أصعب شيء ممكن ان تخبرك به الحياة هو ان وقتك شارف على الانتهاء على قيدها ، وكأنها تحطم كل احلامك بكبسة زر ...
كان يجلس أمام ذلك الرجل بالمعطف الأبيض يظن انه يستمع اليه بشروده ذاك ، يسمع صوت والدته بدل صوت الطبيب يتذكر صفعتها الخائفة عندما كان في الثانوية
" لا تتفوه بتلك الكلمات مرة أخرى "
يبدو ان الصدمة التي تلقتها بموت جدته بمرض السرطان لم تتخطاها بعد ، صفعته بقوة لانه كان يرد على كلامها عندما أخبرته بأنها تعبت منه لأنه مشاغب جداً ،
" لا تقلقي سأصاب بالسرطان وأموت لترتاحي مني "
التلفظ بتلك الكلمات بعصبية لم يصدق أنها من الممكن ان تنقلب الى حقيقة خلال سنوات قليلة فقط ، للحظة تمنى لو ان الطبيب لم يخبره بذلك ، هاهو يقطع شروده واستحضاره لتلك الذاكرة اللعينه ليخبره
" سيد آسر .. يجب ان نبدأ بجلسات العلاج الكيمياوي عاجلاً "
ليس هذا ماأراد سماعه لن يتقبل فكرة أنه سيصارع المرض حتى الموت ، وكأن كلام البروفيسور مجرد رذاذ يتطاير بالهواء ما أن يخرج من فمه لا يستطيع الاستماع للمزيد ، يرفع جسده من على الكرسي بصعوبة تخونه ساقيه لن يتحمل ألم قلبه الذي يتضارب مع الم رأسه ، وقف أمامه بتلك الرعشه في جسده العيون العسلية التي غرقت في محيط عينيه الاحمر تحرقها تلك التي لن يتنازل بتحريرها من عينيه لن يضعف ابداً
" لا تخبر أحداً بالأمر وخصوصاً ريان"
يهم بالمغادرة على أمل ان يبقى ذلك السر بينه وبين البروفيسور ، لن يضغط عليه فهو يعلم مدى صعوبة تقبل الأمر كل مايستطيع فعله هو كلمة اخيرة لمواساته لعله يبعث الأمل داخله من جديد
" اعتني بنفسك" ..
خرج من تلك الغرفة بتثاقل يسحب جسده المرتعش وجفونه الخاوية تتطاير الأحلام من أمام عينيه ليعود الى الواقع ما إن رن هاتفه بإسم ريان يقطع لحظة مواساته لقلبه
" ماذا هناك؟ "
رد ببرود يثير الشك في قلب زوج أخته ذلك الصديق الذي هو بحاجة له الآن لكنه لن يستطيع اخباره ،
" جدي يريدنا جميعنا على مائدة العشاء الليلة"
ساد الصمت للحظات تخونه تلك الغصة في حنجرته تمنعه من اخراج الكلمات ليثير تساؤله عن حاله
" آسر ؟ هل هناك خطب ما؟"
وكأنه يشعر به عبر ذبذبات الهاتف
" حسناً"
بجواب مختصر ينهي الإتصال ، تفصل بينه وبين عودته ساعات لعله يستطيع ان يمحي لوحة الحزن التي رُسمت على ملامحه ، يُعبأ ألمه بتلك السيارة ، يستقلها ليعود الى عمله ، الى حياته الطبيعية كمهندس في اكبر شركات الأعمار ، مرت دقائق وهو يجلس خلف المقود دون ان يشعر ، رفع رأسه في المرآة الأمامية لكي يتأكد من انه محى ذلك الضعف الذي اجتاح عينيه منذ قليل لتلمح عيناه سهم آخر يخترق قلبه ليُمزقه ،
" مازالت تقابلها ؟"
تحتضن توأمه دون ان تعلم بأنه خلفها ، هو الآخر لا يستطيع سماع شيء انها فقط صورة تتحرك أمامه في المرآة الصغيرة وكأنها فيلم صامت ،
" ميرا لقد اشتقت اليكِ "
" احضنيني يافتاة المطارات "
بعد سفر دام لسنوات هاهي تعود مرة اخرى لتقابل أعز صديقاتها من ايام الثانوية وكأنهما ارتادا نفس كلية الطب فقط لتحطم قلب آسر وترحل ، ليرحل هو الآخر هارباً وكأنه مجرم مطلوب للعدالة قبل ان تلمحه عينيها ، فيقطع اشتياقهما صوت رجولي بدا مألوف على مسامع هيلين ،
" مرحباً هل الجميلتان تحتاجان لتوصيلة؟"
يقف بطوله الفارع ، جماله الشرقي يزينه سمار تلك البشرة ، ببدلته الرسمية التي ملئتها رائحة الأدوية ،سمعته كمدير مشفى يزيد صورته هيبة ، يدَّعي البراءة امام صديقة زوجته وكأنهما مازالا اولئك العاشقين الصغار
" كيف حالك ريان ؟ اشتقت اليك كثيراً ولكن لا أستطيع الذهاب معكم لدي مقابلة في المشفى بعد قليل ، شكراً لعرضك "
انها تهرب من صديقه قبل ان يخونها ذلك اللسان وتسأل عن حاله ، فقد كانت تحضر الكثير من الجمل عندما ترى ريان لكنها تراجعت في اللحظة الاخيرة ،
"حسناً كما تشائين "
هو الآخر لن يتحمل الابتسام اكثر من ذلك بوجودها ها هي زوجته تتجاهله دون سلام وتركب في الكرسي الأمامي تلوح لصديقتها تودعها ، مازال نظرها يخترق زجاج النافذه تنظر الى ملامح الشارع التي بدأ الظلام يكسوها كما كسا قلبها ناحيته !
" لقد مرت خمس سنوات ألن نفكر بإنجاب طفل؟"
يحاول خلق حوار حتى وان كان هذا الموضوع يغضبها لعلها تجيبه مرة واحدة وهما لوحدهما بدل الشخصية الودودة التي تتقمصها أمام العائلة ،
" الوقت غير مناسب علاقتنا ليست جيدة "
حتى لو كان رفضاً منها المهم هو انها ردت على كلامه ، كذاك الهارب تماماً هي الآن تتدرب على الابتسامة المزيفة قبل ان تنزل من السيارة وتواجه العائلة ، الرابطة المقدسة كما يسميها الجد !!
أنت تقرأ
أزهار الياسمين
Romanceليس المرض هو ماكان يجعل من حياته صعبة ، لكنه ذلك العجوز اللعين ! يحملون دمائي يجب أن يطيعوني! بين الماضي والحاضر هناك فجوات مظلمة ليس من السهل الخوض في الحياة دون الوقوع فيها،التمرد والغطرسة، حب الذات والرغبة في الحرية ، الخوف من المجهول ،إنعدام ال...