ملبستي

71 2 0
                                    

فقد سببت لها تصرفاته المتناقضة دائما حيرة مؤلمة مقيتة جعلتها تشعر بضغط نفسي رهيب دفعها للشعور الدائم بالحزن  والأسى الشديد، حاولت شمس أن تجعل هذه المشاعر السلبية تزول عنها باي طريقة فباتت تتهم نفسها دوما بالتفاهة والبلاهة والمبالغة في الحزن على اشياء لا تستحق وبذلك أجبرتها على غض النظر عن جميع ما سبق ذكره وعن جميع ما حدث بعد ذلك ولا داعي لذكره، حتى حدث لها إجهاض منذر...
امرها الطبيب بالتزام الفراش حتى يأذن لها بالحركة، طلبت امها من زوجها أن تبقى شمس معهم حتى يقوموا هم برعايتها وخدمتها ولكن زوجها _بكل شهامة_ رفض هذا مؤكدا ان هذه مسئوليته هو لا غيره، لقد بات لطيفا جدا  معها حتى أنه كان يطعمها الطعام _الذى يشتريه جاهزا_ في فمها أمام أهله واهلها _الذين يتناوبون على زيارتها _دون استحياء منهم، بدأت شمس تشك بنفسها وشعرت بالسوء الشديد وبالذنب الرهيب اتجاهه لأنها شكت به في الآونة الأخيرة حيث كان يدور ببالها اشياء سيئة عنه بسبب بعض المواقف التافهة التي لم تكن متعمدة حتما، انه ملاك حقا، انه النسمة الباردة في حر صيفها... ولكن فجأة  وبدون مقدمات وبدون اسباب منطقية بالنسبة لها سقط الملاك وانقلبت هذه النسمة إلى زعابيب أمشير واعاصير مرعبة...
حدث هذا الانقلاب المفاجئ الرهيب في ذلك اليوم الكئيب الذي زارها فيه اخوها سليمان  بتحريض من والدته  فهو منذ شهر ونصف الشهر من حين الزمها الطبيب المكوث في فراشها لم يرى اخته ولم يزورها أبدا، سعدت شمس كثيرا برؤية اخيها بعد هذا الغياب الطويل، ولأنها قد ملت كثيرا من البقاء في الفراش عرضت عليه ان تعد له قهوته المفضلة مع "البان كيك" الذي يحبه، فرفض اخوها كي لا يجهدها ولكنها اصرت، قام بمساعدتها قدر الإمكان وهى جالسة على كرسي في المطبخ، وعندما عاد زوجها بدأ الجحيم...
عندما عاد زوجها وجد بقايا اثار طهو (البان كيك) بادية في المطبخ، حيث لم تستطع شمس غسل الأطباق بعدما انتهيا من إعداد البان كيك وتناوله، فأقام قيامتها وسألها وحاسبها حساب الملكين، بكل براءة أجابته شمس وأخبرته بكل ما حدث، هي لم تكن تنوي أن  تخفى شيئا من الأساس فهي لم ترتكب جرما، هذا  بالنسبة لها ولكن بالنسبة له قد ارتكبت،  راح يصرخ بها وينهرها ويوبخها واتهمها بتمثيل التعب عليه طول الفترة الماضية كي تتملص من واجباتها المنزلية ولقد كان ساذجا حقا حين صدق الاعيبها التي لاتنتهي...
ظنت شمس في البداية أنه يمزح، ولكنها تأكدت أن ما يحدث ليس بمزحة حين قام بأرسال الطعام الذى اشتراه لهم جاهزا مثل كل يوم وهو عائد من عمله إلى والدته واجبرها أن تقوم هي بنفسها بإعداد الطعام في المنزل، لقد فعلت ما أمرها به وهى تشعر بالصدمة والقهر وفي خلال الأسابيع التالية كان يثقل عليها كثيرا في الأعمال والأعباء المنزلية حتى أنه بات يوبخها بعنف إذا وجدها تستريح ولو لدقيقتين ويصرخ بها متسائلا باستفزاز:
انت قاعدة كده ليه، يعني سيادتك فاضية ولا حاجة، هو انت مش لاقيه حاجه تعمليها ولا ايه!
كانت شمس تخبره بخنق وتعب وانهيار أنها أنجزت كل أعمال المنزل، فيقوم بالتفتيش في كل أرجاء الشقة عسى أن يحصل على اي ثغرة أو هفوة لم تنتبه لها، فأن وجد وبخها وتشاجر معها وطلب منها إنجازها على وجه السرعة وإن لم يجد يطلب منها أن تعد له كوبا من الشاي أو فنجانا من القهوة وبعدما تعده على  مضض يخبرها أن الشاي ثقيل أو خفيف أو أن القهوة غير مضبوطة ويجبرها على إعداد غيرهما فتعد له ما طلبه مثلما طلب، والغريبة أنه لم يكن يحتسي ولا رشفة من الشاي أو القهوة التي أعادت إعدادهما!
كتبت شمس لاحقا في مذكراتها في هذا الدفتر المكتوب على غلافه هذه الحكمة الملهمة لكي تتبع النور يجب أن تتعلم كيف تسير في الظلام:
" في هذه الفترة- بعد حادثة أخي والبان كيك- كرهت زيارات أهلي لي تدريجيا ووصلت أحيانا إلى مرحلة كرهت فيها أهلي أنفسهم خاصة أخي الذي تسبب في غضب زوجي وتغيره معي وقد بت أشعر بكسل رهيب وثقل في قلبي من استضافتهم كلما زاروني  في بيتي ولكن مالم افهمه هو تصرفات زوجي المتناقضة حيث  كان يوبخني باستمرار أثناء وجودهم معي من أجل عدم استضافتي لهم بشكل جيد وكان يتهمني دوما بالبخل وانني ليست بارة بوالديّ وأنني لا اكرم ضيوفي أبدا حتى ولو كانوا أهلي وتهمني بأشياء أخرى كثيرة  من هذا القبيل، لم يكن هذا أغرب شيء في الأمر بل الأغرب من ذلك أن تلك العيوب الذي كان يذكرها أمام أهلي كانت تتحول بقدرة القادر إلى مزايا عظيمة أمام أهله حيث ينوه لهم دائما عن كرمي وحسن استضافتي لأهلي ولزوارنا وعن جودة طعامي وغيرها من المحاسن وقد اقتنع أهلي بكلامه عني أمامهم واقتنع أهله واقتنعت انا شخصيا أنني احمل كل هذه الصفات المتناقضة السيء منها والجيد... هذا غريب ومريب حقا! كيف ولماذا يتحول هذا الرجل بهذه الطريقة العجيبة وكيف له هذه القدرة الرهيبة على إقناعي وإقناع الجميع بالشيء وضده في نفس الآن! لا أستطيع استيعابه، وأكاد أجن، لكنه مذهل"
حان موعد زيارة الطبيب المتابع لحملها، شمس تتمنى أن يخبرهما الطبيب أن الأمور ليست على ما يرام وأنهما على وشك خسارة جنينهما، نكالا بزوجها الذي كان يضهدها طوال الشهر السابق ويعاملها كخادمة بل واسوأ مما تُعامل الخادمات بكثير، لكن عكس ما تمنته شمس هو ما حدث مثلما يحدث دائما، أخبرها الطبيب أنها والجنين بأتم خير وأنها من الآن  يمكنها ممارسة حياتها بشكل طبيعي.
اثناء عودتهما إلى المنزل في السيارة كان زوجها يبتسم بانتصار  ابتسامة خبيثة وهو يقول:
عشان تعرفى أن انا كان عندى حق لما كنت بقلك انك بتمثلى وبتكذبي وبتدلعى
وكان من تداعيات ذلك أيضا انه زاد بالطبع من تحميلها كل  أعباء الأعمال المنزلية أضعاف مضعفة ، بل وكان يفتعل معها شجارات حادة اذا قصرت أدنى تقصير بدون أي قصد منها، والأدهى من ذلك أنه كان يتسلل على السلم أثناء عودته من وظيفته في الجامعة أو عمله في المكتبة ليضبطها متلبسة بالراحة فإذا وجدها جالسة ولا تشتغل بأعمال المنزل لا يمرر يومها هذا على خير حتى يسمم بدنها ويمرر عيشها...
ازدادت حالة شمس النفسية والجسدية سوءا على سوء ،ولم تعد تحتمل هذا الوضع المريع لذا اشتكت لأهلها مما يحدث حتى يجدوا لها حلا ولكن ردود أقوالهم صدمتها  أكثر من أفعال زوجها، وهذا كان ملخص ما دار بينهم، في البداية آل مغزى معظم حديثهم معها إلى مثل هذه المعاني
"هو انت اول مرة تحملى ولا انت أول واحدة تحمل ، ماكل الستات بتحمل وتشتغل فى بيوتها عادى،امال لو كنتى موظفة وبتجيبى فلوس كمان كنتى عملتى ايه وبعدين هو استحملك كتير مفيش راجل يستحمل مراته تعبانه كده على طول"
واضافت أمها:
يابنتى على رأى ستك أهلك يحبوكى غنية وجوزك يحبك عافية
بعد أن شرحت أمها معنى المثل الذي لم تكن تفهمه شمس، ردت شمس بتهكم:
ايوا كل واحد عايز يريح دماغه وخلاص
-اسمعى الكلام وانت ساكته وبطلى لماضة، اياكى تبينى قدام جوزك انك تعبانة، اخرتها هيزهق منك ويروح يجوز عليكى واللى زيه الف واحدة تتمناه.
- ماهم مش عارفين اللي فيها، ماهو اللي ميعرفش يقول عدس على رأي ستي برده
ردت سارة عليها بحزم وجزم:
ليه يعني بيعمل فيكي ايه ولا انتي بتخزي العين ولا ايه!... يا شيخة اتقي الله ده جوزك مدلعك اخر دلع، ده حتى كان بيأكلك في بوقك قدامنا
لم تكد شمس تستوعب صدمتها من كلام اختها حتى صاحت أمها بها من جديد : انا مش عارفة انت بتدلعي على ايه ماكلنا كنا تعبانين وحوامل وبنشتغل عادي في بيوتنا، انت كده كده مكانشي ليكي جواز، ولا كنتي هتفلحي مع مراد ولاغيره، اساسا العيب مش فيه، العيب فيكي انت
أما والدها فكانت كلما ذكرت موقف لمراد أمامهم من مواقفه المقرفة معها والتي أحرقت دمها وروحها وانفاسها وابكتها ليالي طويلة لوحدها كان يرد عليها بهدوء مستفز وتهكم ساخر: وايه يعني لما قلك كده... وايه يعني لما عمل كده... مفيهاش حاجه عادي
حتى موقفه منها بعد حادثة أخيها والبان كيك أصبحت هي المخطئة الوحيدة فيها لأنها لا تستطيع التلون والتخابث والكذب، ليس عليها أن تكون صريحة هكذا ولا بريئة وعفوية هكذا، عليها أن تغير كل طباعها الحمقاء تلك كي ترضي زوجها وتتجنب المشاكل...
كلماتهم كانت تنزل على قلبها كالسوط تجلده وكالجمر تحرقه، جاءتهم مكسورة مضطربة ليضمدوا جراحها ويجبروا كسورها فقتلوها بأحاديثهم، سرحت شمس تتذكر أمر الإقرار الذي مضوا عليه في المستشفى متنازلين عن حياتها بكل سهولة، ربما كان يوسف صادقا في كل شيء ذكره لها! لا! هذا مستحيل، برغم كل شيء مازالت شمس تتشكك في أحاديث يوسف معها وفي ماهيته.
"شاركنا يابني، قول رايك"
فاقت شمس من سرحتها مفزوعة على صوت أبيها الذي التفت إلى  أخيها الذي كان منهمكا في تصفح هاتفه وصاح به ليشاركهم الحوار فرد عليه وهو مازال منهمكا في اللعب على هاتفه:
وانا مالي انا... دي حياتها وهي حرة فيها
- والله انا ربنا مبتليني بالخلفة السودة دي، مفيش فيكم حد فالح في حياته أبدا.
هكذا تحسر الأب على حاله مع ابنائه ثم التفت لسوزان وسألها بتهكم:
وانت كمان ياشيخة سوزان ساكته ليه!
- ساكته عشان مش موافقة على الموقف من بدايته.
- ايه بالظبط اللي مش موافقة عليه!
" أخيرا سأجد أحدا منهم يقف إلى جانبي وينصرني في قضيتي ضد هذا الزوج" هكذا خُيل لشمس أن سوزان في صفها ولكنها صُعقت عندما سمعت بقية كلامها
"مش موافقة أن الست تشتكي من جوزها، مهما عمل فيها مينفعش تطلع اسرار البيت برة، ومش انا طبعا اللي بقول كده، ده كلام الشرع والدين..."
وراحت سوزان تقص قصة سيدنا ابراهيم الشهيرة مع زوجة اسماعيل ولده عليهما السلام
" ذات مرة زار ابراهيم اسماعيل في بيته فلم يجده فسأل زوجته عن أحوالهم فراحت تشتكي إليه وتقول أنهم بشر وفي ضيق وشده، فقال لها ابراهيم" إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام وقولي له يغير عتبة بابه"
في كناية منه وأمر لابنه بتطليق زوجته بسبب افشاءها لسر زوجها فلا يجوز للمرأة أن تشتكي أبدا من زوجها مهما فعل بها حتى ولو كان لأهلها"
   ******
برغم أن شكوتها إلى أهلها لم تفدها بشيء إلا أن زوجها فجأة وبدون مقدمات وبدون أسباب منطقية بالنسبة لها عاد إلى طبيعته اللطيفة جدا معها، بدأ يعاملها بحنان زائد حتى عن الحدود الطبيعية، البداية كانت من هنا:
عندما دخل عليها المطبخ وهي واقفة منهكة منهمكة في غسل الصحون، جلس على كرسي قريب منها ،جذبها نحوه برقة واجلسها على قدميه، قبلها وداعب شعرها وهو يعتذر لها عن قسوته وصلابته معها في الفترة الفائتة، كل هذا وشمس لا تستوعب ما يجرى ، لاحظ مراد آثار البلاهة وعدم الفهم على وجهها فضحك ضحكة لطيفة وهو يسألها:
مالك يا ملبستي بتبصيلي كده ليه
انتفضت شمس من على قدميه مفزوعة

ملاكي الساقطحيث تعيش القصص. اكتشف الآن