بعد الوعكة التي أصابت ريتشارد رفع الجميع راية الاستسلام و أعلنوا هدنة غير مصرح بها، حتى أن مارك و سالي عادا ليتعاملان معاً بطريقة جيدة و بمرور الوقت أصبحا قادران على المزاح و الحديث دون توتر.
كانت الحياة تمر بهدوء ظاهري لكن مارك كان يشعر بعاصفة هوجاء بداخله، فتغير سالي و عودتها لتلك الفتاة الباسمة... ذلك التغيير الذي كان يطالبها به حمله على الندم على تلك الصفقة الوضيعة التي عقدها مع جده، فلقد كانت رائعة معه بشكل جعله يشعر كل يوم بمدى وضاعته و أنه أصبح نسخه من جده الذي لا يتورع عن فعل أي شئ طالما يخدم مصالحه.
حاول لمرات كثيرة أن يخبرها بسبب زواجه منها لكنه كان يعلم أن معرفتها بهذا الأمر سوف تسبب لها ألم كبير، و هذا كان يحمله على العودة عن قراره في كل مرة.
أسر ريتشارد لابنه أنه سعيد بتلك الذبحة التي ألمت بقلبه لأنها "أعادت له حفيدته الغالية"، قال ديفيد: - لا تضغط عليها يا أبي فسالي لا تقل عناداً عن سيلينا، و قد ترحل حقاً كما هددت.
- هذا ما أعرفه الآن، إنها تتطلب معاملة خاصة.
عندما رأى ديفيد لمعان عيني والده تأوه: - لا يا أبي... لا تتدخل، يجب أن تبقى خارج الموضوع إذا أردت لذلك الزواج أن ينجح حقاً، يمكنك أن تلاحظ أن الصغيران يملكان قاعدة تمكنهما من البداية منها و بناء حياة جميلة.
***
قررت سالي أن تعامل الجميع بما تمليه عليها شخصيتها، لن تسمع لخوفها من الوقوع في حب زوجها أن يخرجها عن طورها، لن تتغير من أجلهم بل ستحاول أن تغيرهم و تدخل بعض البهجة على هذا القصر الكئيب.
شعر مارك ببهجة لذيذة لرؤية زوجته توزع ابتساماتها يميناً و يساراً، كان دوماً يسمع رنة ضحكتها الرقيقة في أحد زوايا المنزل، كانت تداعب و تمازح الجميع حتى الخدم أصبحوا حلفاءها ، كانت تساعد "سلفستر" في ترتيب الحديقة بعد عودتها من المدرسة و تقوم باختيار الزهور التي تضعها في غرفة الجد و على طاولة الطعام، كما جعلت "جون" السائق يحاول تعليمها القيادة إلا أنها فشلت و بعد أن صدمت السيارة لثالث مرة أعلنت استسلامها ضاحكةً ، "مايا" التي كانت تحب سالي منذ وصولها للمكان أصبحت تعتبر نفسها صديقة مقربة لها بينما "ماري" التي كانت متحفظة تجاه وجودها الغريب الذي خافت أن يعكر صفو الحياة أصبحت ودودة معها... "كريستين" فقط التي ظلت بعيدة و متمسكة بموقفها السلبي تجاهها، انضمت إلى والدته التي رفضت كل غصون الزيتون التي عرضتها عليها سالي، كانت تصرفاتها المرحة أكثر من أن تبتلعها أوليفيا المتحفظة التي تتوجس شراً من الجميع، كان أحياناً يرى دروع أمه تتصدع قليلاً قبل أن ترفع الأسوار في وجه سالي و تقيم السدود.
ما سبّب الأرق لمارك أن تلك المعاملة الرائعة كانت من حق الجميع فيما عاداه، لقد عقدا صلح نص على توقفها عن التجهم كلما رأته و التصرف معه بطبيعية لكنها لم تكن تبتسم له تلك الابتسامة المشعة التي تصيب قلبه بالتخبط، و لم تحاول في مرة أن تلمسه و لو على سبيل المزاح أو حتى الصدفة، تحسنت علاقتهما عن السابق لكنه كان يعرف أنه لم يصل قط إلى مستوى الآخرين، لقد كانت تتصرف مع "ألفونسو" بأريحية أكثر مما تتصرف معه، و هذا أثار غضبه... فبعد أن نزلت راية الحرب بينهما لم يعد يكفيه ما تمنحه، كان يريد المزيد و هذا أغضبه أكثر و أكثر.
دخل المطبخ فوجدها تحتضن ألفونسو و تضحك بقوة: - يا إلهي كم أحبك أيها الفرنسي العجوز.
التفتت إلى باب المطبخ و نظرت إلى مارك الذي وقف مستنداً على إطار الباب و وضع يديه في جيبه و قال بمرح ساخر: - لابد أنك أعطيت زوجتي قطعة حلوى لتكافئك بهذا العناق.
ابتسم ألفونسو، و أخذ يقلب السائل في الوعاء على الموقد:- بالعكس... فهي من قامت بعمل الوصفة، انتظر قليلاً و سوف تتذوق أفضل فطيرة توت في حياتك.
جلست سالي و استندت ذراعيها على الطاولة بفخر و قد شع وجهها بالفرح:- ألا تعرف كم تعني لي شهادة طاهي فرنسي ساحر الوصفات.
تقدم مارك و مسح بإصبعه بعض السكر كان على طرف فمها:
- إنها أنتِ الساحرة يا صغيرة...أحذرك يجب أن تنتبهي لطعامك فلا نريد لشئ أن يفسد قوامك الرائع.
نظر لهما ألفونسو باستمتاع قبل أن يدير ظهره لهما لينتبه إلى الموقد و هو يضحك بهدوء بينما احمر وجه سالي و نظرت لمارك بغضب، مال على أذنها و همس: - لقد أصبح وجهك ينافس حمرة التوت يا فتاة، أشكري الله أن ألفونسو لا ينظر لكِ و إلا لشك في كونك امرأة متزوجة.
دفعته سالي بغيض فاستقام و هو يضحك، قالت له لتصرف النظر عمّا قاله، ذلك الجزء : - لا تقلق على قوامي يا عزيزي فأنا لا أكسب الوزن بسهولة.
عضت لسانها عندما رد الضربة: - لا تقلقي فأنا سأحبك حتى و لو تكدست الدهون حول خصرك الجميل.
نظرت له بحدة... لماذا يحول كل جملة تقولها إلى شئ محرج؟ ، وقفت: - ألفونسو... سوف أذهب لأساعد مايا في تحضير المائدة، يجب أن أتباهى بالتحلية التي ساعدتني في صنعها.... توجهت إلى ألفونسو و قالت له من فوق كتفه في نبرة متآمرة:- لا تخبر أحد أنك ساعدتني أريد أن أحصل على كل المديح.
ابتسم لها من فوق كتفه: - حسناً يا صغيرة...قبل أن تخرجي اغسلي وجهك ببعض الماء البارد فمن يراكِ سيظن أنني كنت أشويكِ في الفرن.
عاد لعمله بينما شعرت أنها تحترق من الخجل، نظرت لمارك الذي بدا أنه مستمتع بخجلها لأقصى حد، قالت و هي تمر بجواره: - رجل عديم الحياء.
تبعها خارج المطبخ ثم احتجزها إلى الحائط: - يمكنني أن أعرفك جيداً على المزيد من عدم حيائي.
لكمته بين ضلوعه فتأوه متصنعاً ألم مبالغ فيه، ثم أمسك بقبضتها قبل أن تنزلها: - يا لها من قبضة قوية.
فجأة ترك يدها و تحولت نظرته للجد، شعرت سالي بالخطر قادم فأرادت الفرار، قال لها: - أرى أنكِ تمازحين الكل و تخصي كلاً منهم بمعاملة مميزة فيما عادا المسكين مارك.
قالت مبتسمة: - أنت لست على القائمة و يجب أن ترضى بالموجود.
أجابها مازحاً: - يمكنني أن أرضى منك بأي شئ... صمت ثم قال بجدية: - لقد عادت سالي مرة أخرى و هذا ما يهمني.
أخذ مارك ينظر لها و هي تتباهى بطريقة طفولية ساحرة بفطيرة التوت البري الذي حضرته و التي أشاد الجميع بها، بينما أومأت والدته بموافقة ضعيفة عندما سألتها سالي بمرح: - هل أعجبتك الفطيرة يا عزيزتي؟
ابتسم... عزيزتي؟ لابد أن سالي أصبحت تتجنب قولة كلمة خالة أو خالتي لوالدته لترضيها، فكر لماذا هذه الفتاة محببة للنفس بهذه الصورة المريعة و التي يجب أن يحاسب عليها القانون!!!
التفتت سالي لترى مارك يراقبها متفحصاً و قد ارتسمت على شفتيه ابتسامة حنونة بعثت الارتباك في نفسها، حاولت أن تخفي ارتباكها و قلقها بالمزاح و الضحك.
***
شعرت سالي بتغير نظرات مارك تجاهها... أصبح رقيق في تعامله معها، كانت رقته و لطفه يتعارضان بشكل صارخ مع ذلك البيان الذي أصدره في الفندق عقب انتهاء مراسم زفافهما، حاولت أن تزيد من دفاعاتها دون العودة إلى جفاءها الذي بدا أنه يؤذيها و يؤذي من حولها كما أنه هدد بتحويلها لفتاة بغيضة، حاولت أن تجد طريقة لتحمي نفسها من التعرض للجرح على يد ابن خالتها الغافل عن تصرفاته الدافئة و ما قد تترتب عليه من عواقب وخيمة قد تودي بسلامتها النفسية، أخذت تردد لنفسها أنهما من الممكن أن يكونا لطيفان تجاه بعضهما البعض دون أن تورط مشاعرها فهي متأكدة أن الحنان الذي يعاملها به هو جزء من صداقتهما... مجرد صداقة.
شعر مارك أنه على وشك الجنون فعندما كانت سالي تتصرف من خلف حاجز و تبعد الجميع بما فيه هو عنها شعر بالغضب و الآن بعد أن أذيب جبال الثلج بينهما عاد ليشعر بالغضب و... الضعف، إنه شعور يكرهه، تساءل... هل ما يحدث الآن هو ما تنبأ به باتريك عندما كان يغيظه ؟ هل سينسى نفسه في هذا الزواج؟ أبعد هذه الفكرة عن رأسه بحنق... لا... إن سالي لطيفة و هو يقدرها و يحبها لكن كابنة عمته و صديقته فقط... فقط، و ما يحدث بينهما الآن هو نوع من أنواع التكيف مع الحياة التي وضعهما فيها جده المتسلط ، فما أن يجد فيكتوريا و يدق عنقها حتى يخبر سالي بكل شئ و ينهيان زواجهما ليعودان كسابق عهدهما، لكن بدا له أن كل محاضراته التي ألقاها على نفسه لا معنى له و عينا سالي المشعتان تلاحقانه في كل مكان و تفقدانه السيطرة على أفكاره، قرر أن يبتعد قليلاً و يقوي عزيمته، اخبر جده و والده أنه سيسافر و رحل دون أن يخبر سالي، لابد أن هذا سوف يغضبها و هذا من شأنه أن يعيد القليل من الحدود بينهما.
كان ريتشارد و ديفيد يعلمان أن سفر مارك لم يكن من أجل أي عمل، قال ريتشارد لابنه ضاحكاً:
- إنه يريد أن يبتعد عن مجالها المغناطيسي.
حاول ديفيد أن يتمالك نفسه و يبدى السعادة كوالده:- أبي... لا أحب الطريقة التي تتحدث بها عن مارك و كأنك تستمتع بتلك المعضلة التي جعلته يواجهها.
نظر ريتشارد إلى ابنه من تحت نظارته: - هاااي... ديفيد لا تنظر لي بهذا الوجه فأنا و أنت نعرف أن تجهمك هذا زائف، أكاد ألمح ابتسامتك تركل و تصارع لتطلق سراحها... أنت سعيد و تأمل أن تكون سالي العلاج لمرارة ابنك التي سيطرت عليه منذ مراهقته.
ابتسم ديفيد:- لن أخفيك سراً... لقد بدأت أرى في تلك الحبيبة الترياق الذي سيعالج ذلك العنيد صعب المراس، فأنا لا أريده أن يكبر ليصبح عجوزاً مريراً يحلو له تعذيب من حوله مثلك.
قهقه ريتشارد: - كم أحبك يا فتى عندما تلقي أحد هذه التعليقات التي لا تناسب طبيعتك الطيبة، هذا يذكرني أن دمائي الشريرة تجري في عروقك البالغة الحنان.
أنت تقرأ
أنت بذاكرة قلبي - للكاتبه فاطمه الصباحي (زاهره)
Romanceكل حقوق الملكيه خاصة للكاتبه فاطمه الصباحي (زاهره) ملخص "أنت بذاكرة قلبي" تزوجته بناءاً على طلب جدها الذي طلبت منها والدتها قبل أن نموت أن لا تعصي له أمراً، تزوجته و كل ما يجمعها به مودة تكنها فتاة لابن خالها الطيب، كان زواج يسوده التوتر و الصراعا...