الفصل الثاني

5 0 0
                                    



حل المساء، فاعتزلت نفسي في الشرفة، اشاهد وميض النجوم البعيدة، وبين اصابعي دفتر رسم، اعتدت على الرسم فيه بشكل عشوائي، رسمات لا معنى لها، وعندما حطت الساعة على الثانية عشر في منتصف الليل، غادرت لأحظى ببعض النوم.
تهالكت على السرير، فسمعت صوت الباب يفتح، واشتغل ضوء الغرفة، فضيقت عيناي لشدة سطوعه، ورأيت اوليفر يلج الى الداخل بابتسامة بلهاء، وهو يخفي خلف ظهره شيء ما، فقلت بملل
-اوليفر؟ الم تنم؟
تقدم وقال بهمسة
-كل عام وانت بخير، صغيرتي اورسلا.
واخرج من خلف ظهره كعكة مزينة بكريمة زهرية، وتتوسط سطحها شمعة برقم 21.
لمعت عيناي بذهول، وفغرت فاهي وقلت
-عـ.. عيد ميلادي؟
ضحك بخفوت، وجلس بجانبي على السرير، وانا اكاد ابكي، ثم وضع الكعكة بيننا، وقبل جبيني، فسقطت دمعة من عيني اليمين، فمسحها اوليفر بابهامه، وقال
-هيا، انه الثاني من فبراير، هل نسيتِ تاريخ ميلادك؟
-لـ.. لقد نسيت.
-لقد اتممتِ الواحد والعشرين اليوم.
-الهذا قمت بكل العمل اليوم؟
-اجل.
ثم ضمني الى صدره، وطفق يقبل رأسي، وهمس
-اعتذر لأنني عاجز عن اعداد حفل كبير لك، اعتذر لأننا نخوض هذا لوحدنا، في معزل عن الآخرين، وكأننا نفتعل جريمة.
-لا بأس، انك اكثر من كافٍ بالنسبة لي
-أورسلا، اليوم، اريد ان أحقق امنيةً لكِ.
فابعدت رأسي عن صدره، وحدقت في عيناه بانكسار
-امنية؟
-اجل، سأفعل أي شيء يمكن ان يسعدك.
-اي شيء؟
اومأ برأسه، فقلت ساخرة
-حتى وإن تمنيت ان تأخذني الى القمر؟
رفع حاجباه بذهول، فأعقبت بتهكم
-لا تقلق، لن اتمنى ان ترسلني الى القمر.
-وماهي امنيتك اذن؟
-لا املك اماني.
فأمسك بكتفاي وأنشأ يهزني بحماسة
-هيا اورسلا، هيا، لا بد ان هنالك شيء ترغبين به.
رفعت الغطاء ليفصل بيننا، وهمست بيأس
-لا اماني، لا اماني يا اوليفر، ارجوك
افلت كتفاي بحركة بطيئة، وهو ينظر في عيناي بتعاطف، ثم اطلق تنهيدة واردف يقول
-فكري في الأمر.
كسوت نفسي بالغطاء، واستلقيت جانبا لكي امنعه من النظر الى عيناي، فطبطب على كتفي، ولم تمر لحظات حتى غادر اوليفر غرفتي، واطفئ نورها. وهو يحمل الكعكة بين يديه، ويدمدم ببعض الخيبة
-سأضعها في الثلاجة، احرصي على تذوقها غداً، لقد بذلت جهدا فيها.
اصبح كل ما حولي مظلماً، ان النافذة تطل على منزل جارتي، فلا يمكنني رؤية النجوم منها الا اذا خرجت ورفعت رأسي عالياً، بدت هذه الجدران التي تحيطني كقضبان زنزانة، وانا السجينة فيها، لا يوجد ساحرة لتخرجني من هنا، كما اخرجت سندريلا من اعماق اليأس، ولا حفرة ادخل منها هروبا لعالم عجيب كما فعلت اليس.
حياتي اشبه برواية سخيفة، احببت فيها دور الشخصية الثانوية، ولكن حتى هذا كان كثيراً علي.
ومضت في رأسي فكرة سخيفة، لبعض الروايات التي قرأتها، لكاتب روسي. معظم اعماله تتحدث عن البؤس، غير انه وصف البؤس بأنه رذيلة.
انه يبدع في بناء الشخصيات الثانوية اكثر من الشخصية الرئيسية، على العكس، تتسبب الشخصيات الثانوية بكل الاحداث، بينما يكتفي البطل بالمشاهدة، ربما لا تشبه حياتي رواية من روايات ديزني، ولكنها اشبه بكثير روايات الادب الروسي.
ولكن الفرق بيني وبين ابطال رواياته، انهم مجانين، قلوبهم حرة وان كانت اجسادهم ليست كذلك. تمكن احدهم من الشعور بالحب خلف قضبان زنزانة السجن، اليست هذه هي الحرية؟
تنهدت والدموع تتخلخل الى عيناي، فمسحتها بكم بلوزتي، ورفعت الغطاء عني.
وها انا ذا، اقترب من باب غرفة اوليفر، خطوات غريبة، وكأن قدماي هي من تتحكم بي، ولست انا، وكأن ضرباً من الجنون قد اصاب رأسي، فأصبحت اتصرف كما يتصرف ابطال الروايات.
طرقت الباب طرقة خفيفة، بوجه خالٍ من التعابير، وقبل ان انهي الطرق فتح اوليفر الباب على مصراعيه، وابتسامة مبتهجة تزين ثغره، ثم انتشل كفي بحركة خاطفة وسحبني الى غرفته وهو يقهقه بصوت خافت
-لقد علمت انكِ ستعودين، كنت انتظرك.
وما لبث ان اغلق الباب بهدوء، ونظر الي وهو يتأمل عيناي الدامعان، فهمست بنبرة مرتعشة
-اوليفر
-اجل يا اورسلا
-لدي امنية
ابتسم بحنان، عندما قبضت على طرف بلوزته، وهمست
-اريد ان اغادر.
اثار ذهولي ان ابتسامته الحنينة لم تختفِ، فطفقت اقول بارتعاش
-لا تغضب، اعلم بأننا سعيدان مع بعضنا، اعلم بأنك تفعل كل شيء من اجلي، اعلم بأن هذا المنزل لا يخلو مما يجب ان يسعدني، اريد ان اكون بجانبك، ولكنني يا اوليفر..
قاطعني
-ما عدتِ تحتملين البقاء، ان الفكرة لوحدها تبعث الى الاشمئزاز.
وامال برأسه وهو يمسح بابهامه دمعة انزلقت على خدي
-لا تخافي يا اورسلا، اعلم ذلك جيداً، لقد كنت انتظر اليوم الذي ستخبرينني فيه بهذا الأمر، عندها وفقط، سأمتلك عذراً، عذراً لأتركك وشأنكِ، عذرا لأدعكِ ترحلين
اتسعت عيناي، وكادت ان تخرجا من محجريهما
-مالذي تقوله؟
-انك على علم تام، بأنكِ لستِ ملزمة على الشعور بالانتماء الى هذه الأرض، ولا حتى إلي
-توقف يا اوليفر، لا تقل ذلك الامر، ارجوك.
امسك بكفي، وداعب اصابعي وهو يهمس
-لا بأس، لا يجب ان يؤلمك الواقع يا اورسلا، الم اربيكِ على ذلك؟
-ولكن ما تقوله محض هراء، انا لا اريد المغادرة بسببك، انني انتمي اليك، ارجوك.
-كلا، انك لا تنتمين الى هنا يا اورسلا.
تساقطت الدموع على خدي بغزارة، فأفلت كفي، وهو يرغم نفسه على الابتسام، وقال وهو يتنحى الى السرير
-اتعلمين لماذا يمنعنا ابي من الاقتراب من بعضنا؟
قلت بيأس
-لأنه يخشى ان نصبح اخوة حقاً.
ابتسم ساخرا، وجلس على سريره وشابك اصابعه
-لقد اخبرني ذات مرة، بإستحالة مكوث رجل وامرأة لا تربطهما صلة الدم، دون ان ينجذبا الى بعضيهما انجذاباً سيئاً، ولكنني كنت ولا زلت، منذ ان حملتك بين ذراعاي وانتِ ابنة ثلاثة شهور، اعتبركِ كأختي الصغرى، بل اكثر من ذلك، لا يمكنني سوى ان اشعر بأنك ابنتي يا اورسلا، لقد كسرنا القاعدة التي كان يخشاها ابي، ولكنني على علم تام، بأن هذه المشاعر لا تعني لزوم البقاء معا، العائلة علاقة معقدة جداً، انها كسلسال، سلسال من الدماء، والفرق بينه وبين كل قيد، بأنه قيد لا ينكسر.
-توقف، ان رابطتنا اقوى من ذلك بكثير
-لقد صدقتِ، نحن نمتلك اكثر من ذلك، نحن نمتلك ذكريات تخصنا لوحدنا، نمتلك مشاعرا بالود اكبر مما قد يمتلكها اخوين تربطهما الدماء، ولكنني اريد ايضاح نقطة صغيرة لكِ.
واطرق برأسه وهو يستأنف كلامه
-ان اردنا اثبات ذلك، بأننا عائلة حقاً، علينا ان نختبر قوة هذه الرابطة، لا يشترط في رابط الدم ان يمكث الاخوين بجانب بعضيهما، اما نحن، نفترض ان العلاقة اقوى كلما اقتربنا اكثر، لأننا لا نمتلك سلسلة اخرى يمكننا ان نتشبث بها، لا رابط اخر، سوى الذكريات، واللحظات السعيدة، والحب الصادق، لذلك قررت منذ امد بعيد، بأنني سأتركك وشأنكِ في اللحظة التي يخطر فيها الامر الى قلبك، ولن يعني هذا بأنني سأتخلى عنكِ.
تقدمت اليه وجسدي يرتعش، وجلست بجانبه، عندما امسك بكفي، وقال
-ان لكِ فصلا اخر لتعيشيه، اما دوري في ذلك، كالدور الذي تلعبه اي عائلة في الحياة، سأقدم لكِ الدعم والتشجيع، وسأعلق ثقتي بك اينما حللتِ.
-ولكنني لا اعلم اين سأذهب، وماذا عن ابي؟ الا يمكن ان تأتي معي.
-اهدأي، وفكري في المكان الذي تعلق قلبكِ به، لدرجة دفعتك للتفكير بالمغادرة.
-لمعت عيناي، عندما قلتُ بهمسة
-لندن. ولكن هل هذا ممكن؟ احقاً ممكن؟ ولكنني لا املك مكاناً هناك ولا..
قاطعني ببهجة
-لندن، اختيار موفق.
-ولكن يا اوليفر، انني لا امتلك الشجاعة، للبقاء بمفردي في مدينة كبيرة كهذه، صحيح انني اريد الذهاب ومغادرة هذا المنزل. ولكن.
امسك بكتفاي بقوة
-اتظنين انني سأترككِ لوحدكِ، لا تقلقِ، ستغادرين الى لندن، ولن تشعري هناك بالوحدة والغربة، هل تثقين بي؟
-اكثر مما اثق في نفسي
-عظيم، اذن، فلتتركِ كل شيء على عاتقي، اما انت، فكل ما يجب عليك فعله هو توضيب اغراضك.
-ولكن
لانت ملامحه، ثم همس بحنان ابوي
-هيا، انها المرة الأولى التي تتسنى لي الفرصة، في تقديم شيء لك، بصفتي عائلتك.
ابتسمت وسط دموعي، فضمني الى صدره وهو يطبطب على ظهري، فقلت بارتعاش
-ولكنني خائفة، انني اخشى التغيير يا اوليفر
-ولكن، عندما يصبح ماهو طبيعي مثيرا للقرف، على المرء ان يلجأ الى الخوارق.
-كما يفعل ابطال الروايات.
-اجل
-ولكنني شخصية ثانوية
-ستصبحين شخصية ثانوية سعيدة اذن.
فبادلته العناق، شعرت بالنور يتسلل الى قلبي، كما لو ان النار قدحت في غور عميق مظلم من اعماق روحي، وكانت مؤلمة ومخيفة، ولكنها دافئة، يال تناقض مشاعر الإنسان.

***

أورسلاWhere stories live. Discover now