Chapter 4

94 11 5
                                    

"حياة الفراشة قصيرة جداً, مع أن إجتهادها عندما كانت يرقة, يستحق أن يكافئ بشئ كبير, كأن تعيش أطول مثلاً! لكن هذه دورة حياتها, وهذه دورة حياتنا! نولد ضعافاً لا نقدر على شئ بدون والدينا, الإهتمام والأمان, الحب والرعاية.. هذا مانحتاجه, ثم عندما نكبر نستقر ونتوازن بأنفسنا, نحقق طموحاتنا أو نتغلب على مصاعبنا, قد ننجح وقد نفشل, وقد نتدمر أثناء النجاح, أو قد نموت قبل أن نحقق ما نريد! لكن ما يبعث في قلبك الطمأنينة, أن أقدارنا, أنا وأنت كُتبت قبل أن نأتي على وجه هذه الدنيا!"
*
استمرَّت بقية الأيام بروتين موحش! لا أعرف الوقت ولا اليوم, غرفتي مظلمة دوماً, وتفوح منها رائحة الكآبة!!
أنام لأصحوا فأبكي ولأنام مجدداً.. لا أتناول شيئاً من الطعام.. أفقد الوعيَ كثيراً وأدخل المشفى أكثر!! صرت أتغذّى على أقراص دواء وماءٍ فحسب.. حاولت أمي مراراً وتكراراً إقناعي بالتغيير وأن هذه العُزلة لا تفيد, حاولت إقناعي بالخضوع لـطبيبٍ نفسيّ, لكني كنت أكتفي بالنظر إليها نظرة خالية من التعبير كما هو حال وجهي!!
فتعذل عن الفكرة, استطاعت أريج التغلب على حالتها النفسية والمقاومة, كانت تدرس الطب لذلك انشغلت عنا كثيراً وبات حلمها أن تكون أشهر دكتورة طبٍ بشري! كانت عندما غادرنا أبي في منتصف سنتها الثانية والان تكدح بجهدٍ لتنتهي منها.. ولا يبخل أحد من عائلتنا بمساعدتها.. وعلى هذه الحال بقيت أنا وانتصرت هي!!

لقد قالت والدتي أن خالتي أسماء أنجبت توأماً لطيفاً اليوم, يوم ميلاد الصغيرين كيوم ميلاد خالتي, الثالث من تشرين الأول..
لذا قررت في هذا اليوم البدأ في تحليل نفسي ومرضي ومعضلتي, وأردت أن أجعل قدوم أطفال خالتي بشيراً جيداً وفأل خير!
جلست وتنهدت بعمق, رحت أفكر في ما آلت إليه حالتي, إلى مشاكلي الضخمة..
قررت تصغير الأمر مجدداً, فبدأت. لعلّ مشكلتي الاولى هي المدة! كنت أتجنب سماعها ومعرفتها, لكن لم؟
مهلاً مهلاً, دعيني أسأل بطريقة اخرى.. كم هي المدة التي استمريت بها وأنت يا أنا على هذه الحال؟؟
- لا أعرف.. حسناً أنا أعرف أني أعرف لكني أتجنب الإجابة!
يبدو أن الفكرة فاشلة, سأحاول التفكير في الذي يجعلني لا أريد تذكر المدة!!.
ربما لأنها تقترن بمعرفة مدة غياب أبي عنا.. أو لأني أُضطر لتذكر تاريخ غيابه الأبديّ مع أني أتذكره.. السبب غير واضح بعد.
سأتذكرها وإن لم أُرد تذكرها.. خيّم الصمت أرجاء عقلي وكأني أتذكر, بدت على ملامحي الرغبة في سماع المدة لا التفكير بها, حاولت النطق لكن لساني أصبح كـكتلة من الحجر, لم أفهم مالسبب!!
حاولت أن أجد أنفاسي الضائعة، فقلت بضعف، *توفي والدي في ال.. ذاك التاريخ!*
أغمضت عيني وتنهدت بقوة * توفي يوم الاربعاء* مسحت وجهي علامة رضىً.. *توفي يوم الاربعاء* * الاربعاء* *اجل, الاربعاء, في آيار, الثلاثون منه* إرتسمت بسمة صغيرة على وجهي, كنت أتنفس بصعوبة وكأني أغرق, أحاول شفط الهواء, وكأنما ذُبحت لتوّي وقُصَّت حنجرتي!
*المدة تماماً, ااااه* كنت سأبكي لو أنني لم أقف مسرعة.. بدأت أمشي جيئةً وذهاباً, أمشي ببطءٍ بسبب خمول عضلات قدميّ..
*خمسة أشهر على أكثر تقدير* نطقتها بصعوبة وتنهدت، إبتسمت إبتسامة نصر..
لم أتذكر شيئاً سوى أنني إرتميت على سريري!
*
استيقظت مرتعبة على صوت أمي, في الرابع من تشرين الأول..
لقد نمت ليلة البارحة وأنا مبتسمة! كانت تلوح نظرة فرحٍ عارمٍ على وجه أمي تتخللها مسحة عجيبة من الحزن.. قدمت لي الأقراص والمياه.. وهي تقول:
* حبيبتي, أريدك أن تشفي, ساعدي نفسك وبهدوء.. لا تخافي, أنت امرأة قوية *
تأملت سعادتها العارمة بفرح شفاف.. قالت لي إن هذه أول مرةٍ أنام فيها لأكثر من ثلات ساعات..
خرجت أمي وعدت من جديد..
*أين توقفنا يا أنا؟؟ صحيح المدة.. أعتقد أنني حللت مشكلتها نوعاً ما, لم يعد يقلقني أمرها..*
الأمر المريب هو نظرة أمي.. أفهم أمي أحياناً أكثر حتى من أبي فقط بالنظر لـعينيها, ثم يتأكد حدسي دوماً بأن تعود وتخبرني بما حصل.. تستغرب أنني عرفت! لم تعلم أن عيونها تحادثني, لكن هذا الامر غريب, حروف مبعثرة لا أستطيع جمع شتاتها..
* الأمر صعب, لنذهب للاسهل.. لم لا أتحدث مع عائلتي؟ ماهي المشكلة بالضبط؟*
المشكلة كبيرة, لا أقوى على رؤيتنا بدون أبي! تفرقنا بالفعل, أمي تكاد تتمزق بيني وبين أريج وقاسم.. فـقاسم يعمل جاهداً ليل نهارٍ لـيُكمل منزله القابع فوق منزلنا ويتزوج, تحصّل على بعثة دراسة من كلية الطيران, يسافر بعد عدة أشهر..
أما أريج, ستكمل دراستها خارجاً, هي وخطيبها بعد عدة أشهر كذلك.. تحصّلت عليها بسبب تفوقها في الدراسة.. لذلك, سيكون زفافهما واحداً, وفي النهاية سنبقى أنا ووالدتي وحدنا.. وأريد الخروج من حالتي هذه لعلّي أُخفِّف عنها..
بأي حالٍ من الأحوال, سـأعتاد, لقد رحل أبي منذ مدة, وانقطعت عن دراستي الجامعية التي لم أبدأها بعد!!
يجب أن أعتاد الوضع لأنني أظن أن المسألة أخذت مايكفي من الوقت!!
تنهدت بعمقٍ, وسرحت, خطر ببالي أنني حللت مشكلة خروجي من غرفتي, أستطيع فقط أن أخرج وأطلب من أمي التحدث مع قاسم ليعمل على إجرآءات دراستي..
*سهل, سهل جداً *
قلتها ولم أشعر سوى بدموع حارقة تنهمر على وجهي البارد, ألقيت بظهري على السرير بعد أن كنت جالسة.. أردت الغرق في ذاك البحر من جديد..لا أريد لحياتي أن تبدأ من بعدك..
انتهت حياتي بالفعل, أنا ميتة الان, كل ما أفكر فيه هو حياة جديدة لشبحي, روحي معلقة معك.. معك أنت لا أحد غيرك..
كنت خائفة, جداً خائفة من كل شئ..
أخاف أن أخرج وأعتاد عليهم فيرحلون مجدداً..
أخاف لهجرتي أن تنتهي مدة إقامتي فيها!!
أخاف أن أبقى وحدي خارجاً..
أخاف أن أعود لحالتي هذه بعد أن أخرج منها, أريد أن أبقى هكذا!! فإما أن أنجح وأتخطاها أو أبقى كما أنا الان..
أخاف من الخوف نفسه!!
أخاف كثيراً بدونك, لا أمان لي بدونك, لا أحاسيس لي بدونك, لا أمل فيّ بدونك, لا مشاعر نابضة بدونك.. *أخاف* قلتها وقد خنقتني العبرات.. *أخاف من كوابيسي أن تعود!* تعالت شهقاتي..
*أخاف من العجوز, وأخاف من الغيوم البارقة الراعدة, أخاف من كلامهم الساحق, وأخاف من الشاحنات الكبيرة.. أخاف جداً, ليتني ألحقك لأريحك من أنين بكائي*
*أواه يا أبي, لم لم أتغير! لم لم تساعدني؟ أهجرت دورك كـأبٍ منذ زمن بعيد؟ .. هل أعذبك الان ببكائي؟؟ أعتذر, لا أستطيع التوقف..*
صرت أجهش بالبكاء, جاءت أمي مسرعة.. لم أفتح عيني مطلقاً, جلستْ بقربي واكتفيت بالارتماء في حضنها.. بكيت بمرارة..
كانت تقول كلاماً لم أُرد سماعه.. لكني سمعت بشكل لا إراديًّ صوتها تتلوا القرآن, إرتحت كثيراً..
غفوت, وعندما أفقت وجدت كوب ماء شربته وجلست..
لم أعرف مالساعة ولا اليوم, كم المدة التي نمتها؟ لا أعرف!!
*
سئمت مني, لا أريد الخروج من حالتي هذه ولا أريد البقاء فيها..
لا أريد شيئا!! فقط نومٌ أبديّ, تعبت الفشل رغم أن الوقت مبكر على الاستسلام! إلا أنه كان هناك شئ ما يمنعني ويجهدني ويضربني..
بعد التفكير الطويل, أحس وكأن جسمي دهسته شاحنة!!
أتعرف يا أبي ما أريد؟؟ أريد أن أفقد ذاكرتي.. أجل هو أفضل حلّ!
فقدان ذاكرة ثم لا شئ يحصل! حياة عادية وينتهي الموضوع!
ولم لا أنتحر! يكون الامر أسهل هكذا.. فشلت محاولاتي السابقة، تناول جرعات زائدة من الحبوب لم تجدي ولا قتلي باستخدام مكيف الهواء وتجميد الغرفة! لم ينجح أي منها.. ففي كل مرة تتدخل أمي! وأنا لا أستطيع أن أفكر بطرق أكثر من هذه لا تستطيع أمي أن تمنعني من تنفيدها!
أمي, إنسانة عظيمة! عظيمة بمعنى الحرف والكلمة.. امرأة قوية صبورة! تمنيت لو أكون مثلها لكن هذا صعب!
حاولت أن أقلدها ولم أنجح! مالسر الغريب الذي تخفيه ومالذي يجعلها بتلك القوة!
في الماضي أذكر أنني لم أملك شيئاً مخيفاً مميزاً سوى عينيّ..
كنت أنظر بهما نظرة غريبة, وكأنني أُنوّم الشخص مغناطيسيّاً, فينتهي الموضوع كما أريد!
أمي لا عينان كعينيّ ولا مبسم كـمبسم أبي ولا صوت كـصوت أريج, ولا صلابة كـصلابة قاسم! مالمختلف!!
ألم تفقد الامل في نهوضي؟ خمسة أشهر وأنا هكذا!!
مذهلة يا أمي, انقطعت كل الحبال التي تربطني بالعالم, حتى صلاتي لم أحافظ عليها, لا شئ ولا أحد سواها..
الوحيدة التي لم تيأس!! أهذا هو المرعب في أمي! ثقتها؟؟ إحتمالها؟؟ عدم يأسها؟؟ إنها تبذل المستحيل في سبيل عودتي.. إنها متعبة من كدمات الحياة المتتالية, وأنا الان أُضاعف من تعبها! أمي فقط لأجلك سأعود..
تنهدت بقوة جعلتني أشعر بقليل من الراحة, تلك الصخرة العالقة في صدري إنزاح منها شئ ما.. أصبحت أخفّ من السابق..
فكرت قليلاً في الذي يجعلني محبوسة هنا, والذي يمنعني من النزول للمخاوف والمحاولة!!
أنا, أمنع نفسي وبدون سبب, صرت أؤمن بالمقولة:
*لا أحد يقسوا عليك مثل نفسك! عندما تتشبّث بأشياء تسبب لك الكثير من الوجع والألم, وعندما تتذكر كل أسباب الحزن, وثم تتجاهل ألف شئٍ قد يسعدك!*
*
كانت حياتنا في السابق مجرد روتين, كنت تكسره دوماً بشئ ما.. وفي أحد الأيام, كسرته ياأبي بشئ غريب..
طلبتنا أن نغنّي! ضحكنا واستغربنا كالعادة! عذل قاسم عن الفكرة بفتور, لكنك ابتسمت في وجهه! ابتسامة فحسب!! فكان هو أول من سمعنا صوته.. ومالبثنا كثيراً إلا وقد نهرته بسبب سوء صوته..
غنينا, وكانت بسماتنا تلوح في الافق.. لم تغادرنا يوماً تلك البسمة.. راحت الان بدونك, خطفتها منا.. يالك من مجرمٍ قاسٍ!! كـمحامٍ أخذت حقوقك منا, أو بالأحرى مني أنا!! أخذت البسمة التي كنت أنت سببها, أخذت الامل الذي كنت أنت تبعثه, وأخذت روحي بجوارك.. أليس لدى المحامين شفقة؟
ألم تشفق عليّ.. أعلم جيداً أنك تعلم أنني أعلم أني أبحث عن أسباب واهية, لا أساس لها من الصحة!
أنت مذهل, تأتي في موقف المجرم والمحامي وأيضاً في الدفاع والادانة.. قد ترأف بي يوماً و... أو أصبح مثلك يوماً آخر..

خريف | Autumnحيث تعيش القصص. اكتشف الآن