الفصل الأول

10 0 0
                                    

لا زلت اتذكر، في  ليلتي الأولى في مخيم لافيندا المدرسي، كنت أعتزل صخب الطلاب وأحاديثهم المكررة، واستلقي تحت سرب النجوم، اعدها بلا كلل او ملل، لم ينتبه لإختفائي أحد، ولم يكن ذلك يزعجني.
فمنذ ذلك الوقت كنت على قناعة تامة، بأننا نحن البشر نعشق ان نكون مركزاً للأنظار، وحتى من يدَّعي أنه فرد لا يحب جذب الإنتباه، الا انه في قرارته يتمنى لو كانت المخلوقات كلها تطوف حوله.
الغرور جزء من المكونات التي تصنع من الإنسان إنسان، ويمكن ان تمتلك اشكالاً عدة، الكبرياء، الثقة المفرطة، والتفرد بالذات والاكتفاء بها. كنت دوما افضل المسمى الأخير.
لذلك، قررت ان لا أعيش المسرحية التي يعيشها الجميع، حيث تتسلط الأضواء على من يجد لنفسه حديثاً لينطق به، قررت ان اترك التحديق بما يمكث تحت ذلك النور، وافتش في ما يقبع في الجزء المظلم، الذي لا  يمكن ان يراه احد سواي.
وجدت المتعة في اداء دور الشخصية الثانوية التي لا تمتلك ماضٍ مأساوي يصنع شخصها، في الوقت الذي يتقاتل فيه الجميع من اجل ان يجعل مسرحيته اشد تأثيراً.
اردت فقط أن أستلقي تحت اغصان اشجار القيقب، ان اشعر بقطرات الندى تتقطر على وجنتاي من سطوح اوراقها الحمراء.
اردت ان احظى بالسلام، اشاهد اضطراباتهم المضحكة، ولكن.
للمصير رأيٌ آخر، في الوقت الذي كنت فيه اهرب من معتركات الحياة، كانت تلاحقني هي، لتسلبني كل ما يمكن ان يجعل مني محض شخصية ثانوية فاشلة غير مرئية.
ابتسمت وانا الاحق حركة اوراق القيقب من فوق رأسي وهي تناغم رقصات الرياح، وهمست بسخرية
-كدب الباندا الذي لا يلبث ان يظهر بشكل عشوائي في خلفية عروض الأنمي اليابانية، اردت ان اكون دب باندا فقط، لا غير.
وبالطبع لم تجبني اغصان الشجرة، فألنت ظهري اليها وأغمضت عيناي بإبتسامة، وكنت قد اطلقت عليها اسم كايا، فكلما حدثتها ناديتها بإسمها لعلها تفهمني. وهكذا فقط.
وجدتني اقف على بعد خطوات من تلك الشجرة، اشاهد الشاحنة وهي تقطعها من جذوعها، حتى لم يتبقى لها اثر في التربة سوى بضعة جذور متهالكة، وبجانب صاحب الشاحنة تقف زوجة جارنا الشمطاء، وزوجها البدين الذي بدا لي كقطعة لحم متعفنة ومشبعة بالشحم، وكانت الزوجة تقول لصاحب الشاحنة بصوت مرتفع
-لا زال هناك المزيد، اخلع الجذور ايضاً لا اريدها ان تنمو من جديد.
فأعقب زوجها وهو يمضغ علكة بدت وكأنها تكاد تتيبس في فمه
-ولكن اظن  انك بالغت قليلا، انها مجرد شجرة قيقب
-بحقك يا توم، انها تبدو بشعة لأنها الوحيدة في الفناء، بالأضافة الى انها تحجب عني رؤية الشارع من النافذة، ان كانت الاضرار ايسر من الفوائد يستوجب التخلص منها.
وسحبت نفسا قويا من انفها لتمنع مخاطها من السيلان، فتقدمت الى صندوق البريد متظاهرة بأنني خرجت لأخذ جريدة الصباح، وعندما اصبحت على مقربة منهما، اخرجت من جيبي علبة تحتوي على مجموعة من الصراصر الصغيرة التي قمت بجمعها في سبيل المتعة، ومن دون ان يلاحظني احد، فتحت غطاء العلبة، واطلقتها في حال سبيلها، باتجاه جارتي اللعينة، ومضيت الى صندوق البريد وانا اسمع صرختها المرتعبة، والغيض يرتسم على وجهي.
سحبت الجريدة وعدت ادراجي، فوجدت انها تقف محتمية بجسد زوجها البدين، وامامهما صاحب الشاحنة، وقد دهس بعجلات سيارته على جميع تلك الصراصر، ولم يتبقى منها سوى جثث متناثرة على الأرض، مستعدة لتعود الى التراب.
فوقفت مكاني وقلت بابتسامة
-لقد خسرنا الحرب، لن انساكم ابدا يا صراصيري، وداعا يا كايا، سأجد مكانا اخر لأشاهد منه غروب الشمس وشروقه.

أورسلاWhere stories live. Discover now