غادرت بيلا مع مارتن الى خانة الازياء الرجالية، اما انا وهذا الرجل فجلسنا في الحديقة التي تقابل المتاجر، ورغم انها كانت تضج بالاطفال، والبشر الذين يستريحون على المقاعد المتناثرة في الارجاء، الا ان شيئاً من الهدوء كان يملأ اجوائها، ربما لأنها، مقارنة بذلك الصخب في المتاجر، يبدو لي صخبها كهدوء ارض مقفرة.
فتنهد بارتياح، وخلع نظارته وهو يحدق بالسماء، ففعلت المثل، ثم طفق يثرثر بلا توقف
-اسمعي، انا حقاً لم اتوقع ان اراكِ هنا، لقد كنت افكر في الطريقة التي يمكن فيها ان اراك من جديد، وها هو ذا القدر يحل كل شيء.
-لماذا ترغب في لقائي؟
احتضن ركبتيه، ثم امال رأسه واسنده عليهما، واخذ يحدق بي ببراءة اطفال
-لأنك جميلة، اريد ان احدق بكِ باستمرار.
احمر وجهي خجلا، فرسمت ابتسامة مرتابة على ثغري
-ولكن هذا لا يعد سبباً كافيا لمحاولة لقاء احدهم.
-بل هو اكثر من كافٍ، تخيلي معي، انك تعيشين في مكان مليء بالحيوانات القبيحة، واينما تضعين عيناك تجدين مخلوقاً لا يسرك النظر اليه، ولا يفهم كلمة مما تقولينه، وفجأة وجدتِ رجلا وسيماً ينظر اليك، الن تتشبثِي به في هذه الحال؟ وان غادركِ ستقضين ايامكِ تنتظرين لقاءه.
-اتحاول القول بأنك تعيش حالة مشابهة؟
-بعض الشيء، غير انني تأقلمت قليلا مع الحيوانات التي بجانبي، واصبحت اتعايش معها.
-وذلك البشري؟ هل هو؟
-بينغو، انه انتِ.
عقدت حاجباي باستغراب، فقال وهو يتنهد بارتياح
-انني اشعر حقاً بأنكِ شخصا يمكن الحديث معه.
-كثيراً.
فقام بتغيير جلسته، واصبح يواجهني
-دعينا اذن نتعرف بشكل لائق، انا لوكاس، عمري خمسة وعشرون سنة، لا انجازات، اتجول في شوارع لندن واغني كالأبله، لأنني لا احب احداً. اكره الاطفال واكره النساء العجائز والاجداد، واحب الفتيات الجميلات، واتمتع بلباقة لا يظاهيني فيها احد.
-هذا واضح جداً، انك شديد اللباقة يا سيد لوكاس.
-بفف، لا تناديني سيد، ناديني لوكاس فحسب، هذا يجعل مني ابدو جاداً، على اية حال، سأخبرك بالمزيد.
-اجل، وقبل كل شيء اخبرني لماذا انت هنا؟
-لقد جئت لأزور احد الاصدقاء، اخبرني انه يشعر بالمرض قليلاً، ولكن امه عجوز شمطاء، فهربت منهم واخذت اتجول في شوارع تشيلسي، حتى خطر في رأسي ان اقوم بالغناء، فأستعرت ذلك الجيتار من احد متاجر الآلات الموسيقية هناك، وتركني لأغني لما يقارب الساعه، ثم اتيتِ انتِ، فلم يكن امامي سوى اللحاق بك.
-اذن، انت تشعر بالفراغ فحسب، وعندما رأيتني وجدت عذراً لتقضية وقتك اخيراً برفقة شخص يمكنه الاستماع الى ثرثرتك، ببساطة لأنك لا تحتمل السكوت لوقت طويل، هل حزرت؟
ابتسم بتعجب وقال
-لقد قرأتيني مثل كتاب مفتوح.
-هذا ما ابرع به معظم الوقت.
سحب حقيبته من خلف كتفه، ثم اخرج كيسين من شيبس البطاطس، منح احدهما لي، فقبلته بلا تردد، وأخذنا نمضغ البطاطس معا
-هل لديكِ حبيب؟
-همم، كلا، لا اظن ان ذلك قد يفلح معي
-لماذا؟
-ان معاييري خيالية، اعني انني لا اقع في حب احد الا ان كان شخصا من شخصيات الروايات، او من احد عروض الأنمي اليابانية، لذلك تخليت عن فكرة الارتباط منذ وقت طويل، واقتنعت انني لن احب احداً في حياتي.
-هيه! تحبين الشخصيات ثنائية الابعاد، ولكن، هاه؟
-ان وصفك لها بهذا الشكل يجعلني ابدو غبية بعض الشيء، ما اقصده انني لا اجد ما احبه في الاشخاص الواقعيين، ذلك لأن الشخصيات الروائية قد تمت كتابتها بشكل مثالي.
-اذن، تنشدين الكمال وتبحثين عن المثالية في الاشخاص؟
-هذا خاطئ ايضاً، ولكنني فقط، اعجز عن الشعور بالانبهار الذي يولده الحب، لأن معظم الناس عاديين بالنسبة الي.
-هكذا اذن، و ان وجدتي رجلاً يمكنه ان يبهرك ستقعين في الحب؟
-اجل، غالباً، الا انني ولسبب ما اشعر بأن كل الناس اللطفاء هم اخوتي واخواتي.
-اهغ، انني اعلم السبب.
حدقت به بترقب، فقال
-ذلك ببساطة لأنك لم تكتشفي كم ان الحب رائع، ولم يقم احد بمنحكِ فرصة لتجربة ذلك.
-احد؟ الا ينبع هذا الشعور من داخلي؟ كيف يمكن لأحد ان يمنحني ذلك؟
-ما الفرق بيننا وبين شخصان واقعان في الحب؟
-انهما، واقعان في الحب؟
-كلا ايتها الحمقاء، الفرق هو انهما يتقبلان بعضهما بالكامل، انهما يرغبان في البقاء بمفردهما ويعيشان عالمهما الخاص، والاهم من ذلك، يرغبان في التعبير عن هذه المشاعر باللمس والكلام الجميل، مثلا ان يلمسا ايدي بعضهما، ان يتداعبا بالقبلات الحميمية، وان يشعرا بانسجام روحيهما معا. ان يذوبا في بعضيهما كما يذوب مكعب السكر في كوب ماء.
املت برأسي
-اجل، ان هذا فعلاً ما يحدث بينهما، ولكنك تتحدث بعض الشيء عن الرغبة في الاتصال الجسدي، غير انني قلت بأنني اعجز حتى عن الوصول الى الشعور الاول، فما بالك بالعبور الى الرغبة في اللمس.
-اذن، الا تشعرين بالرغبة في العناق والتقبيل؟ بغض النظر عن كونه حبا، لأن هذه قد تكون مشكلة هرمونية خطيرة.
-بلى، ولكن ليس مع شخص واحد، انني ارغب بعناق اي شخص حزين، لا يعني هذا بأنني واقعة في حب الجميع.
-اذن، هل تشيرين الى أن الحب يعني الرغبة في تقبيل ذلك الرجل لوحده، وعناقه لوحده؟
-كلا، هذا يبدو لي محدوداً جداً، اعني، هنالك بعض الاشخاص الذين يشعرون بالحب، ونادراً ما يعبرون عنه باللمس.
-اجل، لقد نطقت بالمنطق، انك لا تعلمين حتى ما هو الحب يا اورسلا، هذا هو السبب الاساسي في عدم قدرتك على تجربته، لأنك وان شعرت به فلن تعلمي ان ذلك هو الحب، اما عن الرغبة الجسدية، فهي سواسية لدى الجميع، اعني ان النساء يرغبن في ان يقبلهن اي رجل وسيم يرينه، والرجل سيرغب في تقبيل اي انثى جميلة يراها، كرغبتي في تقبيلكِ الآن.
-هذا صحيح.
ثم صمتت لوهلة، وانا احاول استيعاب الجملة الاخيرة التي قالها، وللحظات كنت اشعر بأنها كانت من صنع مخيلتي، فنظرت الى الارض بوجه محمر، اما هو فقد اتكأ على كفيه نحو الخلف، وطفق يرمقني بابتسامة جانبية، فنظرت اليه وعلى ثغري شبح ابتسامة، وكنت اشعر بجسدي قد تجمد، لا اعلم مالذي قد اقوله او افعله، لان كل شيء سيبدو محرجاً.
فاكتفيت بابتسامة ووجه خالٍ من التعابير. فهمس وهو ينحني الي
-ما هذا الصمت؟ لا تسيئي فهمي، لقد اردت اثبات نظريتك فقط، اننا جميعا نخضع للطبيعة البشرية امام الجميلات، ومن ضمنهم انا.
-لقد فهمت.
ابتلعت ما في فمي بجمود، واشعر بالنار تلفح وجهي، ويبدو انه قد لاحظ شدة احمراري، فكان ينوي تغيير الموضوع والاستمرار في ثرثرته، غير اننا سمعنا خشخشة العشب على اثر خطوات احدهم وهو يقترب منا، فنظرنا اليه، واذا بالحياة تعود الى وجهي من جديد، ها هو ذا، منقذي في المواقف الحرجة، فقلت بابتسامة
-ناثان.
كان يحمل في كفه كيساً فحزرت انها تلك الكتب التي طلبتها منه، يحدق تارة بي وتارة بلوكاس، محاولاً اخفاء نظراته الحادة، ولكنها كانت واضحة لنا كلانا، فالتفت الى بيلا ومارتن اللذان كانا يبحثان في اوجه الحشود واحداً تل والاخر، ثم قال ببرود
-ها هي، لقد وجدتها.
هرعت بيلا الي، وهي تحدق بلوكاس بارتياب، ثم قالت بلطف مصطنع
-اورسلا، لقد جاء ناثان منذ وقت طويل، وكنا نبحث عنك في الارجاء.
اعقب ناثان ببرود
-لقد كانت عدة دقائق فحسب، اخبرتكم انها ستتواجد هنا.
-ولكن كيف ذهبتِ من دون اخباري، وانت حتى لا تمتلكين هاتف خلوي.
فغر لوكاس فاهه، وقال بتعجب
-الا تمتلكين هاتفا خلويا؟
اجبت بتردد
-كلا، لم يكن اخي يسمح لي بامتلاك واحد.
ثم نهضت وانا انفض الاعشاب عن ثوبي
-اسفة، لقد ظننت انني سآتي بسرعة، ولم اكن انوي ازعاجكِ.
-لا بأس.
ثم اضافت وهي ترمق لوكاس من رأسه الى اخمص قدميه
-هذا هو الرجل الوسيم الذي كان يغني، الم تخبريني بأنكِ لا تعرفينه؟
احمر وجهي بخجل، اما لوكاس فقال وهو يمد يده للمصافحة
-لوكاس، سررت بلقائك
فبادلته المصافحة، ثم وجه كفه الى مارتن وناثان، فتفرس الاخير فيه ببرود، ثم اشار بأن يده مشغولة، فاكتفى لوكاس بالتراجع، ثم قال لي بهمسة
-من هذا الرجل المخيف؟
-ناثان.
فأجاب بتردد
-سررت بلقائك، مونسيور ناثان.
-بالتأكيد.
-اوه، انت من هذا النوع الذي يظن انه محور الكون.
فرفع ناثان احدى حاجبيه، ثم قال بسخرية
-وكأنني لست كذلك!
-لا محور للكون يا رجل، سوى النساء الجميلات.
-لسنا نتفق في هذه النقطة.
فقالت بيلا من الجانب
-اظن انه يقصدني.
ابتسم لوكاس، ثم انتشل يدها وطبع قبلة على ظاهر كفها
-بالتأكيد، مادموزيل.
فابتسمت بوجه محمر، واخذت تدير انظارها لي ثم الى مارتن وناثان بانتصار. فاكتفيتُ بالتنهد ببرود، قال ناثان وهو يضع الكيس على الأرض
-اذن، الن تخبريننا من هذا الفرنسي، يا اورسلا؟
ثم هم بخلع حذائه، فعقدت يداي و رأيته يتقدم
-انه لوكاس.
-وهو؟
وجلس بين العشب، حيث جلست بجانبه، وقلت
-لست ادري، انه.
جلس لوكاس على الجانب الاخر، واعقب بضحكة
-لم نقرر ما نكون بعد، لقد رقصنا مع بعضنا بشكل عشوائي، ثم رأيتها اثناء غنائي امام احد المتاجر، فتبعتها الى هنا، واجرينا نقاشا عميقا عن الحب.
-رقصتِ مع رجل لا تعرفينه؟
YOU ARE READING
أورسلا
Romanceها انا ذا، احلق بين الوديان والجبال، ومن جانبي حدائق لم ارها من قبل، ولكنني لا اختار وجهتي، اسير عكس اتجاه الشمس، ويحملني هذه القطار الى حيث يشاء، الى موضع الأمان الذي لم يكن آمناً يوما. ها هو ذا المسار المقرر لي، اما قلبي، يهوى فكرة الركض والتدحرج...