الفصل السابع

1 0 0
                                    

كان اوليفر مستلقياً على سريره، ينظر الى السقف كما ينظر الاموات، ويشعر بألسواد يتسرب الى كل زاوية من زوايا المنزل، ها هو ذا، وحيداً، مرة اخرى، لا يرى اثرا لخطوات اورسلا، ولا يسمع صوتها، لا يراها تجلس تحت شجرة القيقب، ولم تعد تنام فوق السقف لترحب بالشمس، فبدا كل شيء هادئ وكئيب، الا انه وبشكل ما، يشعر بثقل قد تزحزح عن قلبه، يشعر بأنه قد انهى مهمة بات يعمل عليها لعشرون سنة متواصلة، وها هو ذا يعيش ربيعه التاسع والعشرون، ولا زال لم يتمكن من مواصلة حياته بشكل طبيعي حتى الآن، وكان يسمع صوت صديقته ايلينا ينبعث من الجانب الآخر من الهاتف
-وماذا قلت لوالدك؟ هل جرى كل شيء على ما يرام؟
تنهد واجاب
-والدي! يال السخرية يا ايلينا، لقد دخل واستحم، اعددت له الطعام، ثم خلد للنوم، ولم يلحظ حتى الآن غياب اورسلا.
-ان لم يكن يأبه بها، فلماذا كان يضيق عليها، لماذا لم يكن يسمح لها بالخروج؟
-لا بد انها كانت طريقته في الانتقام منها، انه يكرهها كرها شديداً، ومع ذلك قام بالتكفل برعايتها، لأنه يتمنى لو يعذبها لمئة سنة.
-ولكن لماذا؟ انه لم يكن ذنبها.
-ولكنها ان لم تولد، لما كان سيعيش كل هذه الفوضى، لكان كل شيء في مكانه الآن، اظنه يلومها.
-يلومها على ماذا؟ على انها ولدت؟
ابتسم اوليفر ساخراً، واجاب
-اجل، اظن ان هذا ما يفكر فيه، لذلك تركها لتعيش تحت رعايته، لأنه يعلم بأنها ستعيش سعيدة في اي مكان اخر، اما عنده، ستكون له الحرية في تدمير حياتها، في معاقبتها كيفما يشاء.
-ياله من عجوز مختل، عليك ان تغادر ايضاً يا اوليفر، لايجب ان تعيش بهذه الطريقة، لقد امضيت عمراً من حياتك وانت تضحي.
-لا اعلم، اريد ان افكر في الامر اكثر.
-الا ترغب في العودة اليها حتى الآن؟
-لست ادري، انا مرتبك جداً، لقد حدثتها على الهاتف، وادعت انها نجحت في تغيير نفسها الانانية، ولكنني لست متاكداً حتى الآن.
-خذ وقتك في التفكير يا عزيزي، لا تضغط على نفسك كثيراً.
-سأفعل، اعدكِ بذلك.
-وهل فكرت بالعذر الذي ستمنحه لوالدك بشأن اختفاء اورسلا؟
-اجل، لقد كان العذر جاهزاً منذ عشرون سنة، لقد كنت انتظر هذا اليوم على احر من الجمر، اليوم الذي اقود فيه ابي للجنون.

واغلق الهاتف عندما سمع صوت خطوات والده في الممر، ويبدو انه قد استيقظ من غفوته، وانشأ يبحث في ارجاء المنزل عن اورسلا، وهو يقول بصوت متعب
-اورسلا! اين انتِ، انني ارغب في كوب من الشاي.
ففتح اوليفر الباب، ونظر من خلاله الى ابيه وهو يتجول في الارجاء كالسكارى، ويطرق البوابة بعد الاخرى، ولا يسمع جواباً، فأخذ ينادي بصوت مرتفع
-اوليفر؟ اين هي اورسلا؟
وانتبه له ينظر اليه من فتحة الباب، فتنهد السيد روك وجلس على طاولة الطعام وهو يشير بيده اشارة لا مبالية
-نادِ اورسلا، اريد كوباً من الشاي، انني اعاني من صداع شديد.
فتقدم اوليفر واشعل النار تحت إبريق الشاي، من دون ان ينبس بكلمة، فطفق السيد روك يعبث بأذنه ويقول بنعاس
-لماذا تفعل ذلك انت؟ اين هي اورسلا؟
أطرق اوليفر برأسه، واجاب ببرود
-لم تعد هنا.
ارسل اليه السيد روك نظرة مستغربة، وكان يظن انه يمازحه
-كفاك هراء، اين يمكن ان تغادر، انها ممنوعة من مغادرة المنزل.
-اجل، ولكن حصلت امور مجنونة اليوم.
ثم وضع كوب الشاي امامه، فقبض عليه باصابع مرتجفة، وهو ينظر يميناً ويساراً
-كفاك هراءً، اين تخبئها؟
-انا لا اخبئها، لقد غادرت، الم تستوعب الكلمة حتى الآن؟
وعندما لاحظ شحوب وجه والده، قال وهو يجلس على الكرسي
-اتضح ان آلن قد علم بأمرها، فجاء الى هنا اثناء غيابك، اعلمها بكل شيء، وحصلت فوضى كبيرة في هذا المنزل، وعندما علمت اننا قمنا بخداعها قررت المغادرة معه، فذهبا الى حيث لا اعلم، لا بد انهما في الطائرة الآن.
اندثرت الحياة من وجه السيد روك بمجرد ان سمع اسم آلن، واخذ يدمدم برعب
-آلن؟ ولكن كيف، هل تمازحني يا اوليفر؟ وتخبرني الآن؟ لم تتصل بي حتى، اهذه مزحة بالنسبة لك؟
-ولكنك لم تسألني.
-وما مقدار ما يعرفه آلن؟
-قال، انه علم اننا ادعينا ان اورسلا لا تمتلك اباً، وبذلك كان مسموحاً لنا لأن نتكفل برعايتها، وقال بأنه لن يقاضينا، ولكنه سيستعيد ماهو ملكاً له.
-اذن، هذا كل ما يعلمه؟
ضيق اوليفر عيناه، وقال باستنكار
-وماذا؟ اهنالك امر اخر تخشى ان يُفضح؟
فاخذ السيد روك يعبث بخصلات شعره وهو يلاحق انفاسه
-كلا، لا شيء، ولكنني مصدوم فحسب، علي ان احصل على بعض الراحة لأفكر.
-لك ذلك.
ونهض اوليفر قاصدا غرفته، فأعقب السيد روك باستنكار
-ولكنك تبدو اكثر برودا من شخص تم هجرته من الفتاة التي قام بتربيتها منذ الصغر.
تنهد اوليفر، ووضع كلتا يديه في جيوب بنطاله، ثم رمقه بنظرة باردة
-انني اعلم ان هذا هو الأفضل لها، لذلك لن يؤلمني فراقها لهذه الدرجة
-كلا، انك تخفي شيئاً اخر، هل تعلم اين غادرا؟
-ولم قد يخبرني بذلك؟
فاصطكت اسنان السيد روك، وتقدم اليه وهو يقبض على كتفيه بقوة
-كلا، انني متأكد، انت تعلم، لا بد انها اخبرتك، اعلمني بسرعة، يجب ان الحق بهما.
-لا امتلك فكرة، ولكنني علمت ان آلن كان يعيش كل هذه السنوات في باريس.
-اذن! هل تظن انهما عادا الى هناك؟
-كلا، سيتمنى ان لا نصل اليه بكل الطرق، فلن يعود الى مكان يسهل توقع وجوده فيه، اظنه غادر الى مكان اخر.
فأفلته وابتعد الى الطاولة، وهو يضرب اخماساً لأسداس، يعبث بشعره تارة، ثم يشرب من كوب الماء تارة اخرى، حتى فقد قدرته على التحكم في غضبه، ورمى الكوب في الارض فتهشم الى اشلاء، وهو يصرخ بالشتائم واللعنات، ولكن ذلك الغضب لم يؤثر ولو قليلاً بأوليفر، فها هو قد فقد اغلى ما عنده، ويمكنه الآن ان يستقبل الموت بالأحضان.

أورسلاWhere stories live. Discover now