"قد تجد شخصاً يدخل لقلبك, يجلس بجوار عقلك ويتحادث معه دون أن تدري, هو أنت أكثر منكَ حتى!!"
*
إستيقظت بنصف وعي.. كانت هذه أول دقيقة في حياتي أبقى فيها بدون تفكير, دقيقة واحدة طردت فيها كل فكرة من رأسي, أردت أن أرتاح ولو قليلاً, إستمتعت بـدقيقة من اللاتفكير ثم لم أستطع السيطرة على نفسي.. أصبحت الأفكار تتسلل بهدوء إلى عقلي.. بدأت الاسئلة بالعودة ببطئ, مرت عدة دقائق حتى جاء شخص مألوف لي, لم أستطع التركيز في تلك اللحظة, كان يهمهم بكلمات لم أنتبه لمعناها.. خرج, وبقيت وحدي مجدداً.
مرت ربع ساعةٍ تقريباً حتى دخلت أماني وياسر, كنت خلالها أحاول جمع شتات الافكار! ولم أجمع شيئاً, بائت محاولتي بالفشل, لقد كنت أضيع في الفراغ كل مرة..
عموماً لم يخبرني أحد بما حصل لي وما سيحصل!
كانت نظرة القلق على وجوههم, إحتجت بشدة لذلك الشبح الذي يتحدث إليّ ولا أفهمه, إنه يطمئن روحيَ المضطربة.
تذكرت أمر السير من جديد, أردت الحركة لكن أماني منعتني..
*كلا ليس بعد, علينا الانتظار لبعض الوقت يا حبيبتي.. إرتاحي الان*
جلسوا عدة دقائق وخرجوا متمتمين بألفاظ دعاء وشفاءٍ عاجل..
عدت للعزلة, ترى ماسبب تلك النظرة الغريبة؟ هل نجحت العملية؟
هل كان المال كافياً؟؟ من ذاك الذي دخل غرفتي؟؟ أمر محير!
ماذا لو لم تنجح العملية؟ ماذا لو تخلّوا عن إجراءها في آخر لحظة؟؟ ماذا لو بقيت حملاً عليهم؟؟ متى ينتهي هذا الألم؟ ألم إنتظار النتيجة!!
لست أدري لمَ أشعر بالنعاس مع أني كنت نائمةً لوقت طويل!! أستطيع أن أنام الان مجدداً لكني لا أريد أن أغفوا, يبدو أنني لا أزال أُعوِّض نومَ تلك الأيام العصيبة!!
سحقاً لم غرفتي ليست بقرب النافذة؟؟ مامن إجابات!!
وسط كومة الاسئلة تلك, أنقذتني يد أحدهم من الاختناق بهذه الاسئلة, لمستني بأن لفظ اسمي وانتبهت له!
كان عمر!! عمر؟ لحظة! ماذا يفعل هنا؟!!
*كيف حالك الان؟ بم تشعرين؟*
*الحمد لله* رددتُ باضطراب.
*جيد, لقد دخلت بعدما أفقتِ مباشرة, لا أعتقد أنك عرفتني!*
أومأت بالايجاب.. ضحك بلطف قائلًا:
*ذكّرني هذا بيوم قبل سنة وخمسة أشهر* صمتَ منتظراً ردة فعلي لكني كنت أصغي بانتباه..
*كنت تصرخين وتبكين في المشفى...*
إنتبهت له أكثر..
*كنت أجلس قربك وأُبعد كلَّ من يحاول إسكاتك..*
صُدمت فعلاً لهذا, لكنه استمر مُطأطأً رأسه وكأنما يتخيل ما يقوله!!
*كنت أُهدِّئك بين الفينة والاخرى, لكنك لا تلتفتين ولا تصغين.. لم أشأ أن أُعيقك, لذا أتركك حتى تهدأي إما برائحة زهور الاوركيد وإما برائحة الجوري والساكورا.*
إتسع بؤبؤ عينيّ من الصدمة فقال مطرقاً رأسه قليلاً:
*هل كنت أضايقك؟؟ أنا أعتذر!.. أنا حتى لا أعرف لم فعلت ذلك, ليس من واجبي, أعني أنه من واجبي, لكنني كنت أشعر أنني أحتاج أن أفعل.. يا للحيرة, أنا لا أعرف لماذا أخبرك حتى!! ظننتني سأبقي السر الذي يعلمه الجميع ماعداكِ سراً!*
نزل دمعي رغماً عني, كان هو, من يساعدني طول الوقت, هو من فهمني, هو من عرف كيف يساعدني بوجوده, كان هو الشبح المطمئن لقلبي.. كان عمر لا ياسر كما ظننت!
لكن مالذي يدفعه لذلك؟؟ لم أنا؟؟ أهي شفقة؟؟ مستحيل!
* أمل, مالذي يُبكيك؟ أتشعرين بألم ما؟؟ أَأُنادي الطبيب؟؟*
كنت أهزُّ رأسي نفياً, كنت مشتتة!!
*أتريدين شيئاً ما؟ أخبريني أمل!!*
*أنا مدينةٌ لك كثيراً!!!*
* مالذي تقولينه! ليس هذا بالشئ الكثير! *
لقد بكيت مجدداً, بحرقة.. لكن هذه المرة, لست أدري لم أبكي!
هل هذا هو الأمل أم الفرح أم ماذا!! هل نسيت كل هذه المشاعر البشرية!؟
* يكفي يا أمل, أملك لكِ خبراً ساراً*
تأمّلته!! سيُخبرني عن سرّ تلك النظرة التي على أعيُن الجميع..
*ستستطيعين المشي, لكن بعد عملية أخرى لا مفر منها *
* ألم تنجح.. هذه ال!؟؟*
*يوجد أمر ضروري يجب أن تعلميه, بل أمران.. لكن يجب إجراء العملية الثانية مجدداً *
*والمال؟*
*إنه يكفي.*
نظرت بعدم تصديق! أنا أعلم النقود التي معنا وليست كثيرة إلى الحد الذي تغطي به تكاليف عمليّتين!
*أعلم سؤالك! لكن هذا ما ستعلمينه بعد إجراء العملية, إذاً سأسأل عن موعدها.. سأعود فيما بعد..*
*لا أُريد!!* أمسكت يده بعد أن كان على وشك النهوض, كان يريد الهرب مني حتى لا يسمع رفضي, لكني لم أسمح له..
* سنتناقش لاحقاً, ما رأيك؟؟*
أفلتُّ يده ونظرت له ثاني مرة, وجهاً لـوجه, كنت دوماً أتجنَّبُ النظر مباشرة له.. لا أدري لمَ! لكني نظرت له هذه المرة, تأملت عينيهِ الداكنتي السواد بعمقٍ شديد, لذا لم يلبث كثيراً حتى جلس وهو يتنهد
*لا أستطيع الفوز عليك دوماً, حتى حينما أفعل ما في مصلحتك, تقومين بالمستحيل وترفضين.. لا أريد المجازفة فعلاً يا أمل! أنا لا أريد إخبارك عن الأمر أكثر, لننهِ الموضوع ولتجرِ العملية*
*كلا, لا أريد.. أشكرك على وقوفك ب.. جانبي*
*لن أقبل شكرك هذا إن لم تجر العملية!*
*حسناً, شكرتك وموضوع قبول الشكر أو رفضه يعود إليك.. أين أماني؟*
مرر يده القطنية بين خصلات شعره السوداء كسواد الليل بإضطراب, وعيناه تُشعَّان حيرةً, لا أعلم لم يهتم بالأمر إلى هذا الحد؟ إنه ليس بتلك الصعوبة في النهاية..
*أمل, زوّديني بالأمل أرجوك, أبدي موافقتك من فضلك*
إستلقيت على السرير ولم أُبالي! ولم يتكلم أيضاً..
كنت أخوض مفاوضات صامتة معه, لكن الغريب أن هذه أطول مفاوضات صامتة أقضيها في حياتي!! سابقاً, فترة مفاوضة بيني وبين أي شخص لا تتجاوز الدقيقتين, والان الوقت تجاوز الربع ساعة.. لا يهم! لا بد أنه من سيدفع عوضاً عني!
*سأدفع أنا تكاليف العملية ما رأيك؟* قالها ولم يجعلني أُحاول الرد..
* أنا خائفٌ من أن تُصبح الأمور سيئةً بيننا, كانت نسبة نجاحي ضئيلة منذ البداية, ألم يكن من الأفضل لو لم أُخبرك؟!! لم أستطع الانتصار عليك أبداً.. لكن, أنا لا أفعل هذا لاجل دينٍ قديم أو شفقة, أنا أفعل هذا لان هناك دافعاً ولأني أريد.. عليك أن توافقي, أرجوك أمل, ألا تعتقدين أن كل جهودي ستضيع هباءً إذا لم تجريها؟؟ أمضيت سنة كاملة أجمع هذا المبلغ لأنفقه على شئ يستحق,وهذه مكافئتي؟ هيا أمل أنا أعدك أن أختفي بعد أن تجريها, لن أطلب منك شيئاً, لن تري وجهي بعدها*
*لتفعل بها أمراً ذا فائدة, تزوج به مثلاً!*
ظهرت لمعة غضبٍ في عينيه فأغمضهما, وكنت أنا على درجة من التوتر الذي أخفيته تحت جليد ردودي!
قال بنبرةٍ أتعبها التفكير: *لكن لم تصعبين الامر هكذا؟؟ ليتني لم أسمح لنفسي أن أسمع رفضك وهربت, كنتِ سريعة جداً, لو أنني وقّعت الاجراءات! لا يهمني ماذا يحصل بعد أن تجري هذه العملية.. أتعرفين؟ الكل مضطرب وخائف من رفضك.. لست أدري لم أجازف هكذا معك! أنت لا تهتمين! والمشكلة أني لا أستطيع التوقف عن التفكير في أمرك.. *
*المعذرة, لكني لا أرى أن الموضوع يستحق كل هذا العناء.. قدمت لك ردي مسبقاً عن إجراء هذه العملية يا عمر*
قلت كلامي دفعة واحدة, لم أتلعثم حتى!!
*ماذا قلتِ للتو؟؟*
*سمعتني وليس هناك داعٍ لأكرر*
*كلا, نطقت باسمي!!!*
كدت أن أفسد جوَّ الموقف وأضحك لكنني أمسكت القهقهة تحت ضلوعي.. قلت وأنا متماسكة:
*وهل تظنني لا أعرف النطق بأسمائكم أم ماذا؟!*
كان كالمعتوه في تلك اللحظة, لكنه تماسك وقال:
*لا بأس أمل, إسمعي هذه الكلمات لآخر مرة, ولن أقبل الرفض مطلقاً *
*أرفض من الان*
*إستمعي أولاً* وكان صوته فعلاً قد تغير لشئ مرعب..
*لا أريد* قلتها وأصبح غضبه يبدو واضحاً.
قفز قلبي من مكانه حينما قال اسمي بصوت لم أعرفه! تغيرت نظرته وملامحه وصوته, إحمرّت وجنتاه من الغضب, كان جاداً في الموضوع, كانت الجديّة تتخلل الموضوع من الاصل, لكن هذه الملامح جديدة!! قال وأنا مصدومة من كل ما أراه..
*أمل, العملية ستُجرى.. لا نقاش*
لم أتكلم, فتنهد وقال بصوته المعهود مصحوباً بالخجل:
* آسف, آسف عما رأيتِ, فقدت السيطرة على نفسي*
لم أجبه, سحبت الغطاء على وجهي فخرج هو..
أبعدت الغطاء بعدما سمعته يغلق الباب, لكنه دخل مجدداً, فسحبت الغطاء تفادياً لنظراته.. قال وهو يضحك مستغرباً تصرفي..
*صحيح, سينقلون سريرك حيث النافذة.. أعلم أن وجودك دون نافذة يوترك* قال هذا وخرج..
*
أنا في حيرة أكثر من أي وقت مضى, لم كل هذا الاهتمام؟ لم هذا العناد والجدال لأجلي؟ مالذي يدفعه ليفعل كل هذا؟؟ ثم بصفته من ينظر إليّ تلك النظرة؟؟ و الامر المريع, لقد وافقت!! يا الهي! وافقت حقاً.. لا أصدق ما حصل!!
لكن الأمر الأكثر صدمة لي هو أن عمر كان منقذي لا ياسر, ياسر لم يكن سوى أداة لـقلبه الذي يدفعه لردّ الدَّيْن كما تخيلت! ساعدته والدتي سابقاً عندما حصل جدال بينه وبين عائلته, سافرت عائلته ومرض هو مرضاً قاسياً لا زالت آثاره عليه حتى الان, حصل شئ لا أذكره لـرئتيه, إهتمت به أمي وأنقذته من موتٍ مُحقق!!
ربما هذا هو السبب, وقد يكون خلافه مع عمر سبباً آخر..
أذكر أنه في ذلك اليوم كنت أجلس أنا وأماني وإسراء في صالة منزلهم, وكان عمي وياسر في غرفة قريبة, يتحدثون عن أمرٍ ما, دخل عمر, سلّم علينا وانضمَّ إليهم هناك..
كان جلوسي مصادفة بقرب تلك الغرفة, لم أسمع شيئاً من حديثهم إلا بعد عشر دقائق, صرت أسمع صوت ياسر يعلو وعمي يسكته.. لم تمضِ دقيقة حتى خرج عمر مسرعاً ولم يعد.. لم أره مذ ذاك اليوم حتى اللحظة!!
لهذا أظن أن لتلك الجلسة صلةً بما يفعله ياسر..
لكن عمر!! لم يفعل كل هذا؟ هل يعقل أن...!!
كلا, هذا مستحيلٌ جداً, أنا مُقعدة ولن أكون بالفتاة المناسبة, بل هو لن يجرأ على التفكير بي!! وليس له دين يرده لنا ولا غيره!! إذاً لماذا يا عمر!؟.لقد أدركت الان أن عمر هو الوحيد الذي تفهَّمني, علم ما أريده, يتركني لوحدي وهو يراقبني بـقلبه..أعلم أنه في مكانٍ ما! هنا في مكانٍ قريب مني!
أنت تقرأ
خريف | Autumn
General Fictionخريف, قصةُ العزلة, الكآبة والعجز بعد الفقد.. واقعٌ بريشةٍ خيالية, ذاتُ رذاذٍ لامعٍ بالأمل, دافئٍ بالمحبة, وملئٌ بالإخلاص الوفيّ.. هي أمل التي غاب عنها الأمل, كم عانت وسقطت ووقفت لتسقط بقوةٍ أكبر من الأولى, لم تكن كأبطال الحكايات الذين يصبرون على الم...