الفصل الحادى والعشرون .... ومضات من الماضي

8.9K 228 2
                                    

كانت سالي تجلس تحت تلك الشجرة الضخمة عندما سمعت صوت خطوات خلفها قفزت و كانت على وشك الصراخ عندما كمم مارك فمها: - سوف توقظين الجميع.
أنزل يده ببطء من على فمها و ابعد شعرها الذي غطى نصف وجهها، أخذ يتأمل عينيها التي غشيهما ظهر الذعر، ثم ابتسم: - و كأننا نعيد نفس المشهد.
تنهدت: - عن أي مشهد تتحدث؟ لقد كدت أهدم البيت صراخاً... ظننتك لصاً.
اتسعت ابتسامته: - مشهد تعارفنا، أول مرة التقينا فيها كانت كما حدث منذ قليل، لقد ظننتِ أنني لص، اضطررت إلى تكميم فمك لأمنعك من الصراخ و يومها نلت العديد من اللكمات و الركلات.
ابتسمت بخجل و أطرقت برأسها فشعر مارك بشئ يتهاوى بداخله، سألته و هي تعيد شعرها خلف أذنيها في حركة جعلته يتمنى أن يضمها إليه: - أتمنى ألاّ أكون سببت لك الأذى.
كان على وشك الرد بنعم... لقد قمتي بإيذاء قلبي كثيراً بتلك العينين لكنه هز رأسه: - لا ... لقد مر الأمر بسلام لكن عندما عرفت والدتي بأنك ظننتني لص لم يعجبها الأمر.
- بإمكاني تخيل ذلك... صمتت قليلاً ثم نظرت له بحيرة: - لماذا لا تحبني والدتك؟ لقد أخبرتني من قبل أن هناك عدم تفاهم بيننا، لكن يبدو أن الأمر اكبر من ذلك بكثير.
- ما الذي أوحى لكي بذلك؟ أنتما بالكاد تتحدثان معا ً.
- لا أعرف... إنها نظراتها لي.
- سوف أخبرك...قاطعته: - هل سبق و قلت لي؟
ابتسم : - لا فأنتِ لم تسألي قط ، كنت تتعاملين معها بمهارة سوف تستعيدينها بسرعة.
همهمت بإحباط: - أتمنى ذلك.
- منذ زمن و أمي تغار من عمتي سيلينا... كانت ترى نفسنا تحل في المرتبة الثانية أمامها لذلك عندما هربت والدتك و تركت القصر لاحظ الجميع الارتياح الذي طرأ على أمي... لقد أخبرتني كوليت كيف أصبحت باسمة الأسارير و قد تخلت عن عبوسها الشهير، لكن ذلك لم يستمر طويلاً لأنها بعيداً عن أمر والدتك أمي ليست بالشخصية الاجتماعية السهلة المعشر لذلك لا تندمج إلا مع أشخاص معينين... متذمرين مثلها من كل شئ في الحياة.
رأى الصدمة في عينيها، لوحت بيديها: - إنها والدتك كيف تتحدث عنها بهذه الطريقة!!!
امسك بيدها و أخذ يحدق بكفها الصغير الغارق بين يديه الضخمتين: - لقد تعلمت منذ صغري أن أرى عيوبها لكي لا تؤلمني تصرفاتها... بهذه الطريقة يمكنني تفادي أذاها أو في أسوأ الظروف يمكنني أن أبرر ذلك الأذى عندما يصيبني فأستطيع مسامحتها.
رفع عينيه لتصطدم بنظراتها الحانية، حبس شهقة كادت تفلت منه عندما اندفعت لتحتضنه، قالت بطريقة بدت له طفولية بشكل يؤلم القلب و يبعث على البهجة في نفس الوقت: - لن يؤذيك أحد و أنا هنا، أظن أن مهمتي أن أحميك أيها الفتي الكبير.
***
كان مارك يخبر سالي بأشياء لم يسبق أن أطلعها عليها، كان يريد أن يبني حياته معها من جديد، حياة تدوم حتى نهاية عمره، لكنه كان يفعل ذلك و هو يخشى اللحظة التي تتذكر فيها كل شئ ، تُرى هل سترحل مرة أخرى؟
كانت تبدو له نهمة لكل كلمة يقولها... تنظر له و هو يتحدث كأنها تحفظ كل كلمة يقولها.
مع مرور الأيام كانت سالي تشعر أنها تحب مارك أكثر، و تتساءل كيف بإمكانها أن تنسى كونها زوجة رجل كمارك، حنون و يبدو أنه يعشقها، قوي في كل شئ فيما عدا موضوع والدته التي زرعت بداخله نوع من عدم الأمان و الشعور بأنه كَمْ مُهمل جعله يتمرد على كل شئ تطلبه منه هي و جدّه، قال لها ذات مرة:
- لقد جئت لهذه الحياة كجزء مكمّل لصورة أرادتها والدتي لحياتها... زوج و ابن يرث أموال العائلة، لم أكن نتيجة رغبة حقيقة في طفل تشعر والدته أنه جزء منها و من زوجها ترعاه بكل ما تملك من حب.
كانت كلماته تقطر مرارة شعرت بها تمسك بخناقها و تؤلمها، أمسكت برأسه و وضعت جبينها على جبينه كما يفعل معها: - لا يمكن أن تكون بأي حال من الأحوال كم مُهمل على الأقل بالنسبة لي، لا تتحدث بهذه المرارة مرة أخرى و إلا سوف أقوم بخنق أوليفيا... هل تفهم؟
ضحك و أخذ وجهها بين يديه و قبل جفونها: - أحبك أيتها الساحرة الصغيرة.
***
جلست مارك يفكر بقلق في حديث والده الذي أخبره أن تصرفات سالي بدأت تتخذ شكلها المعتاد قبل أن تفقد ذاكرتها "يبدو أن ذاكرتها سوف تعود في أي وقت... يجب أن تخبرها أنت و جدك بكل شئ إذا لم تريدا أن نخسرها مرة أخرى".
نظرت سالي إلى مارك و هو يجلس على السرير يخلع حذاؤه و قد بدا مستنفذاً، سألته: - هل كان يوم مرهق في العمل؟
- يمكنك قول هذا... هناك الكثير من الشباب الذي يظن أنه يملك موهبة لكنه لا يتعدى كونه كارثة تمشي على الأرض.
ضحكت: - أخبرني... كيف تختار المواهب؟ هل يحدث هذا كما نراه في الأفلام؟ تجلس بشكل مهيب وراء طاولة و تتقدم المواهب واحدة تلو الأخرى و تقف أمامك فتنظر لها بطريقة مخيفة تربكها و تنسيها اسمها...
قاطعها صوت قهقهته: - يا إلهي... يالك من خيالية، عندما تصفين الأمر بهذه الطريقة تجعلينني أبو كتنين ينفث النار.
شعرت بالسعادة عندما رأت وجهه الضاحك و قد عادت له بعض الحيوية: - حقاً... لقد أردت أن أعرف كيف يكون الأمر.
قال بمرح: - كما وصفتيه لكن دون ذلك الجانب الترهيبي و تلك النظرات التي وصفتيها بــ ماذا؟ أجل... مخيفة.
وقفت فجأة و قالت و هي تضع الكرسي جانباً و تلتقط فرشاة شعر: - حسناً اسمح لي أن أقدم في تجارب الأداء الخاصة بشركتكم سيد فوكس... لقد سمعت أنكم لا تُرهِبون المشتركين.
للحظة شعر بأنفاسه عالقة في صدره عندما بدأت في غناء أغنية الروك تلك... و عندما ناولته فرشاة أخرى و قالت له : - انضم لي في الغناء... سوف نمرح كثيرة.
شعر أن قلبه هوى عند قدميه، توقفت فجأة و سألته بقلق: - هل أنت بخير؟
نظر لها ثم ابتسم: - أجل... أجل، هيا لنغني.
بعد أن انتهيا قفزت سالي على السرير متعبة، فتمدد بجوارها... أخذ يتأملها و هي تتحدث بابتسامة واسعة من بين أنفاسها المتسارعة: - لقد كان هذا الأمر جنونياً لكنه ممتع.... التفتت له و هي تقول: - و أنت بدوت مختلف... صمتت عندما رأت نظراته لها، ثم قالت ببطء: لقد كنت ساحراً.... عندما استمر بالتحديق بها صمتت، رفع مارك يد مرتعشة و أزاح شعرها عن وجهها، شعرت بنظراته تحضنها "أتعلمين أنكِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي... في كل مرة أنظر في عينيكِ أشعر أنني على وشك الغرق فيهما"
- ماذا؟ ماذا قلت؟
تنهد و هو ينظر إلى عمق عينيها: - لم أقل شيئاً...
قالت بحيرة:- لكنني متأكدة من أنني سمعتك تقول... صمتت، ثم قالت هامسة كأنها تتحدث مع نفسها: لماذا أشعر أن هذا حدث من قبل؟
اختفى اللون من وجه مارك، بينما تابعت سالي بصوت غاية في الخفوت: قلت لي" أتعلمين أنكِ أجمل امرأة رأيتها في حياتي... في كل مرة أنظر في عينيكِ أشعر أنني على وشك الغرق فيهما"
ابتعد مارك عنها و وقف مولياً ظهره لها ثم أخرج هاتفه: - لقد تذكرت أنني يجب أن أهاتف باتريك لأخبره بأمر مهم.
قفزت سالي من على السرير، أمسكت بكتفيه و أدارته ليواجهها ثم أخذت منه هاتفه: مارك...هل ما أشعر به حقيقي؟
رفع عينيه و جاهد ليرسم ابتسامه على وجهه: - أجل يا ساحرتي الصغيرة.
قالت بحماسة: و هذه... هذه الكلمة، لقد اعتدت أن تناديني بها، أليس كذلك؟
أومأ برأسه، ارتمت عليه تحتضنه بلا مقدمات كما أصبحت تفعل مؤخراً، ابتعدت عنه عندما سمعا طرق على باب غرفتهما، دخل ديفيد فأسرعت سالي باتجاهه بفرحة غامرة:
- خالي... لقد بدأت بتذكر بعض الأشياء.
رفع ديفيد عينيه و نظر إلى ابنه الذي غادر اللون وجهه تماماً ثم عاد لينظر إلى ابنة أخته التي كانت تتحدث بحماسة و قد بدت عليها السعادة .


***
خرج مارك راكضاً من الحمام عندما سمع صوت تحطم زجاج، نظر إلى سالي التي جلست أمام طاولة الزينة و قد تحطمت مرآتها و تناثرت قطع زجاجة عطر بدا أنها قذفتها في المرآة، تقدم منها و ركع على ركبتيه: - ما بكِ يا عزيزتي؟
كانت مطرقة برأسها و قد غطى شعرها الكثيف وجهها، رفع وجهها ، لانت ملامحه عندما رأى دموعها تكافح لتنطلق من أسر عينيها : - هاي... هل تبكين؟
ما أن أنهى سؤاله حتى انفجرت في البكاء فضمها له: - لا تبكي... ماذا حدث لكل هذا؟
خرج صوتها مكتوم في كتفه الذي اندست فيه بقوة: - لا أستطيع التذكر... لا أستطيع.
أخذ يمسح على شعرها:- لا يهم... لا يهم.
قالت باعتراض و هي تبتعد عنه و قد زاد بكاؤها: - بل هو مهم... مهم.
أعادها إلى صدره: - اهدئي و سوف يكون كل شئ على ما يرام.
بعد أن أفرغت شلالات دموعها تراجعت و أخذت تربت على قميصه الذي تبلل، قالت بصوت مبحوح:
- اليوم في المدرسة... لم أتذكر تلك الفتاة التي أتت لمكتبي لتخبرني عن... صمتت ثم قالت بألم: - اسمها ميليسا، لقد بدت خائبة الأمل، ظنت أنني أتجاهلها، قالت لي بعيونها الصغيرة الحزينة "لقد ظننت أننا صديقتان"، لقد مللت ذلك... أريد العودة إلى حياتي.
أخذ يمسح ما علق من دموع على رموشها ثم قبل جفونها برقة، شعرت برعشة داخلها...رعشة مألوفة، شعر بها و قد هدأت فجأة، قال بعد لحظة تفكير: - أتعلمين... لقد اعتدت أن أقبّل عينيك بهذا الشكل، كرر فعلته ثم ابتسم: - و في كل مرة أفعلها كنتِ تهدئين بصورة تدهشني.
قالت في صمت لأنها حركة أخّاذة... تشعرني بأنني محبوبة بشكل لذيذ.
هزها برفق... ما الذي تفكرين به أيتها الفتاة الباكية؟، هل قررتِ أن تبللي الجانب الآخر من قميصي؟ ضحكت و هي تمسح أنفها بكمها بطريقة جعلته يشاركها الضحك.
***
ما أن رأته ميليسا حتى ركضت باتجاهه:- العم فوكس، كيف حالك ؟
- كيف حالك أنتِ يا صغيرة؟
- أنا بخير لكن الآنسة سالي... صمتت قليلاً ثم قالت: - لا أظن أنها بخير.
- هذا ما جئت من أجله... هل تعرفين لماذا كانت الآنسة سالي في إجازة لفترة؟ لأنها كانت مريضة، لقد تعرضت لحادث و فقدت بسببه الذاكرة.
وضعت الفتاة يدها على فمها: يا إلهي لقد ظننتها...
ابتسم: - أجل... لقد حزنت كثيراً، لقد أخبرتني أن أحد تلميذاتها غاضبة منها لأنها تظنها تتجاهلها و هذا أحزنها، لا أريدك أن تخبريها أنني تحدثت إليكِ حسناً؟
- حسناً... أرسل تحياتي للخال باتريك و أخبره أن أمي غاضبة منه لأنه لم يزورنا منذ فترة طويلة.
ابتسم: - حسناً.
***

كانت تتحدث بحماسة عن يومها في المدرسة وعن تلك الفتاة المنطوية التي كانت ترفض التحدث مع أحد و التي غضبت منها في المرة السابقة لأنها ظنتها تُنكر معرفتها بها :- أخبرتني أنها بدأت تقيم الصداقات بسببي... شعرت بالصدمة عندما دخلت مكتبي اليوم و أعطتني لوحة رسمتها لي و أخبرتني بطريقة طفولية أنني جعلتها تثق فيمن حولها، و اعتذرت عن ردة فعلها المرة السابقة.
احتضنت قطعة الورق التي تحتوي الرسم و أخذت تدور حول نفسها بسعادة، توقفت عن الدوران عندما أمسكها مارك من كتفيها و نظر إلى عينيها بحنو، قال هامساً: - يالك من طفلة!!!
وضع جبينه على جبينها بتلك الطريقة التي تشعرها أن قلبها يرتبك و تفقد دقاته انتظامها: - أنت تمنحين الكثير لذلك يجب أن تتوقفي نتائج تفوق الطبيعي.
أبعدت رأسها عنه و رفعت أصابعها لتتحسس جبينه برقة ثم لمست جبينها: - أحب عندما تفعل ذلك، في البداية ارتبك لكنني أشعر بسكينة غريبة.
احمر وجهها عندما أدركت أنها قالتها بصوت عالي، ابتسم ابتسامة جعدت أطراف عينيه ثم عانقها.

‎أنت بذاكرة قلبي -  للكاتبه فاطمه الصباحي (زاهره)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن