وهناك، في اطراف لندن الضبابية، وسط حقل من اوراق الخريف المتيبسة، يقع منزل السيدة ايفا.
كانت الرياح تتجول في اروقة الحديقة، وتحمل معها ما تبقى من فتات الاوراق المتكسرة، يهفو على الاغصان ويداعبها، ويمر بجانب حواف النوافذ، يطرقها، تاركا اثر طبع الاوراق على زجاج النافذة.
وهناك بين الاوراق، قطة صغيرة سوداء، تتلوى لتلاعب صغارها، وتناثر عليهم رفات الاوراق. وفي اعلى غصن من الشجرة، عش صغير، يعتليه طائر اليمام الابيض، وهي تهم باطعام صغارها فم لفم.
وعلى بعد امتار منهم فتاة بعمر المراهقة، ذو شعر اسود قصير، ولا زالت ترتدي بيجاما النوم، تحمل سطل الماء وترش منه في الحديقة، وهي تدمدم بتذمر
-هذه القطط اللعينة، انها تتبرز في كل مكان، يا امي، الم تخبري ناثان ان يرسلهن بعيداً.
فلم يأتها رد والدتها، رمت السطل على الارض، وولجت الى الداخل وهي تنفض الغبار عن بيجامتها، وتحدق في غرفة استقبال الضيوف بانزعاج، ثم ندهت لأمها مرة اخرى، فظهرت من جانب باب المطبخ، السيدة ايفا، وهي امرأة في بدايات الاربعين، لها شعر بني ناعم قد صففته على شكل كعكة مبعثرة، وترتدي رداء الطبخ، رشقت ابنتها بنظرة تساؤل
-ما امرك يا بيلي؟ انها الثامنة صباحاً، و انت تصرخين في الارجاء كالمخبولة.
-انها القطط مرة اخرى يا امي، لقد تبرزت امام نافذة غرفتي، والرائحة تكاد تقتلني، ارجوك يا امي، اسمحي لي ان اوقظ ناثان من النوم، ليأخذها بعيداً.
نشفت السيدة ايفا يديها في تنورة ثوبها، وتنهدت وهي تتقدم اليها
-لقد استغرق اخيكِ في العمل مساء امس، ولم يحظَ بنوم كافٍ، لن اسمح لكِ بإيقاظه لأمر تافه كهذا.
-ولكن، يا امي.
وقبل ان ترد عليها السيدة ايفا ظهر صوت الهاتف، وهو يرن رنة بعد الاخرى، فأشارت باصبعها لبيلي ان تصمت، وانتشلت الهاتف من على الاريكة، ولم تتردد في الاجابة
-مرحباً، من تكون.
صمتت لمهية، وكان المتصل متردداً في البدء بالحديث، ولكنها انتظرته بصبر، وكأن قلبها كان يشعر به.
مرت لحظة عندما قال بنبرة مترددة
-مرحباً، سيدة ايفا
اتسعت عيناها، وشحب وجهها بمجرد ان سمعت صوته، وقالت بشفتين مبيضتين
-اوليفر! اوليفر! اهذا انت!
لم يصلها الرد، فقبضت على الهاتف بقوة، وكل اوصالها ترتجف، فأنشأت تهمس والدموع تتسلل الى عينيها
-هل هذا انت حقاً يا اوليفر؟ انني اعرف صوتك جيداً، ارجوك فلتجب، اعلم انك..
وابتلعت ريقها، وانزلقت دمعة من عينها، ثم اطرقت وقالت
-الا زلت تسميني السيدة ايفا، لماذا لا تناديني أ..
قاطعها
-لا تسيئي فهمي، لم اتصل للحديث معك عن نفسي.
كانت بيلي تقف على بعد عدة امتار، وعندما سمعت بأسمه، لم تستطع ان تمنع نفسها من الترقب لما ستقوله والدتها اليه، تقدمت قليلاً وهي تقضم اظافرها، وهمست امامها
-اهذا اوليفر حقا؟.
تجاهلتها ايفا، وقالت وهي تلاحق انفاسها
-ماذا اذن! ماذا لديك لتقوله؟ لا اصدق انك ما زلت تكرهني، لقد كنت سأركع اليك ايها الولد العنيد، كنت سأقبل قدميك لتسامحني، لماذا تعذبني؟ كل شخص في الحياة يمكنه ان يخطئ..
وتهالكت على الاريكة وهي تقول بانفعال
-ارجوك، ارجوك يا بني، اريد ان اراك.
-هذا لن يحدث.
-لماذا اتصلت اذن؟ التخبرني، بأنك لا زلت تكرهني؟ بأنك لن تسامحني؟
-اهدأي.
ثابت الى رشدها، عندما امسكت بيلي بكفها، وقبضته بحنان، وهي تحدق في انهيار والدتها بانكسار.
فسمعته يقول
-اسمحي لي بالكلام.
-لك ذلك
-ان لك فرصة في اثبات نفسكِ.
اتسعت عيناها
-حقاً؟ هل تنوي مناقشة هذا الامر على الهاتف حقا؟ اخبرني اين تسكن، سآتي اليك، لا يهمني امر ابيك، اريد ان اراك فقط.
-اجل، على الهاتف فقط، لا يمكن ان نلتقي، اسمعيني جيداً، ان كنتِ حقاً تشعرين بالندم على فعلتك، اثبتي لي ذلك، ان اورسلا.
فقاطعته بانفعال
-اورسلا، صحيح، اورسلا، كيف حالها؟ لا بد انها لا تتذكرني.
اطلق ضحكة ساخرة
-ولمَ ستتذكرك؟ على اية حال، لا تتظاهري بالاهتمام، بكلمات الحب هذه، بل ارِني الأفعال، انني اريد ان ارسلها الى لندن.
-حقاً؟
ابتسمت وسط دموعها
-ان فعلت ذلك، سأكون مسرورة لمقابلتها.
-اوه حقاً؟ استكونين كذلك حقاً؟
وقالها بنبرة تهكم، فأومأت برأسها وكأنه يراها
-انا لم اعد الإمرأة نفسها يا اوليفر، لقد تعلمت، ان الشيء الاكثر اهمية في هذه الحياة، هو العائلة، ولا شيء يأتي قبلها، ارجوك، اسمح لي بتصحيح اخطاء الماضي، ارجوك اسمح لي بمقابلتها والاعتناء بها، فلتسمح لي بلم شتات عائلتي من جديد.
-انني لن اعلق سعادة اورسلا في احتمالية صغيرة، بكونكِ تغيرت، ولكنني اعلق ثقتي بها، اذ لا مكان اخر في لندن يمكنها ان تمكث فيه، ستصل في الظهر، واعلمي جيدا بأنني لن اتركها معكِ لأكثر من شهر، ستبقى ريثما اشتري لها شقة صغيرة، في مكان بعيد جدا عن انظاركِ.
ابتسمت بحنان
-لقد فهمت، افعل ما تراه مناسباً، ولكن اريدك ان تعلم، بأنني لم اكن سعيدة من قبل، بقدر سعادتي الآن، سأعتني بها جيدا، اقسم لك، في ذلك الوقت، في ذلك الوقت ربما، ربما ستثق بي من جديد.
لم يصلها رده، فقالت برجاء
-اوليفر، ارجوك، اوليفر
تنهد واجاب
-ان الامر محسوم.
واغلق الخط في وجهها، نظر الى ارجاء غرفته باكتئاب، وهو يشدد قبضته على الهاتف حتى كاد يتهشم بين اصابعه، ثم استنشق نفسا عميقاً ليجمع شجاعته.
فتح باب غرفته، فوجدها تقف في منتصف غرفة الضيوف، وبجانبها حقيبة سفرها، وعلامات الارتباك واضحة بين ملامحها البريئة.
نظرت اليه باشتياق، وهي تبتسم كما يتبسم طفل يحظى لأول مرة بعناق امه. فأخفى هاتفه في جيبه، وقال
-مستعدة؟
-اجل، لقد غادر ابي الى العمل منذ ساعة
-اعلم ذلك، هيا بنا.
وهم بمعانقتها، وطبع قبلة ابوية على جبينها، وهو يمنع دموعه من التسلل الى مقلتيه.
YOU ARE READING
أورسلا
Romanceها انا ذا، احلق بين الوديان والجبال، ومن جانبي حدائق لم ارها من قبل، ولكنني لا اختار وجهتي، اسير عكس اتجاه الشمس، ويحملني هذه القطار الى حيث يشاء، الى موضع الأمان الذي لم يكن آمناً يوما. ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج...