***
وعندما توقف القطار في احد محطات لندن، كانت المدينة في اكثر حالاتها هدوئاً، حتى ان المحطة لم تكن مزدحمة ولا يجلس فيها الا من جاء لإستقبال القادمين من امستردام، فحملت حقائبي ونزلت من الدرج، ولم يستقبلني سوى حرارة شمس الظهر العمودية، ونسمات هواء لندن الدافئة، صخب البشر السعداء وضحكاتهم المشتاقة، وهم يعانقون بعضهم البعض على جانب الرصيف.
عدوت قليلا وانا لا اشعر الى اين تقودني قدماي، حتى لوهلة كدت ان اصدق بأن القيود قد انكسرت على اثر خطواتي، وبات الركض الى حيث اشاء امراً ممكناً، ولا يعد ضرباً من ضروب الجنون.
وبينما اسير وعيناي تحدق في ورقة العنوان الذي دونه اوليفر، رأيت من بعيد رجل المكسرات، على بعد مسافة امكنني من خلالها سماع حديثه مع رجل اخر شديد الأناقة، ببذلة رسمية، وكان يافعاً حتى قدرت عمره في بداية العشرين.
وبدا لي ان الجو مشحون، فقد سمعت الرجل يصرخ في وجهه
-ولكن لماذا لم يأتِ لوكاس ليستقبلني؟ لقد ارسلت له رسالة بأنني قادم.
اطرق الشاب برأسه
-انا اسف يا سيد آرثر، لقد كان مشغولاً منذ الصباح في.
-في ماذا؟ هه في ماذا؟ انه حفيدي وانا اشد العارفين به، لا بد انه لا يزال نائماً في سريره، وان كان يفتعل فعلا فأنني اكاد اجزم انه يتقافز في مقاهي تشيلسي ليغني اغانيه الغبية ويصرف اموالي على النساء.
-انا اسف يا سيدي.
فضربه على رأسه ضربة كان يضحك خلالها ضحكة مازحة
-ولماذا تعتذر انت يا ويليام؟ لم تفعل شيئاً خاطئاً، على العكس، شكراً لك لإستقبالي.
اجابه بتردد
-ولكن يا سيدي، لقد انتقلنا انا و لوكاس قبل امس الى تشيسوك، ومكثنا في منزل صغير.
فتنهد السيد العجوز تنهيدة يائسة
-لا اصدق، ولم يعلمني بهذا الأمر حتىوكنت قد وصلت الى مكان بعيد لا يمكنني خلاله الاستماع الى بقية كلامهما، فتبسمت ساخرة، وطفقت احدث نفسي عن مدى طيش هذا الحفيد، انه يمتلك جداً رائعاً كهذا ورغم ذلك لا يقدر هذه النعمة، ولكن.
دققت النظر في الورقة، وعندما قرأت اسم المدينة انتابني ذهول شديد، كان المنزل المقصود يقع في تشيسوك ايضاً، اخبرني اوليفر انه منزل يتوسط حقل زراعي متوسط الحجم، ولكنني لم اقرأ العنوان حتى هذه اللحظة.
وبينما كانت سيارة الأجرة تقلني، في الطريق الذي من المفترض ان تأخذني فيه، كنت اتجاهل تساؤلاتي عن علاقة اوليفر بصاحبة هذا المنزل، لأنه لم يزر في حياته لندن، ولم يخبرني عن صداقاته.
واشغلت نفسي في الكتابة، بين الطريق الذي تحده شجيرات القيقب من الجوانب، واوراقها تتطاير مع نسمات الهواء، وتهب بجانبي، تلامس نوافذ السيارة، وكأنها ترحب بي.
ويغمر قلبي احساس بالتفاهة، ها انا غادرت، غادرت المنزل الذي كنت اعده قفصاً لي، فلماذا لا تختار قدمي الوجهة؟ لماذا لا زلت اسير عكس اتجاه الشمس؟
في سيارة صغيرة، تأخذني الى الطريق الذي تم تقريره عني مسبقاً. حركت قدماي وكأنني اتخيل شعور ان اسير. ونظرت الى ما بين الشجيرات، واتسائل عن الأحساس الذي قد يغمرني، ان تهت بين اغصانها واوراقها، ان سرت مع سرب الارانب التي تتقافز، وخلدت للنوم بجانب منزل السناجب. اهذا حقاً حلم كبير علي؟
وعندما ترجلت من سيارة الأجرة، وقفت بجانب فناء المنزل العريض، تغطي أعشابه اوراق القيقب المتيبسة، وتتناثر فيه اشجارها بشكل عشوائي جميل، ورأيت طيور الكناري تحلق بين اغصان هذه الشجرة وتلك، وعائلة من القطط ترقد على جانب ناءٍ من الفناء، تلاحق بأعينها حركات طيور الكناري.
وعلى طول الطريق الذي يؤدي الى المنزل، عواميد تعتليها فوانيس، وانوارها مطفئة، انشأت اتردد في سير خطوتي الاولى على هذا الطريق.
ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج بين الاعشاب والاوراق، على الجانب الذي لم يكن يوما مخصصا لأن يسير عليه احد.
توقفت في منتصف مسيري، واستدرت حول نفسي، والدموع تكاد ان تنزلق على وجنتاي. لمحت من بعيد بناء اشبه بالمخزن، كان مستقراً في زاوية بعيدة من الفناء الخلفي، لا يمكن رؤيته من هنا بشكل كامل، ويتوسط البناء باب خشبي، لم تمر لحظات حتى ظهر من خلفه رجل طويل القامة. كان متأزرا ببذلة رسمية سوداء، تظيف على مظهره بعض الجدية، ورأيت من هذه المسافة لمعة عيناه العسليتان، وشعره الذي اشتقت خصلاته لونا من الوان البن الداكنة، كان منهمكا في اشعال سيجارة دفنها بين شفتيه، وطفق يتحدث في ذات الوقت على هاتفه، وهو يدمدم بإنزعاج
-لقد قلت انني لن استلم هذه القضية ابداً يا سيد مارسيل، ولن تغير رأيي.
ثم نفث الدخان في الهواء، واخذ يعبث بخصلات شعره وهو يستأنف
-كل ما يمكنني اخبارك به، ان ابنتك قامت بالانتحار حقا، ولا فائدة من اقحام اناس ابرياء في قضية واضحة كهذه. اذن، ماذا؟ اتشك في احد ما؟
وبتنهيدة قال
-لنتقابل، حسنا، في مقهى نيرو، سأصل في عشر دقائق.
YOU ARE READING
أورسلا
Romanceها انا ذا، احلق بين الوديان والجبال، ومن جانبي حدائق لم ارها من قبل، ولكنني لا اختار وجهتي، اسير عكس اتجاه الشمس، ويحملني هذه القطار الى حيث يشاء، الى موضع الأمان الذي لم يكن آمناً يوما. ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج...