لم تكن قد مرت ثلاث دقائق على مسيرنا بجانب بعضنا، عندما مررنا في احد الشوارع الهادئة، فتركته وبدأت أتفحص الشارع لعلي احفظه جيداً، ولكنني اعلم انني سأضيع فيه مجدداً، وفجأة توقف، حدقت به ببلاهة، واذا بنا نقف امام فناء المنزل، فلمحت شبح ابتسامة على ثغره، عندما قال
-هذه وجهتي. ماذا عنك؟
فتفحصت الفناء ببلاهة، وقلت
-وجهتي انا ايضاً....
ثم تذكرت خروجه من ذلك المخزن، فكادت الدماء ان تتجمد في عروقي، اعدت انظاري اليه وهي تخلو من الحياة، وقلت
-و اين تسكن انت؟
انتشل سترته من بين ذراعاي
-هذا هو منزلي، ماذا؟ اترغبين الآن في ان ادعوك للعشاء؟
فابتلعت ريقي بضياع، واخذت ابحث عن حقائبي، واشعر بضغط دمي يهبط شيئاً فشيئاً، وانا ادمدم بخيبة
-اذن، لا بد ان المنزل الذي انشده في مكان اخر، لا بد من ذلك.
-هذا صحيح، يستحيل ان تكوني قد قصدتي منزلي آيضاً، لا يمكن ذلك.
-لقد اختفت، اين هي حقائبي.
-هل تركتيها هنا؟ في الفناء؟
-اجل، لكنها اختفت، لا بد ان احد ما سرقها.
فاخذ يعبث بشعره وهو يتظاهر بالقلق
-لا اصدق، لم ارَ من قبل شخصاً يفتقر لحس المسؤولية بقدرك.
فتقوست شفتاي من جديد، ونظرت اليه نظرة منكسرة
-هلا توقفت عن السخرية مني ارجوك، انني على شفا حفرة من الانهيار.
-ولكنني لم اسخر منكِ بعد.
صفعت جبهتي، ثم غطيت عيناي بوجه محمر، اشعر بعنقي ينبض، ودمائي تغلي، وسأصرخ في اي ثانية، اريد اوليفر، اريد ان اعود الى غرفتي وفراشي، لم اعد احب شعور الضياع.
ازدرد ريقه وطفق يخطو نحوي بحذر، ولكنه توقف عندما سمع صوت مزلاج الباب يفتح، فهرعت منه امرأة في منتصف الاربعينات، كانت تبدو صغيرة رغم ذلك، لها شعر كستنائي قصير ترفعه بمشبك شعر، وترتدي ثياب بسيطة، فتحت الباب على مصراعيها وندهت بقلق
-يا الهي، حمدا لله، ناثان، لقد عدت، حمدا لله.
وتفرست النظر بي، فبادلتها ببعض التوجس، واذا بها تهرع نحوي
-اوه يا صغيرتي، لا بد انكِ اورسلا.
والتقطتني وهي تمسك بذراعي بقوة، فتشنج جسدي
-لقد قلقت عليك كثيراً، اخبرني اوليفر انك ستصلين في الظهيرة، ولكنك تأخرت، اين كنتِ يا ابنتي.
ابتلعت ريقي وقلت بتردد
-خالتي؟ هل انت هي الخالة ايفا؟
فلمعت عيناها ولمست خدي بحب، وهي تومئ برأسها، فاستغربت من هذا الحنان الذي تكنه لي، برغم انها المرة الاولى التي اراها في حياتي، ولكنني استقبلته بصدر رحب، فأكثر ما احتاجه الآن هو كلمات حب وطمأنينة، وعناق دافئ.
فألنت ملامحي، وهممت بعناقها وانا اقول
-خالتي، انا اسفة، لا بد انني سببت لك المتاعب، ارجوك سامحيني.
فبادلتني العناق، واشعر بنبضات قلبها تتسارع
-لا بأس يا صغيرتي، لا بأس
-لقد كنت فتاة طائشة ومتهورة، واردت ان اسير في الشارع لوحدي والعب، لا بد انني اقلقتكِ كثيراً.
-اجل لقد قلقت، ولكن لحسن الحظ ان لدي من يمكنه ايجادك في طرفة عين.
ثم انهت العناق، وابتسمت بدفء وهي توجه انظارها الى ناثان، الذي كان يشاهدنا بلا مبالاة وهو يداعب سيجارته بين اصبعيه. فرشقته بازدراء وقلت
-ناثان؟
-اجل، لا بد انه من وجدك.
-بل هي من وجدتني.
فاجابت بذهول
-ه.. هاه؟ كيف؟
تجاهلتها، وطفقت اتأمله بغيض، والدماء تغلي في عروقي، اذن لقد كان يعرف كل شيء، كان يعلم بأنني سأكون ضيفة في منزله اليوم، ولكنه تظاهر بالجهل ليجعلني ابدو غبية، لقد سخر مني حتى اخر رمق، لم يكن حديثه معي عن طريق الصدفة، بل كان ينجز مهمته في ايجادي، فقلت بصوت مهموس
-ما قرابتك به يا خالتي؟
-اوه، ناثان، انه ولدي الأو... الأكبر، ولدي الأكبر.
فضيقت عيناي بانزعاج، واذا بها تسحبني من كفي. الى الداخل
-هل ستبقين في الخارج الى الابد، لقد اوصاني اوليفر عنك كثيراً، لذلك تصرفي ان المنزل هو منزلك ارجوك.
تبعتها وانا اثبت عيناي على ناثان، الذي همس لي من بعيد
-بينغو
-سأقتلك.
رافقتها الجلوس على الاريكة، كان المنزل بسيطاً الى حد ما، اربعة ارائك توازي اضلاع الغرفة الاربعة، وتلفاز معلق على الجدار الامامي، وطاولة في الوسط تعتليها مزهرية كبيرة فيها اكليل من زهور التوليب الزرقاء.
كان الخجل يعتريني قليلاً، ولكن الفضول يتملكني لطرح الكثير من الأسئلة. وكان ناثان يخلع حذائه استعداداً للدخول، عندما طرحت سؤالي الأول
-ولكن ما علاقتك بأوليفر يا خالتي؟ انه لم يحدثني عنكِ من قبل، لقد كان الفضول يتملكني منذ البداية.
شابكت اصابعها وهي تحدق في ناثان بقلق، الذي بادلها النظر ويبدو ان اسم اوليفر قد انتشل انتباهه. فتعجل في خلع حذائه، وهم بالدخول قائلاً
-اوليفر، الم يخبركِ حتى الآن؟
قاطعته خالتي وهي تنده بتردد
-اوليفر، انه صديق ناثان.
فعقد حاجبيه باستنكار، عندما استأنفت وهي تعبث باصابعها.
-وبمرور الوقت تعرفنا عليه بشكل جيد، ثم اصبح صديق العائلة.
-صديق العائلة؟ ولكنه لم يخبرني بأنه قد زار لندن من قبل؟
فرأيت تعابير ناثان تستحيل الى بعض التهكم، فقالت وهي تنظر اليه
-اجل، لم يأتِ اوليفر الى لندن، لقد كان ناثان يتردد الى امستردام من اجل عمله.
-اوه هكذا اذن.
فهمس ناثان بسخرية
-لقد صدقَت الأمر بسرعة
فقضمت الخالة ايفا شفتيها، وقالت وهي تومئ له ان يصمت
-ناثان!
رشقته بنظرة مستغربة، فدس كفيه في جيوب بنطاله عندما قال لي
-لقد كانت تلك كذبة.
ضيقت عيناي قبل ان تقف الخالة ايفا من مكانها بغضب، ثم صرخت صرخة عنيفة
-ناثان، غادر بسرعة.
شابكت اصابعي خلف ظهري، وهي تصرخ
-انا لا اكذب، توقف عن التصرف بهذا الشكل. انت تحرجني امام الفتاة.
-ان كنت تخشين احراج نفسكِ، فلا تخدعيها اذن.
وتعالت صرختها، وفي الوقت ذاته ظهرت من خلف الباب فتاة بعمر المراهقة، وكانت تتفحص الغرفة وتنظر الي باستغراب، وفجأة ابتسمت، وتقدمت الي وسط صراخ والدتها، ثم امسكت بكفي
-لا بد انك اورسلا، لقد كنا في انتظارك
اومأت برأسي بشفتين متقوستين، ومن دون ان اشعر انهمكت في البكاء، فاختفت البهجة من ملامحها، وداعبت ذقني محاولة ان تمسح دموعي
-ما الأمر
-ان خالتي غاضبة جدا بسببي.
-اوه، كلا.
واعقبت بصوت مرتفع
-اماه، توقفي عن توبيخ ناثان لمرة فقط، من اجل اورسلا، انت تخيفينها.
فنظرا الي، واذا بملامح الخالة ايفا تلين، وقالت بتردد وهي تهرع الي بندم
-اوه، صغيرتي، انا اسفة، اسفة جداً، لم اقصد ذلك.
وامسكت بكتفي، فقلت وانا امسح دمعة انزلقت على وجنتي
-لا بأس، لست ابكي بسببك، لقد كان يوما عصيباً جداً، ولا اريد ان ينتهي بهذا الشكل.
فامسكت بيدي وأنشأت تداعب اصابعي
-لا بأس اذن، يمكنك البكاء، سامحيني لأنني لم اتمالك اعصابي.
-انه فقط، ان كان سؤالي خاطئاً يمكنك قول ذلك فحسب، يمكنك اخباري بأنه امر لا تريدين اعلامي به، او انه شديد السرية، لن ابالي، كان سؤالي بدافع الفضول لا اكثر. لذلك بدل من تلفيق كذبة، افضل ان تقولي "لا يمكنني اخباركِ يا اورسلا"
فاطرقت برأسها باحراج، والفتاة تطبطب على كتفي بتعاطف، فقلت بنبرة باكية
-اريد الاتصال باوليفر.
امالت الفتاة برأسها
-هاتفك ليس معك؟
-انا لا امتلك هاتف.
-اوه يا الهي، لا اصدق ذلك!
-وانا جائعة.
فانبست ضحكة خفيفة من ثغر الخالة ايفا، وهمست بحنان
-سأعد لك طعاما شهيا، فلتجلسي لتحصلي على بعض الراحة.
واعقبت الفتاة بسعادة
-سأجلب لكِ هاتفي، يمكنك اجراء ما تشائين من المكالمات فيه.
اومأت برأسي، وكان ناثان في هذه اللحظة يهم بالمغادرة حاملاً انزعاجه معه، ولكن الخالة ايفا استوقفته بصرامة
-توقف، مكانك.
فتوقف من دون ان ينظر اليها
-اعلم انك لم تتناول الغداء، وكل ما يدخل في جوفك هو ذلك الدخان الملوث، لذلك فلتعد بسرعة لتناول العشاء.
-لا املك شهية.
-بل ستفعل ذلك، امام عيناي.
-فلتحدقي بي حتى الصباح اذن.
فقضمت شفتيها بانزعاج
-ناثان!
YOU ARE READING
أورسلا
Romanceها انا ذا، احلق بين الوديان والجبال، ومن جانبي حدائق لم ارها من قبل، ولكنني لا اختار وجهتي، اسير عكس اتجاه الشمس، ويحملني هذه القطار الى حيث يشاء، الى موضع الأمان الذي لم يكن آمناً يوما. ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج...