتلك عليها واللى انت عارفها كويس والجمعية بتورد الفلوس للمستشفى عشان شمس وعشان باقى الحالات التانية اللى بيطوعوا بمصاريف علاجهم ، وده اكبر دليل على برآتى، مش شمس بس اللى بيطوعوا بمصاريف علاجها وهمه بيعملوا كده من زمان على فكره من قبل ماشمس تدخل المستشفى حتى، والمفروض أن حضرتك عندك علم بالكلام ده ولو كنت نسيت أو مش مصدقنى ممكن تتأكد من صدق كلامي من الحسابات، يابابا انا مليش دعوة خالص لا من بعيد ولا من قريب بموضوع الفلوس اللى بتدفع لشمس دي...
بعد أن انتهت جلسة المحاكمة ولم يقتنع القاضي ببراءة المتهم ،اضطر للأفراج عنه _ على مضض_ لعدم كفاية الادلة، فور خروجه من قاعة المحكمة فك زر لياقة قميصه لأنه شعر بالاختناق الشديد ثم راح يبحث عن ضحية أضعف منه يفرغ فيها شحنات الغضب التي شحنه بها والده، ليس هناك سواها، هو لن يظلم برئ بسبب ظلم والده له بل سيحاكم الجانية فهي تستحق ذلك، بعدما ارسل من يطلب حضورها إلى مكتبه بدأ في استجوابها بضراوة، وعندما أبت الاعتراف بجريمتها انهال عليها بوابل من التوبيخ فاعترفت اخيرا بفعلتها الدنيئة مبررة ذلك بحاجتها إلى المال الذي كانت تغدقها به روان ، قرر يوسف أن يعاقبها بالطرد النهائي ولكن دينا اعتذرت وتوسلت واعربت عن حسن نيتها وظنها بأنها كانت تقدم خدمة إنسانية جليلة لاثنين من الأحبة، هي لم تكن تظن أبدا ان ما فعلته جريمة تستحق الطرد، لما تأكد يوسف من سذاجتها وحاجتها الماسة للمال بعد قصتها المأساوية التي حكتها له تردد في أمر طردها وأحتار في أمرها، لكنه لم تطل حيرته طويلا لأنه جاءه اتصال من مستشفى ليست بعيدة كثيرا عن مشفاهم حيث انبأه المتصل بخبر أنساه أمر دينا برمته.
روان التي تركها تعود إدراجها خائبة الرجاء منهارة من البكاء دهستها سيارة في أثناء مرورها من أمامها في طريق عودتها سيرا على الاقدام إلى منزلهم، ربما هي من ألقت بنفسها عمدا أمام السيارة، يا إلهي! سيعيش يوسف بذنبها طيلة عمره...
هذه الهواجس كانت تنقر عقله وهو مسرع ليلقي نظرة أخيرة على حبيبته قبل أن يواريها الثرى، حبيبته!...لماذا الآن يشعر وبقوة أن روان هي حبيبته الحقيقية وليست شمس، اوالآن بعدما ضاعت منه وضاع عمرها القصير بسببه!
اول ما رآها في المستشفى ارتمى بين احضانها، احتضنته بقوة وراحت تبكى بحرقة، تنفس يوسف الصعداء بين زراعيها بعدما أدرك أنه اخطأ الفهم من جراء صدمته الشديدة
مرت (روان) من أمام السيارة وهي لا ترى شيئا ولا تسمع حتى صوت بوقها فدُهست قدمها، نقلوها المارة إلى أقرب مستشفى وهناك في المستشفى طلبت منهم أن يتصلوا بيوسف ابن خالتها وخطيبها، روان الآن على وشك دخول غرفة العمليات لأجراء عملية في قدمها المهروسة، خرجت روان من حجرة العمليات بعد قرابة الساعتين فوجدت الجميع في انتظارها بعدما أخبرهم يوسف بما جرى، بعد العملية حُجزت روان في المشفى ثلاثة أيام غاب فيهم يوسف تماما عن المشهد - ربما من جراء شعوره بالذنب- ولكنه قبل أن يختفي وعدها أنه سيعود لاصطحابها إلى المنزل في موعد خروجها الذى تأكد منه في الاستعلامات الخاصة بالمستشفى المحجوزة فيها روان
واليوم يوم تحقيق وعده الصغير لها، نظر يوسف إلى ساعته فوجد أنه قد تبقى ساعة على الموعد المحدد، لذا سيبقى قليلا مع شمس الذى امتنع عن رؤيتها منذ ما حدث لروان كأنه يعاقبها لأنها كانت السبب...
حينما رآها نسي ما حدث لروان ونسي روان نفسها، لقد اطارت عقله تلك الجثة الهامدة الغامضة، والدليل على فقدانه عقله بالكامل هو ما سيفعله الآن، قبلها قبلة سريعة في خدها بعد أن تلفت حوله ليطمئن أن لا أحد يراه، انتظر قليلا كي تفوق مثلما فاقت الأميرة النائمة أو سنو وايت أو من سواهما، مرت دقائق وهو ينتظر، لقد خابت القبلة الأولى لذا عليه أن يجرب ثانية، ببطء وروية قبلها قبلة أكثر حميمية وانتظر...
انتظر طويلا ولكنها لم تأتى بنتيجة ايضا، عليه أن يجرب قبلة ثالثة فالثالثة ثابتة كما كانت تقول جدة شمس دائما، كانت جدة شمس أم والدها - التي أسموها شمس تيمننا باسمها-موسوعة امثال شعبية متحركة.
ثبت شفتيه بعنف على وجنتها ولثم خدها لثمة قوية ولما لم يحدث أي شيء راح يضحك بهستيرية والدموع تنساب من عينه دون ارادة منه، استاء من نفسه وهو يشفق عليها بسبب تفكيرها بهذه الطريقة البلهاء الطفولية، لقد فشل الطب والأطباء وتقطعت بهم السبل وانقطع أملهم في استعادتها فكيف تنجح مجرد قبلة، لابد أن (روان) والجميع كان لديهم حق، أنها امرأة تنتمي إلى عالم الأموات وهو رجل ينتمي إلى عالم المهووسين...
روان! لقد تذكر الآن روان وموعدها، نظر في ساعته واطمأن عندما وجد أنه تبقى على موعد خروجها قرابة النصف ساعة، هم بالانصراف ولكن فكرة ما جديدة اجلسته مجددا بجوار شمس وهو يتأملها من جديد، في كل الأحوال المسافة بين مشفى والده والمستشفى الموجود بها روان لن تأخذ من الوقت أكثر من خمسة عشر دقيقة باستخدام السيارة.
تأمل يوسف لهفته الشديدة وحزنه القاتل على روان حين ظن أنها ماتت وتساءل في نفسه من منهما حبيبته الحقيقية ياترى!،روان أم شمس! هل من المعقول أنه يحبهما هما الاثنتين معا!
ظل يوسف يفكر طويلا في هذه الفكرة العجيبة الغريبة لولا مرور كوثر في هذه اللحظات الحرجة والهاتف المحمول في جيبها يتردد منه هذه الآية الكريمة بصوت منخفض
"ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه...."
شعر يوسف أن هذه رسالة من الله فنفض عن عقله تلك الفكرة البلهاء فلا يمكن أن يكون قد احبهما هما الاثنتين معا، لكن من فيهما حبيبته الحقيقية ياترى!
تميل نفسه إلى اعتبار "روان" هي الأولى بحبه ولكنه يميل إلى اختيار شمس حبيبته، ومن هنا بدأ الشجار بينه وبين نفسه وحاول كلا منهما أثبات صحة وجهة نظره للآخر من خلال مواجهة ومناقشة حادة دارت سرا بينهما
راحت نفسه تذكره بكل حلو ومر مر بهما هو وروان خلال قصة حبهما الطويلة وأكدت له أن حب شمس واهم بلا أدنى شك، فهناك أشياء غريبة تحدث للمرء عند قرب انتهاء عزوبيته بسبب توتره وخوفه من خسارة حريته أو أن يعيش في قصة واحدة طيلة عمره وإلى الأبد، هذا ممل حقا ونفسه تعذره ولكن ليس معنى ذلك أن يظلم خطيبته التي تحبه من أجل امرأة مخطوبة للموت...
إذا كان هذا صحيح فلماذا اختار شمس بالتحديد ليعيش معها هذه القصة الواهمة وقد كان بإمكانه اختيار أي فتاة حية طبيعية!
اختار يوسف شمس ليتوهم حبها من أجل إضفاء الإثارة والتشويق والغموض على قصته الخيالية، فهي امرأة غامضة متزوجة، ملك الموت واقفا أمام رأسها مباشرة ، ولأجل كل هذه الأسباب وأكثر هي ممنوعة بشدة عنه لذا هي مرغوبة بشدة منه فدائما الممنوع مرغوب و...
وترك نفسه تهرتل مع نفسها متظاهرا بانشغاله عنها بتصفح هاتفه، فتح حسابه على (الفيس بوك) يتصفحه وكان أول ما وقع عليه عينه حكمة فيما معناها
"أن الشخص إذا أحب شخصين وأحتار في الاختيار بينهما عليه أن يختار الثاني حتما فلو أحب الأول حقا لما احب الثاني أبدا"
وكانت هذه رسالته الثانية بخصوص هذا الشأن، ابتسم يوسف انتصارا على نفسه وراح يؤكد لها بكل ثقة وبدون أدنى شك أن حبه لشمس هو الحقيقي وحبه لروان مجرد حب أبوي بديهي بسبب التعود لا أكثر، والآن عليه أن يفكر في طريقة لطيفة ينهى بها قصته القديمة مع روان ليبدأ قصة جديدة - على وشك الانتهاء- مع شمس، ولكن ما ألطف طريقة يمكن للمرء أن ينهي بها قصة حب دامت لما يقارب العشرين عام ويفسخ بها خطبة دامت لما يزيد عن سبعة اعوام! يا للمسكينة روان!
روان! لقد تأخر على موعدها بما يزيد عن ربع ساعة كاملة، ركض يوسف نحو سيارته التي ركض بها نحو المشفى التي لم يجد (روان )بها لأنها خرجت مع أمه ولم تنتظره، فقاد سيارته ببطء عائدا إلى المنزل وهو مازال يفكر في طريقة ينهي بها علاقتهما دون أن يجرحها أو يحرجها... لقد بان الأمر مستحيلا حقا!
دق باب غرفتها ودخل بعدما أذنت له، كانت تبكي وهي تتأمل صورا لهما مع باقي اطفال العائلة مجتمعين في البوم قديم كبير سُجل به فوتوغرافيا العديد من المناسبات العائلية الهامة، سحب الألبوم من بين يديها فأشاحت روان بوجهها بعيدا عنه ممتعضة، راح يوسف يتأمل صورهما مع باقي أطفال العائلة وهنا تغير فكره ثلاثمائة وستين درجة، لقد اتخذ قرارا خطيرا لن يتراجع عنه أبدا، عاد على الفور إلى المشفى وأمرهم بنزع كل الأجهزة عن شمس والاتصال بأهلها ليأتوا ويستلموا تلك الجثة، عقد العزم ألا يودعها كي لا يحن عليها وإليها من جديد، رحب الجميع _خاصة والده وأخاه_ بهذه الخطوة أما كوثر _التي لا تعلم ما الذي اصابه_ راحت تتوسل إليه الا يفعلها ولكنه أصر أن يقضي أمرا كان مفعولا، حبس ذاته بمكتبه كي يمنعها من التقهقر والتراجع لكن اشباح شمس الهائمة حوله في المكتب راحت تأن وتتوسل إليه فقط أن يودعها، عاد راكضا بلهفة إليها، استأذن المحيطين بها في الخروج قليلا لمنحهما بضعة لحظات خاصة ليودعا بعضهما البعض، خوفا من أن يغير رأيه أحضر أخاه دكتور يحيى الإقرار الذي يعطيهم الإذن بنزع الأجهزة عنها واعطاه لأخيه مؤكدا أن الأمر كله قانونيا وراح يشجعه ألا يتوانى عن انهاء ما بدأوه الآن، تناول يوسف الإقرار من أخيه ووضعه في جيب البالطو دون أن ينظر إليه فقد كان مشغولا بتأمل شمس للمرة الأخيرة، شمس الذى ظل يتأملها بشبق طيلة تسعة أشهر كاملة أو ما يزيد، منتظرا أن تولد من جديد من رحم الموت العقيم.
أمسك بيدها بين يديه وقبلها بقلب يأن ألما، لم يقم بإعادة اليد إلى محلها جوارها بعد الانتهاء من تقبيلها فلقد ظل مخبأ وجهه بيدها خجلا منها ثم أنهار باكيا وانهمرت دموعه الساخنة علي يدها الباردة كالموتى الحقيقين، توسل إليها أن تسامحه، وفجأة شعر بسخونة ونبض بيدها كالأحياء الحقيقين، أزاح يدها عن وجهه والتفت ملهوفا ونظر في وجهها مليا محاولا استنباط اي نمط من أنماط الحياة منه ولكنها ساكنة هامدة لا ترف لها عين، تأملها طويلا ليعطيها فرصتها الأخيرة كاملة ولكنها بقيت كما هي فصرخ بها:
بالله عليكي ياشمس لو حاسة بيه اديني أي إشارة، عرفيني إذا كنت سمعاني... ارجوك ياملبسة انطقي ... اتحركي... اعملي أي حاجة... انا مش هقدر اكمل عمري من غيرك
لا يوجد أي استجابة ولو بإشارة بسيطة، عاد بائسا يائسا وأخفى وجهه بيدها التي ربما استمدت الحياة قليلا منه، بكي مجددا وهو يقدم اعتذاره واعذاره...
لقد رأى روان في كل الصور تنظر إليه هو دون الجميع ، وقد كان من المفترض أن تنظر نحو عدسة التصوير والمصور كباقي الأطفال ولكنها كانت تعتبره دائما عدساتها التي تتصور من خلالها الحياة، لذا هو لا يستطيع خذلانها أو ظلمها لأجل امرأة أخرى على محك الموت
"انا وحدي ...المظلومة هنا"
هكذا تمتمت شمس بصوت واهن، أو هكذا ظن، لقد جن الرجل من الأمل وبدأ يهلوس، سيرحل الآن من أمامها حاملا القليل الذي تبقى من مخه في جمجمته والقليل من الدماء التي تبقت في عروقه قبل أن يفقدهما كليا، ندههم بصوت يحتضر وأمرهم بسلبه القليل الذي تبقى من عقله ودمه معا، ولكنها ندهته فالتفت، والتفت الجميع معه في دهشة نحوها، ندهته مجددا:
يوسف!
ارتجف قلبه وسائر بدنه وهو يعود بقدم مرتعشة ليصمد أمامها معلقا نظره بعينيها المغلقتين وحين فتحتهما توقف قلبه المرتجف...عن النبض، وتوقفت قدمه المرتعشة عن الحركة
يوسف!
أنت تقرأ
ملاكي الساقط
General Fictionدعونا نغوص في أعماق ابليس من شياطين الإنس (الملاك الساقط) أناس يعيشون بيننا نعتقد أنهم ملائكة وهم في الأصل يغلبون الشياطين في خبثهم ،هذه رواية تحذيرية وتعليمية ستعلمكم باذن الله كيفية التعامل مع شياطين الإنس والتلاعب بهم بدلا من تلاعبهم بكم.... ات...