الفصل الخامس

1 0 0
                                    

قطعت الطرق وانا اسير بوجه مصفر، ابحث عن مكان تألفه عيناي، لعلي اجد سبيلاً للعودة، ولكن كل شيء غريب علي، الطرق والسيارات السريعة، والبشر الصاخبين، والقطط التي تعبث في اكوام النفايات، كل ما في هذه المدينة عاد ليخنقني من جديد، وبدل من ان استشعر الحرية بت اشعر بوحدة وغربة، حتى جلست على جانب الرصيف، وبدأت ابكي كالأطفال، بلا وعي، اشهق بصوت مرتفع، وانادي بأسم اوليفر، وما اثار رعبي ان الناس يمرون من جانبي، يحدقون بي بنظرة عابرة، ويسيرون بعيداً، كما لو انني غير موجودة ولا تخترقني اعينهم.
مسحت دموعي بعدما كادت الشمس ان تغيب، ومكثت في مكاني مستسلمة لحقيقة انني سآوي في الشارع الليلة، وستتصل تلك الامرأة بأوليفر لتثير جنونه في امستردام، سأموت جوعا، او ربما سيقتلونني قطاع الطرق في الليل.
غصت في افكاري السيئة، حتى مر من جانبي طفل صغير مع والدته، كان يحمل في يده حلوى المصاص، تواصلت اعيننا عندما كانت والدته منهمكة في الحديث مع احد المارة، فتقدم الي ومنحني حلواه من دون ان ينبس بكلمة، لابد انه انتبه الى رطوبة وجنتي واحمرار عيناي الباكيتان، فلم يجد في نفسه ما يؤنسني غير هذه الحلوى، ولكنني عدت ووضعتها في يده، فصرخت امه من هناك
-مالذي تفعله، تعال الى هنا.
وانتشلته من امامي بعد ان القت تحية عابرة متكلفة، وهمست له بود اثناء ابتعادها
-هيا يا صغيري، الست سعيداً، سنلتقي بوالدك في المقهى.
استقرت انظاري على الارض بضياع، مقهى؟ هذا صحيح، ان اكثر ما احتاجه الآن هو كتاب وسرير، وكوب قهوة.
ولكن قبل ان اعاود البكاء ومضت الى رأسي بشكل عشوائي، صورة ذلك الرجل ذو البذلة الرسمية، وتذكرت كلامه في الهاتف عندما قال
"لنتقابل، حسنا، في مقهى نيرو"
فنهضت كالمجنونة من مقعدي، وندهت بعينان لامعان، مقهى نيرو! اجل، اجل.
وركضت بسرعة الى الأمام لأستقل سيارة اجرة
-ارجوك، خذني الى مقهى نيرو من اقرب طريق.
نظر السائق الي بارتباك، ثم قال بتهكم
-هل انتِ اجنبية؟ رغم ان لكنتكِ بريطانية
-ارجوك لا وقت لي، خذني ارجوك
-يا فتاة، ها هو ذا خلفك، المقهى الذي تبحثين عنه.
ونظرت الى حيث يشير اصبعه، وكادت الدموع ان تتفجر من عيناي، فلوحت بيدي للتحية وانا اصرخ بكلمات الشكر، وهرعت الى هناك، رغم علمي بأن احتمالية وجوده ضئيلة جداً، لأنه قد غادر منذ الظهيرة، وها هي الشمس تغيب. ولكنني هرعت متشبثة بخيط الأمل الأخير. تفحصت المقاعد من خلف الباب الزجاجي، وانا اتفرس في وجوه الزبائن كالمجنونة، وهناك، في زاوية مظلمة، كان يجلس وقد تخلى عن سيجارته ورماها في كوب القهوة الذي نفذ محتواه، يقلب في اوراقه بعينان مرهقتان، وامامه رجل طاعن في السن، يتحدث من دون توقف، والرجل ذو البذلة يومئ برأسه بتعب.
لم اشعر سوى بالغبطة، والرغبة في الركض والتشبث بيده.
ها هو ذا، دليلي الى المنزل، ها هو ذا الحل لمشكلتي، لقد وجدته.
يال غرابة مشاعر الإنسان، يمكن للشيء الذي اخافني منذ ساعات ان يصبح الامان الوحيد الذي تراه عيناي. يصبح الغريب الذي اردت الهروب منه، اقرب الي من نبضات وريدي، يصبح المعروف الوحيد في مدينة الغرباء. في الوقت الذي يتحول فيه الأمان الازلي الذي خضته الى شعور غامر بالخوف.
ولجت الى المقهى بخطوات مترددة، واتخذت مقعدا يمكنني من خلاله التحديق في وجه الرجل بوضوح، لكيلا اضيعه ابدا، لا يجب ان افقده، لابد انه سيغادر قريباً، وكل ما علي فعله هو السير خلفه.
فمرت الدقائق، وانا اتفرس في ملامحه، كلوحة فنية احاول ان اكتشف كل تفصيلة من تفاصيلها. ها هو ذا شكل انفه المستقيم، وتعابيره المتعبة، عيناه التي بدت لي انها تحمل عبء الحياة فوق جفنيها، وشفتيه التي لم تنبس بكلمة، ولم يرسم عليها شبح ابتسامة.
كفه الشاحب وعروقه البارزة، التي يمررها على ذقنه تارة واخرى، فكنت اتسائل في تأملاتي عن ملمس بشرته الحنطية، وخصلاته الناعمة التي تبعثرت لكثرة ارهاقه.
وكانت قد مرت نصف ساعة قبل ان تتواصل اعيننا بحركة سريعة، ولكنها كانت تبدو لي كساعة كاملة، اشاح بعسليتيه بعيدا، عني، الى جانب لا يمكنني رؤيته، كنت اشعر ان رعدة قد سرت بين عينانا، اصبح فيها يعرف خلجاتي ومشاعري، يعلم انني اراقبه، وقد مكثت هنا لأحدق فيه دون سواه.
فتصرفت انني احدق بالجميع بالنظرة ذاتها، ولمحته لدقائق معدودة يتفحصني، ينظر الي من غير ان يرمش، احسست انه يحفظ فيها ملامح وجهي.
تلاطمت مشاعري وشعرت بقلبي يكاد ان يسقط، ولوهلة كنت ارغب في التهور، ان انظر اليه نظرة اغواء، ان اجذبه الي وأخضعه، ثم آمره ان يعيدني الى ذلك المنزل من دون ان ينبس بأي اعذار. فلمحته يدفن سيجارة بين شفتيه، وطفق يقدح النار من ولاعته، فكان عذر كافٍ بالنسبة لي لأحدق من جديد اليه، وها هي عينانا تتصل من جديد، ولكننا لم نتهرب هذه المرة، لم يشح بوجهه عكس اتجاهي، وحاربت الخجل لأثبت نظراتي فيه، فأصبحت لا اسمع كلام احد، ولا ارى في المقهى سواه، حتى ظننت انه يشعر بالشعور ذاته، فلم يعد يسمع كلام الرجل الذي معه، كان منهمكا في الحديث معي بلغة العيون الخرساء، ثم كسر هذا الاتصال عندما نهض من مقعده بتعابير مضطربة، وغادر بعد ان رمى اوراقه على الطاولة، الى احد الابواب الداخلية للمقهى، غادر وغادرت عيناي معه، فكل ما كنت افكر به انني لا يجب ان افقد املي الوحيد في العودة.

دخل ناثان الى الحمام، وهو يضغط بقبضته على مقدمة رأسه، رمى السيجارة التي لم ينتهي منها في مكب النفايات، واستند على الجدار وهو يحاول ان يلحق انفاسه، ان يخدر قلبه الذي بدأ يضج في صخب شديد فجأة، بعد ان كان يرقد في سبات عميق، ثم انبست ضحكة خفيضة من فمه، واطرق برأسه وهو ينظر الى ملامحه المتعبة في المرآة. وهمس
-اورسلا؟ ام أنثى بنفس النظرات؟
ثم اخرج هاتفه من جيب سترته، وأنشأ يبحث عن الصورة الأخيرة التي يملكها لها، صورة لها بعمر الخامسة عشر في يوم ميلادها، ثم قرب على ملامحها، وهو يشعر بفؤاده يضطرب. لم يكن بحاجة لهذه الصورة من اجل ان يتعرف عليها، لا في الواقع، كان يعلم جيداً ان تلك الأنثى التي تتفرس فيه هي اورسلا، ولا احد سواها، ولكنه كان مرتبكاً، فمالذي تفعله في لندن؟ في مقهى عام لوحدها بعد مغيب الشمس، تحدق في رجل بمثل هذه النظرات، الا يمكن ان تكون هذه مخيلته فحسب؟ فلم يحصل على النوم الا لساعة ونصف، وهذا الرجل يكرر ثرثرته عليه منذ الصباح، وها هو ذا اصبح لا يفرق بين الوهم والحقيقة، يرى شبح الفتاة التي لم يرها لسنين طويلة الا في شاشة الهاتف. امام عينيه، ثلاثية الابعاد، يفصل بينهما عدة امتار.
خبئ هاتفه في جيبه، واخرج سيجارة اخرى ودفنها بين شفتيه وهو يأمل ان تعيده الى الواقع، ان تخرجه من حالة الجنون والهذيان هذه، وقبل ان يقدح النار فيها سمع هاتفه يرن، توقع انه السيد مارسيل مرة اخرى، رغم انه ينتظره في الجانب الآخر من المقهى، ولكنه كان اتصال من والدته، فرفع الخط بسرعة، ليسمع صوتها المذعور
-ناثان، ارجوك يا ناثان، ساعدني، انا في ورطة.
-ما الأمر يا امي؟ هل هي بيلي مرة اخرى؟
-كلا كلا. لماذا لم تقم بالرد على اتصالاتي منذ الظهيرة؟
-كنت مشغولا بالعمل
-وهل اعمالك اهم مني ايها الوقح؟؟
واخذت تبكي بارتعاش، فدمدم بتنهيدة يائسة
-اهدئي واعلميني بالمشكلة.
واخذ يعبث بخصلات شعره الأمامية بتعب، فقالت برجفة
-ناثان، اسمع يا ناثان، عندما اخبرتك في الصباح ان لدينا ضيف اليوم، لم اخبرك بهويتها لأنني اردت ان اصنع لك مفاجئة، ولكن. لقد فقدناها يا ناثان.
-ماذا؟ كيف؟ من هي؟
-انها اورسلا، لقد اخبرني اوليفر انه سيرسلها وستصل في وقت الظهيرة، ولكن لا اثر لها يا ناثان.
ضيق عيناه وهمس باستنكار
-اورسلا؟
-اجل.
ضغط على جبهته وهو يحاول ان يرغم نفسه على الاستيعاب، ويسمع صوت والدته تولول في الجانب الاخر من الهاتف
-مالذي سأفعله؟ كيف سأخبر اوليفر؟ لقد وجدنا حقائبها مركونة في زاوية من زوايا الفناء، لابد انها وصلت الى هنا، ولكن كيف اختفت؟
قال بابتسامة ساخرة
-ولم تضعي في رأسك احتمالية انها قد خرجت في نزهة واضاعت طريق العودة؟
-صحيح، هذا ممكن جدا
-لا تقلقِ، سأجدها.
-ولكن ماذا ان كانت قد اختطفت؟
-في وضح النهار؟ هلا تحليتي ببعض الهدوء.
ثم اغلق الهاتف بعدما رسم ابتسامة ساخرة على شفتيه، ودسه في جيب سترته الداخلي، وخرج فرآها امام عيناه، تجلس في مكانها ذاته، تحدق الى اتجاه الحمام، ومن الواضح انها تصوب اليه نظراتها.
فقدح النار في سيجارته، وسار الى مكانه بوجه خالٍ من التعابير.

أورسلاWhere stories live. Discover now