"الحَسَد من الأشياء القاسية في هذا العالم! أعني الحسد الذي لا يملك صاحبه فعل شئٍ حياله, الحسد الضعيف حسب ما أُسميه.. عندما يتحدث أحدهم عن أن والده إشترى له كذا و سافر به إلى كذا, وأنت لا تملك والداً.. عندما يتحدث أحدهم عن أن والدته صنعت له كذا ونظمت له ذاك, وأنت لا تملك والدة! عندما يتحدث أحدهم عن أنه لعب مع شقيقه و دافع عنه وهو مخطئ, وأنت لا تملك شقيقاً! أو عندما يتحدث أحدهم عن أن شقيقته جهزت له ذاك وساعدته في حل مشكلة ما, وأنت لا تملك شقيقة! هذا أضعف حسد, أضعف حسد, أضعف حسد.. كن رؤوفاً بمن يتملَّكُهُ الحسد الضعيف!"
*
عندما تخلق لنفسك الوحدة, تجدها قربك..
هي دوماً بجانبك, فقط نادها وأوصد الابواب على كليكما وينتهي الامر.. تأكلك بنهم, تقطعك في صمت, تقتلك بهدوء ودون أن تدري..
تنسيك مكان الابواب والنوافذ.. توصد هي الباب بقوة أكبر وتلتهم المفتاح.. تجهز عليك شئت أم أبيت, هي ترى أنه لا مجال لتغيير القرار والتراجع!
كنت لأموت لو لم تفتح والدتي الابواب يوماً!
كانت منقذي الوحيد, لم تستغنِ عني أبداً, قربي كل يوم أجدها. أحبها, أحبها جداً يا أبي.. أحاول النهوض, لأجلها فقط!
*سعادتي المركونة قربها, لا أريدها أن تختفي..*
لا تزال هذه أقصى أمنياتي, لكني أدركت ومؤخراً أنه مهما تكن رغبات الانسان, فإنها تبقى مجرد رغبات, مالم يُكتب لها التحقق!!
*
مرّت الخمس أيام كالبرق بعد أن كانت تبقى ساعات طوال!!
في كل يوم, أخرج صباحاً أنا وهي نتجاذب أطراف الحديث, -تتجاذب- أطرافه بمعنىً أدق!
تطورت الأوضاع وأصبحت أشاركها شيئاً فـشيئاً.. كانت تسعد بي يوماً بعد آخر.. تسعد لأني انتشلت نفسي من هوّة الاحزان, ولم تعلم أنها كانت السبب في عثوري على حبل الامل, تسلقته ونجحت بـفضلها بعد فضل الله الذي لم ينسني في محنتي ولم يتركني أعاني وحدي, مقصرة في حقه كثيراً!!.
بعد تناولنا للفطور أجلس وأشاهدها تفعل أشياءً عديدة, كانت المشاهدة الشئ الوحيد الذي أستطيع فعله ذلك الوقت, نتناول أنا وهي وأريج غذاءنا سويّاً.. أسعد بسماعِ أحاديثهم, رغم أنها قد باتت دون معنى بدونك..
لم تنكف أمي توصي أريج بي وبدراستي.. قدمت شقيقتي الأوراق إلى الجامعة وستبدأ في غضون أشهر.. أبدأ دراستي ويتزوج ويسافر كلٌ من أريج وقاسم.. وأنا ووالدتي وحدنا.. سنفترق لا محاله, لكني سـأمنع هذه التفرقة مهما يكن.. سأمسك بأمي بكل قوتي, لن ترحل كما رحلت أنت..
ليلاً, تخلد أمي باكراً للنوم, وأريج لا نرى وجهها سوى على مائدة الغذاء.. وأما قاسم,أرى شبحه في وقت متأخر من الليل وباكر من النهار.
أدخل غرفتي وأمسك هاتفي.. أتصفح الانترنت لهنيه.. ثم أعود للسباحة مجدداً في ذات البحر.. أسبح أجل, لكن طوق النجاة دائماً بقربي! لا أريد أن ينتهي الامر بي وأنا أصرخ, أتعرّق أو أبكي.. لا أريد لتلك الكوابيس معاودتي! أريدها أن تضِلَّ طريقها إليّ..
مرّت الخمس أيام, بشئ من البطء والسرعة!
صرتُ ألاحظ شيئاً متغيِّراً في أمي! أحاول أن أنسى ملاحظتي لكنها تروادني كـكوابيس, حتى جاء أكبر كابوس منها.. لا أزال أذكره بوضوح!
كنت أهزّ كتفيْ أمي بقوةٍ وأصرخ *إستيقظي*, ثم تعبت الصراخ فأمسكت بيديها وجلست قربها أبكي.. بعدها أذكر عيوني المعلّقة بجسدها المحمول على يديْ قاسم..
أخذها هذا الأخير بسيارته وبقيتُ مع أريج التي لم تكفّ عن الكلام والقلق والبكاء, أخيراً أخذت تمشي جيئةً وذهاباً وكأنها تروي الأرض من تحتها بدموعها الغزيرة!!
لم أرد سماع شئ, خرجت حيث تشرب قهوتها الصباحية!
كان الوقت مرعباً, ذات اللحظات تتكرر في عيني!!
الذاكرة, الكوابيس, العجز, الضعف, الانكسار, الحزن, التعثّر, والموت!!
*
لم يكن كابوساً! كان واقعاً كابوسياً مريراً..
يتامى!! صرنا تحت هذه المسمية, كنا تحتها سابقاً مذ رحل والدي, لكن الأمر تضاعف, فقدنا أباً وأُماً الان..
عرفت لماذا فقط فرخ الحمام لا تُطلق عليه مسمّية "يتيم" إلا عندما يفقد كلا والديه!! عرفتها الان فقط! وأظنني أُشفق عليّ.
كل هذه الأشياء لا تهمني! يهمني أنتما الان!! تغيرت صيغة أفكاري, بدل أن تكون بصيغة والدي! صارت بصيغته ووالدتي الان!!
الموت, الشبح المرعب الوحيد! يسرق أناساً كانوا هم كل مافي الحياة!
* من يقف بقربي الان! من يحتمل عجزي وضعفي! من يوقظني ويقول هذا مجرد حلم! من ينصحني! من يبقى لي! من أشكو إليه ولو بعينيّ!!
لا أحد؟ هكذا ببساطة! لا أحد؟ أمي, شعلة بيتنا انطفأت يا أمي..
البيت صار مهجوراً, لا أحد فيه!! سنغادره؟؟ لا لا لا لا أريد!!
أمي أجدك في كل زاوية!! لا تدعيهم يأخذون ابنتك!
أمي, هذه أنا! أمل الفاقدة للأمل! تعرّفي على صوتي وأمريهم أن يتركوني وحدي, بقربك! أخبريهم أنك هنا!! تحدثي يا أمي!
إنهم يقتلون قلبي ببكاءهم! يقطعونه أشلاءً يا أمي! أنا أعلم أنكِ هنا, أراكِ بوضوح!!! أريدك! أحتاج ليديك حقاً, أحتاج لحضنك حقاً, أحتاج لصوتك حقاً, أريدك حقاً.. أمي, أرجوك!! *
كنت أصرخ! أصرخ هذه المرة ولم أصمت كما فعلت في موت أبي! لكن صراخي لم يتجاوز حدود عقلي وقلبي.. أصرخ من الداخل, والفوضى تعمُّ رأسي!! فقدت الاحساس والشعور.. ولم أعلم مالذي يجري لي!!
لعلّي وصلت قمة احتمالي!! كنت أتألم بحق! وجع كبير جداً..
*
بعدما أخذ قاسم والدتي للمشفى كانت قد توفت بالفعل!
ماتت بسبب مرض انتشر في أنحاءٍ كثيرة من جسمها بعد أن كان فقط في فخذها الايسر!! قاست الكثير ولم تخبر أحداً منا! تعالج بنفسها ولم يعلم بها أي بشر..
انتهت حياة شبحي منذ تلك اللحظة, لم أحس بشئ بعدها أبداً, اعتبرت حياته سراباً. تلاشت نقطة الامل!!
انهرت, فقدت كل شي, لا أزال أذكر بكائي الصامت المخيف!!
كنت أفكر في أني أستطيع, وأستطيع, فقط لأني أفعل ذلك لأجلها!!
الان, سقطت من قمة شاهقة مرة أخرى..
هذه المرة, لن تأتي أمي لتساعدني على الوقوف, انتهيت, انتهت حياتي وصار كل ما أراه صورتها وهي في يدي قاسم..
ندمت فعلاً لأني جعلتها تعاني! كنت أنا الظالمة لها ولقلبها المتعب! كان الأحرى بي أن أقاوم لأجلها, لأجل وحدتها وألمها!! عرفت الان تلك الحروف المبعثرة, كانت ثلاث حروف قاسية لا تعرف الرحمة, أسوأ من القدر نفسه..
كانت, مرض, ورم, ثم موت!!
* هواء !! أريد هواءً, لا أقدر على التنفس!!*
اختنقت, كان الضيق الذي في قلبي يُصعّب الأمر حتى على رئتيّ!!
صار الوجع والألم يأكلني!! لا أقدر على المتابعة!!
أموت, سأذهب إليكما! تعبت, فقدت أبي وأمي والامل والان نفسي..
أنا أضيع من بين يديّ, أذوب فيهما وأهرب بعيداً, لا أقدر على التفكير أكثر!! كنت أركب الدرجات سريعاً وأتجاوز أقاربنا, لا أرغب بعزائهم !!
حددت رغبتي الان, أراها واضحة جداً!
لماذا تحدث أمور عكس إرادتنا؟ لم قررت الخروج أصلاً من غرفتي؟؟
ألم يكن ليكون أسهل لو أنني استمريت على تلك الحال!! وكان ليكون أخفّ وطأةً عليّ!
لماذا يستعملنا القدر أداةً لتنفيذ مايريده؟؟
لم لا تقف السعادة لبرهة قربنا! لم لا نلمح حتى وجهها على الاقل؟؟
سئمت الحياة! سئمت بقائي هكذا, الموت أقرب حل!! ثم إن أمي ليست هنا لتمنعني.."إتجهت للسطح وألقيت نظرتي الاخيرة, لم أتأخر ولم أمعن النظر, مشتاقة لحضنيكما, صعدت على السور, أغمضت عينيّ وخطيت خطوة واحدة في الهواء, أعتقد أن هذا هو القرار الوحيد الذي اتخذته بثقة في حياتي كلها!
أتذكر أني رأيت الحمرة في كل مكان وأصوات متعالية وشخص ما يحملني!!.. أأموت؟؟ اهٍ وأخيراً.. إنتظرت هذه اللحظة منذ زمن!! قادمة لكما, لا أكاد أستطيع الانتظار!
لقد إنحرف الضوء, ظلمةٌ مابعدها ظلمة!"
أنت تقرأ
خريف | Autumn
General Fictionخريف, قصةُ العزلة, الكآبة والعجز بعد الفقد.. واقعٌ بريشةٍ خيالية, ذاتُ رذاذٍ لامعٍ بالأمل, دافئٍ بالمحبة, وملئٌ بالإخلاص الوفيّ.. هي أمل التي غاب عنها الأمل, كم عانت وسقطت ووقفت لتسقط بقوةٍ أكبر من الأولى, لم تكن كأبطال الحكايات الذين يصبرون على الم...