١٣

614 72 148
                                    

يُمكن تلخيص كل شي تعلمته في هذه الحياة في ثلاث كلماتٍ:
كُلّ شيء يمُر

-روبرت فروست

-السابعة صباحاً بتوقيت باريس، فرنسا

ولأنهُ لم يكفّ عن التفكير والبُكاء ليلَة الأمس، لم ينم جيدًا..
تساءل، هو متى ينام جيدًا اصلاً؟

كان هاري قد إستيقظ من مدّة، ولكنه لم يتحرك لأن اليزآ كانت نائِمة ومتشبثة بصدره العاري.

راقبهَا جيدًا، وكلما راقبها، خفقَ قلبهُ لهَا أكثر.
لا يعلم لِمَ كانت مشاعره نحوها مختلفة، ليسَت كأي فتاة التقى بها، ليسَت كالمشاعر التي كان يشعر بها نحو الفتيات لقضاء ليلة معهُ.

هيَ ليسَت بالنسبة لهُ فتاة لليلة..

لقَد وجد بهِ قلب والدتهُ
سجذاتها، طفولتها وعفويتها، وإهتمامها الجازم بهِ كطفلها الوحيد.
جزءٌ منهُ يشعر بالفضول نحوها، يتوق لمعرفة حكايتهَا، وماضيها الذي رماها لهُ..
يتوق للمسها، لمسها بطريقة أُخرى، ليسَت كالبقيَة..
يتوق ليشعر بهَا يوماً ما

اصبحَ يعتاد على وجودها كثيرًا..

تركَ الفراش بهدوء دون أن يُصدر إزعاجاً لهَا، وخرج من الغُرفة قاصدًا المطبخ.
وجدَ كُل شيء نظيف، كما هو قبل حدوث فوضى الزجاج ليلة الأمس، ليظهر فجأة شبح إبتسامة على شفتيه ولكنهُ لم يدُم طويلاً.
إهتزّ هاتفه بين يدهُ، وقد كانت رسالة نصيّة جديدَة.

'الجنازة، هل ستأتي؟'

عضّ هاري على شفتيهِ ومنعَ دموعه من النزول بينما أغمض عينيهِ للحظَة، ثُم تنهد وعاد ينحني لشاشة هاتفهُ بينما أصابعه تنقر فوق لوحة المفاتيح.
'كلّا..لن أفعل.'
وقد كان هذا قرارهُ النهائي.
ولأنهُ انسانًا لا يحبذ التفكيرِ في قرارته حتى إن كانت ساذجة، فقد ارسل الردّ سريعًا قبل ان يفكر ولو مرّة بما سيرسله.

كان قد بدأ بصنع القهوة لهُ ولآليزا، ولكن حين بدأ بصنعها اتضح لهُ ان القهوة قد نفذت
فعَاد يبحث إن كانَ هُناك واحدة أخرى، وبالفعل وجَد بعد دقائِق من البحث.
سْحَب مقصًا ليقوم بفتح طرف علبة القهوة، وحين قد بدأ بذلك دخلَت آليزا بخطواتٍ ناعسَة ثُم استفاقت قليلًا عندما وجدتهُ محملاً بالمقص في يده

"هاري، ما الذي تفعلهُ؟" سألتهُ آليزا مستغرَبة وهيَ تنظُر نحو السّكين.

"كنتُ سأعدّ القهوة."أجابهَا بهدوء ولم ينظر لهَا، ولكنهُ إنتبه لتنهيدتهَا المريحة التي فرّت من بينَ شفتيهَا فجأة.

هل كانَت تعتقد بأنهُ سينتحر مثلاً، بمقص؟

رُبما كان هذا الموقف يحتاج الى عبث هاري ومزاحه معهَا ليُخبرها فعلاً بأنهُ كان سينتحر ليرى ردّة فعلها، ولكِن جديًا لم يكُن في المزاج للعبث معهَا او حتى الحديث.

اعدّ القهوة، وجلسَا كل منهُما على مائِدة المطبخ، وبدأ يرتشفانهاَ بهدوء.
كان الجوّ غريبًا بينهُما قليلاً، او كثيرًا حتى، صامت..
ليس ككلُ صباحٍ يبدأ بمزاح هاري وطفوليته، وتناوله حبوب الشوكولا مثلاً.
وايضًا..
كانت تُريده ان يتحدّث عن ما حدَث ليلَة الأمس ويشرحَ لهَا لعلّه يبث الطمأنينة داخلها.
ولكن مع إستمراره بالصمت المقلّق، إستنتجت آليزا من كُل هذا أنهُ ربما ليسَ لديه الشجاعة الكافية للبوح، او انهُ يعانيِ من شيءٍ ما لا يُريد الحديث بهِ.

والفرق بين البوح والحديث شاسع!

"آليزا.." بدأ هاري يقول فجأة، لتلفت أنظار آليزا سريعًا نحوه

"ليلَة الأمس.."عاد يتحدّث ببطء مجددًا، ناظرًا الى كوب قهوته الفارغ.
"بعد أن خرجتُ من المنزِل، هاتفني عامل لدي في الحانَة، وأخبرنيِ بأن أحدهُم ينتظرنِي امام الحانة، لم أجد حلاً سوى أنني ذهبتُ، وقد أتضح ليِ أن هذا الفتى كان آتيًا لي ليُخبرني أن والدِي يلفظ أنفاسهِ الأخيرَة ولم يعرف كيف يتواصل معيِ ويُريد رؤيتي."

أكملَ كلامهُ الخافت بشدّة، ورُفِعَت أنظارهُ نحوها عندما لاحظ صمتهَا بعد مدّة.
جميع توقعاتهَا كانت صحيحَة بالفعل.
عضّت آليزا على شفتيهَا ومرّرت يدهَا لتضعهَا فوق خاصتهُ بجفاف:

"هَل ستذهَب؟"
رمقهَا بنظرةٍ ساخِرة وهو ينهض من فوق كرسيه، قائِلاً:
"حقًا آليزا، أنتِ من تقولين هذا؟"
أضاف: "بالطبع لا."

"كما شئت، ولكنهُ والدك في النهاية، لا تستخف بهذا مُطلقًا"أخبرتهُ اليزآ وقد نهضَت لتقف أمامهُ.
"كلاّ، لا تتحدثِين عن شيء وأنتِ لا تعرفينه" عاد يقول مجددًا بصرامة، ثُم تأفأف بضجَر.

أستغربَت اليزآ من اسلوبه المفاجئ، وهذا يعنيه أن لا تتحدَث بهذا الموضوع ثانيةً.

تنهَد بضيق وهو يلتفت لهَا صارخًا:
"لَقد توفى اليوم، أراد التحدّث إلي قبل موته بساعات، ولم يُفكر ولو مرَة بعد عشرون عام أن يأتي لرؤيتي أو حتىَ لرؤية اُمي، أمازلتِ تريدين منّي الذهَاب بعد كُل هذا؟"

أنصدَمت آليزاَ من ردّة فعلهُ المفاجئَة وقد بدا وكأنهُ شعرَ بالندم على ماقالهُ.
جميع أحاسيس الشفقَة التي شعرَت بهَا ليلَة الأمس تحوّلت الى رماد، تحطّمَت من كلامهُ.
سمِعَت نبرة الألم في حديثه، هو ليسَ سعيدًا بموته، هو حزين لدرجَة أنهُ يحاول أن يكرههُ أكثر ليستبعد شعور الذنب منهُ

راقبتهُ بحزن وهو يجلس فوق الكرسي ثانيةً، ودفنَ رأسهُ بين كفيّه بتعَب.
أرادت آليزا احتضانه كليلَة الأمس، وقد بدت كالمجنونة وهي تُفكر بطُرقٍ كثيرَة لتفعلهَا.
تقدّمَت خطواتهَا نحوه، لتحاول أن تجلس فوق حجره كالمرَة السابقة، وهذه المرَة كانت من رغبتهَا هيَ.
أزال يدهُ عن وجههِ عندما شعرَ أنها عانقتهُ بودّ
شعرَت اليزآ بأنهُ أبتسَم في العناق، لتبتسم هي بدورهَا وشدّت أكثر على عناقها
لِمَ يشعر هكذا نحوها؟

عزيزتي باريس | نغم غنّام.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن