" تنزعج آذاننا من بعض الأصوات فقط لأننا لا نفهمها, قد يكون صاحبها فاقداً قدرته على التعبير أو أنه يجهل كيفيته! كـسيارة تدور حول نفسها وسائقها لا يُفلت البوق! تحوم فوق رأسه الشتائم وهو لا يسمعهم.. وبعدها تنزعج لصوتٍ آخر! هو إرتطام السيارة بشئٍ ما.. وسبب كل هذه الجلبة أن السائق مُتعب أو مُفارق أو حتى سعيد.. يفعل هذا لأنه لم يعرف كيف يعبّر!. "
*
ذات يوم خريفي خاص بي, دخلت أمي كعادتها وعلى وقتها تماماً, تحدثت إليّ.. رفعتُ يدي قليلاً مشيرةً لباب غرفتي, لتفهم هي أنني أريد دخول الحمام..
ساعدتني على الوقوف وسرت مستندة إليها.. تظن والدتي أني أعجز عن السير وحدي, كان هذا جزءاً من الحقيقة لأنني إعتدت على الخمول ولا أتحرك كثيراً, لكن لم يكن كل هذا يعني أنني لا أستطيع السير بمفردي.. ومع ذلك, أحببت الجزء من أنني أستند على كتفها وأمسك بيدها!!
لذا استمريت في السير وأنا أرى كالعادة تشكّل بعض الدموع في زاويتي عينيها, قرأت الكثير في نظرتها!!
*ليتكَ تعود...بقيت وحدي...عاجزة عن فعل شئ...تعاني...أصبر...أدعو فقط..أصلي فقط..وأرفضهم خوفاً....تقدموا..مسكينة..ترتجف..تتراجع...بخير...الالم...بقوة..*
قطع فهمي لكلام عينيها تحرك رأسها وهي تتكلم *أأساعدك؟* كالعادة..
فأسير بخطىً مترنحة ولا أجيب لا بحرف ولا بهمس ولا إشارة, أكتفي فقط بالسير..
أدخل ببطء, محاولةً أن أمنع عيني عن رؤيتي, أزالت أمي المرايا من غرفتي عندما أن كنت أحدق بها طويلاً! لذا لم أرد من بعدها أن أراني مجدداً, نجحت في هذا لمدة.... لمَ أُصرُّ على ذكر المدة؟؟
أتذكر أني نجحت لمدةٍ ما! والان كسرت كل تلك المدة بنظرة خاطفة, إجتاحتني الرغبة من خلالها في رؤيتي! أردت أن أعرف كيف أصبحت الان!!
رفعت عينيّ ببطء للمرآة, وخفقان قلبي يزداد! وأمعائي تعتصرني, شعرت كأني مقدمة على الموت!
سحبَتْ نظراتي عيناي إلى وجهي, وتأملت..
رأيت عينين منتفختين من كثرة بكاء أو قلة نوم..
رأيت شعراً كستنائياً غير مهذب..
رأيت شفاهاً فارقتها البسمة منذ.... المدة مجدداً!!
رأيت نفسي أخيراً.. رأيت النظرة المنكسرة فيّ!
رأيت قِلَّة إهتمامي بـنفسي.. رأيت الحزن اللامفارق لي..
رأيتني وكأنني امرأة في الأربعينيات تُسحب طاقتها تدريجياً..
امرأة!!! ضحكت بصوت يشبه الهدهدة لسذاجة وصفي.. فأنا لم أتجاوز الثامنة عشرة بعد!! ثم إن النساء في هذا العمر يمتلكن طاقة أكبر من طاقتي بأضعاف!! ألست أنا السبب في هذا؟ في أن أجعل صحتي وشكلي ونفسي أسوأ من جدتي!؟ بلى هو كذلك للأسف!
أفاقت أمي لي وطرقت الباب, أزلتُ نظراتي من على المرآة وخرجت بلا كلمة ولا همس.. إتَّكأتُ على كتفها وسرنا لغرفتي, أو لمنبع أحزاني.. دخلت وسمعت صوت ارتطام باب غرفتي مع باب المنزل..
رجع أخي إلى المنزل, حدَّث أمي بـنبرة ممزوجة بالسخرية والاسف العُضال..
*لم تبرح غرفتها, لا؟ لا أمل منها, تحتاج للقوة تلك المريضة*
سمعت صفقة باب غرفة أمي وصوت كلام غير مفهوم من أخي..
لم يكن أخي 'قاسم' يوماً هكذا!
بعد عِدَّة أيامٍ من العزاء, جاء إليَّ وأنا مرتمية على سريري محاولاً التوغّل إليّ.. حاول قاسم قليل الصبر هذا..
تحدث وتحدث وتحدث.. ولم أنظر نحوه حتى! إكتفيت بإغلاق عينيّ..
غضب وأمسك بيدي وحاول إجباري على الجلوس..
لم أتزحزح, فحاول بقوة أكبر فـجلست مرغمة.. نظرت إليه نظرةً خالية من التعبير وعدت إلى خلوتي وارتميت على سريري..
إتجهتْ إليه أمي بـشرارةٍ من الغضب, ولم أسمع شيئاً من كلامها, لأني لم أُرد سماعها وهي تُدافع عني أمامي!! لكني فتحت أُذناي وهي تغلظ الايمان بألّا يقرب غرفتي..
وهاهو الان.. ككل يوم, يتحدث لها فلا تجيبه.. لا تزال لا تسامحه! أتظن أنها محقةٌ في هذا يا أبي؟ لا أدري, أنا حقاً لا أدري!
غريبون أنتم أيُّها الغيوم.. رغم إرتفاعاتكم السحيقة والمسافة بين غيركم, لا ترتاحون إلى أن ترى السهول ما أنتم عليه!!
*
ذلك الضيق الذي نحس به! ليس أيّ شئٍ يُعكِّر مزاجك! بل أن تُحس حقاً بوجود باب يُغلقُ تدريجياً وقلبك وسطه.. تُحس بقلبك فعلاً يُعتصَر.. بمجرد تذكر تلك الفكرة المزعجة, تنتظر فقط لحظة إغلاق الباب بإحكامٍ والقضاء على قلبك..
الامر الذي راح يقلقني كثيراً هو أمي, والمدة التي أمضيتها وأنا على هذا الحال!!
أمي التي في كتفها شئ يبعث فيّ زفرة رعبٍ خارجة من براثن قلبي, ونظرةً لم أستطع ترجمتها بعد!! حروف مبعثرة, لكني أعلم أنها ليست بالشئ الجيد..
تأتي أمي إليّ قبل أن تنام, تحدثني عن كل شئ, قلقها وخوفها, أحزانها الكبيرة ومشاغلها.. تعطيني تقريراً مفصلاً عن كل يوم, عن الجيد والسئ!! لكنها لم تحدثني عن شئٍ يحدث لها! هناك شئ ما لا أعرفه..
*أمل, لم لا تفيقين لـلحظات! تحدثي قليلاً عما يحصل.. ركزي فقط!*
كانت أمي تقول تلك الجملة دوماً,فـقررت جمع شتات أفكاري لبرهة, حاولت وتنازلت وحاولت وتنازلت وحاولت مجدداً وفعلت!
ربطت حزام أمانٍ ما! كي لا أغرق في بحري مجدداً..
أغمضت عينيّ بقوةٍ وخوف, وبدأت الإقلاع..
نحو العالم الغريب بدونك, نحو مكانٍ أُفيقُ فيه لأجل والدتي, نحو الذكرى..
أنا حقاً خائفة لأنك لست معي!!
*
بدأ كل هذا في يوم من أيار, اليوم الثلاثون.
كنت نائمة وقد آلمتني غصة قبل خلودي للفراش!
حاولت النوم, لكني كنت أتقلب طوال الليل عوضاً عن النوم.. نمت ساعتين على الأغلب.. أفقت عند الرابعة وخرجت من غرفتي بعد أن سمعت صوت أختي الكبرى تصرخ وتبكي, وصوت زعيق إطارات سيارة قاسم..
سارعت ووجدت أختي, لم تتحدث ولم أتحدث.. ركبت الدرج, أو بالأدق طرت إلى غرفة أبي وأمي..لم أجد أحداً في الغرفة!!.
طرت مجدداً نحو أختي وبصوتٍ مرتعب صرخت..
*ماذا يحصل؟ أين هم؟ ماذا أصابهم؟ هل هم بخير؟*
حضنتني ولا تزال تشهق: *تضرّعي لله أن يرجع إلينا سالماً*
لم أبادلها بأي كلمة! إكتفيت بإبعادها عني, وذهبت إلى غرفتي بخطىً ضعيفة.. جلست! تبادر إلى ذهني كمٌّ هائلٌ من الأفكار السوداء! وحاولت ألا أصدق أكثرها سواداً!!.
بقيتُ هكذا حتى جاءت الساعة السادسة.
سمعت صوت باب منزلنا, لست أعلم كيف وصلت حيث كانت أختي جالسة!! علّه كان سحراً!.
دخلت أمي وهي تبكي, بينما ذهب قاسم إلى مكان ما بسيارته..
حضنت أمي شقيقتي لـتُهدِّئ من روعها, بينما راحت الأخيرة تولول وتنتحب وتصرخ بصوت متقطع
*قال لي إهتمي بدراستك, قال لي أريد أن أراكِ تُنقذينَ أرواح الناس, حافظي على شرفك وعرضك يابنتي..*
صمتتْ لـبرهة بينما كنت جالسة لا أدري ماذا يحل بي!! كنت خارجة إلى حديقة منزلنا حيث مكانه المفضل, حينما قالت هذه الأخيرة:
* كان بخيرٍ يا أمي, كان بخير! لم رحل عنا؟ لم غادرنا ولم تركنا؟ هل فعلنا شيئا يغضبه؟؟*
* ويحك يا أريج, لا إعتراض في أمر الله!!!*
* أنا لا أعترض يا أمي لا أعترض مطلقاً.. أنا أسأل فقط! هل..*
إكتفيت بهذا القدر وخرجت متثاقلة, جلست حيث كنا جالسين قبل ساعات.. بدأت عيناي ترى ما حولها بصورةٍ متموجة رغم صفاء الجو ذاك الصباح, وبدأت ترى السماء تتغير إلى اللون الأسود بدل السماوي, صرت أحس بأن الجوّ خانقٌ بشدة, لم أقدر على التنفس وكأني نسيت كيف أفعل هذا!! بعدها لم أعلم بشئٍ حتى وجدت نفسي في غرفتي!!
إستنشقت هواءً, بصعوبة.. حاولت إخراج شئ ما عالقٍ في قلبي ولم أستطع.. كان هذا أسوأ ما حصل, لقد تحقق أكثر أفكاري سواداً!! تبقّت فرصة أخيرة, إما أن يكون هذا كابوساً أو كابوساً!! لم أقبل المساومة, لست في حالٍ جيدة لها, وما سأساوم عليه ليس رخيصاً!! لهذا قررت الخروج لرؤية الحقيقة والتأكد من أن هذا مجرد كابوسٍ وانتهى أمره!!
خرجت في تلك اللحظة التي كانت الوسيطة بين أيامٍ كانت ربيعية لأنك فيها, وبين أيامٍ بدأت في الزحف إليّ وصفتها بأيامٍ خريفية لأنها بدونك!!
وجدت بعض الناس تبكي بصوتٍ خافت وبعض الناس تتحدث ودموعها تنهمر بغزارة.. لم أتعرف على أحدٍ منهم! لم أرد أن أتعرّف عليهم!! كل ما وددته أن أعرف أين أنت!! أين أبي؟؟
دخلت كل غرف المنزل!! ودخلت غرفةً مليئةً بالغيوم.. تتناحب وتتساقط ناحية شئٍ بُنِّيٍ مُرعب.. وجدت أريج مغمىً عليها وقاسم في الخارج يبكي! وأمي تبكي وتنظر للشئ البني بحزنٍ عميق..
تقدمت وقد أفسحوا ليَ المجال.. وصلت ناحية أمي التي كانت بقرب رأسه.. جلست ونظرت نحوه, كان مغطىً بالبياض, ورائحةٌ عطرة تفوح منه.. لم أصدق أنه والدي!! فـهمست وأنا أبتسم:
* كفاك مزاحاً!! متى تنهض وتنهي لعبتك يا أبي؟! سِكة أحلامنا,أتوقفت؟؟ لا لا محال هذا! أنت تعرف أنني لن أقتنع! أخبرتني أنك ستبقى معي للأبد.. إلى أن يأتي ملاكيَ الحارس بدلاً منك!! لم يأتِ أحدٌ وذهبت أنت؟ تنقض العهد وأنت الذي تقدِّسُه بشكلٍ مخيف؟؟ أبي هذه مزحة سيئة, سيئة جداً!! أيقظني وقل لي أن هذا مجرد حلم سئ!! إفعل هذا من فضلك!! والدي! ماذا عن قضاياك التي سأساعدك في حلِّها؟ مكتبي القريب من مكتبك!! وظهورنا كأعداءٍ في المحكمة؟ حسناً, إِنسَ هذا, ماذا عن بقية طموحاتنا!! سكة أحلامنا, لم تتوقف وحسب.. تدمرت يا أبي!..
أبي, عد للحظات أرجوك, أريد أن أعتذر على سخافتي بالامس, أريدك أن تشرح لي كل التفاصيل المملة!
أعدك, أعدك أني لن أضحك.. أبي, تعرف أني لا أقدر على العيشِ بدونك صحيح؟ لم تتركني إذاً؟ أبي هيَّا, يكفي إلى الان.. افتح الباب فقط وقل إنك تمزح.. لن أبرح مكاني يا أبي.. أريدك, أريد سماع صوتك, أريد رؤيتك, أريد أن أجلس بجوارك, أريد أن أُحدثك عن آخر أفكاري, أريد وقتاً أطول لي معك.! لن تجعلني أمرُّ بالدرب وحدي.. تعلم أني أخاف بدونك, تعلم هذا جيداً.. أنت حصنيَ المنيع الوحيد في هذه الحياة..كيف أبقى بدونك! هل آتي معك؟؟ هيا هيا كفانا هراءً ولتأتي..
آسفة من كل قلبي.. لن أكررها, فقط عُد لابنتك.. عد لمن جعلتك قدوتها, عد لمن تتسبب في إلهامها, عد لمن لا يعرف أحد عنها شيئاً غيرك, عد لمن جعلتك سندها, عد لها يا أبي, عد لها, إنها تحتاجك! تحتاجك بـشدة!!*قلت كلماتي كلها وعيناي معلَّقتان بزاوية الباب حيث خرجت من منزلك آخر مرة.. همست *كفاك مزاحاً!* وأخذوك بعيداً.. تمتمتُ ببقية كلامي وعيناي على تلك الزاوية! لم تسمع إعتذاري؟! لم تسمع أني أريدك؟ لم تسمع شيئاً!. جلست في الغرفة ذاتها, وكل مرةٍ يحتضنني أحدهم ولم أكترث.. انتبهت لامراة تقول بصوتٍ باكٍ:
* لا, لم يكن مريضاً! انتقل إلى رحمة ربه بسلام, لم يتعذب في خروج روحه.. توفّاه الأجل ومات!*
أفقت لأن هذه المرأة هي والدتي..
*أنت مِتَّ بالفعل.. هذا ليس كابوساً!! *
لفظت تلك الكلمات بمرارة, بدأت البكاء ولم أعلم أنه أُغميَ عليّ!!
أنت تقرأ
خريف | Autumn
General Fictionخريف, قصةُ العزلة, الكآبة والعجز بعد الفقد.. واقعٌ بريشةٍ خيالية, ذاتُ رذاذٍ لامعٍ بالأمل, دافئٍ بالمحبة, وملئٌ بالإخلاص الوفيّ.. هي أمل التي غاب عنها الأمل, كم عانت وسقطت ووقفت لتسقط بقوةٍ أكبر من الأولى, لم تكن كأبطال الحكايات الذين يصبرون على الم...