خريفي. الحزن يجوس خلال الخيام.. ينشر ظله الثقيل.. وآهات تتصاعد من كل مكان.. وأمنيات خضراء تحلم بالمطر والخصب والحياة.
دخل الحسين خيمة أخته زينب..
المرأة التي شهدت
- من قبل - مصرع أبيها واغتيال أخيها.. فجاءت تحرس آخر أصحاب الكساء. تريد أن تشاركه في كل شيء.. تقتسم معه الموت والخلود.
نسیم هادئ حرك طرف الخيمة.. ريما مسح عليها مواسية قبل هبوب العاصفة. قالت زينب:
- هل استعلمت من أصحابك نياتهم، فإني أخشى أن يسلموك عند الوثبة.
- والله لقد بلوتهم، فما وجدت فيهم الا الأشوس.. يستأنسون بالمنية دوني استئناس الطفل إلى محالب أمه.
وكان نافع يصغي إلى هموم زینب.. الى مخاوف عقيلة بني هاشم اسرع نافع الى رجل ذزف على الستين بأعوام:
هلم يا حبيب..
هلم إلى زينب .. انها تخشى الغدر.. وقد اجتمعت النسوة عندها يبكين.
بريق نقاذ اتقد في العينين الا سديتين.. توهجات الغضب المخزون اشتعلت كلها في لحظة واحدة.. هتف حبيب:- يا أصحاب الحمية وليوث الكريهة!
انبعثت من بين الخيام سيوف ورجال العزم المشتعل في العيون يكاد يضيء التاريخ، والسواعد المفتولة توشك أن تلوي الاقدار.
وقف الرجال ازاء خيمة يعصف بها القلق والخوف.
هتف حبيب:
- يا معشر حرائر رسول الله! هذه صوارم فتیانكم، آلوا ألا يغمدوها الا في رقاب من يريد السوء فيكم، وهذه أسئة غلانكم أقسموا ألا يركزوها الا في صدور من يفرق ناديكم...
ومن قلب الخيمة الحزينة، ينبعث صوت استغاثة.. استغاثة ما تزال حتى اليوم تستفهم التاريخ والانسانية. صوت امرأة خائفة تنشد حقها في السلام.
- ايها الطيبون حاموا عن بنات رسول الله. لو كانت الغيوم حاضرة لتفجرت مطر ساخن کدموع الأطفال. وبكى الرجال.. بكت العيون المتأججة وهي تتطلع إلى مذبحة مروعة ستحدث بعد ساعات.
وفي سحر تلك الليلة، رأى الحسين
- في عالم الاطياف - كلاب تنهشه.. تتخطف جسده، وأشدها كان الأبقع..فجر يشبه رمادا ذرته الريح في العيون، والفرات ما يزال يجري متلويا كحية تسعى، والقبائل التي باتت تحلم بالأسلاب استيقظت ترنو بعیون متنمرة إلى مضارب خيام بعيدة.
اختلطت أصوات عديدة؛ رغاء جمال.. وصهيل خيول.. وقعقعة سيوف ورماح ودموع.
والحر الذي أوقع بالقافلة، وساقها إلى أرض الموت، يقف مشدوهة لمنظر جموع غفيرة.. جاءت لقتل سبط النبي. لم يخطر بباله أبدأ أن تنحدر الكوفة لقتل «المخلص»..
حرك فرسه الى مقدمة الصفوف، وراح يحدق في الأفق حيث يقف الحسين. شاهده من بعيد يرتب مقاتليه. انهم لا يزيدون على السبعين أو الثمانين. هل سيقاتل الحسين حقا؟ هل يدخل معركة خاسرة؟وسمع الحر الحسين يخطب بجيشه الصغير:
- ان الله تعالى قد أذن في قتلكم وقتلي في هذا اليوم فعلیکم بالصبر والقتال....
رآهم ينقسمون الى ثلاث فرق؛ الجناح الأيمن بقيادة «زهیر بن القين»، والجناح الأيسر بقيادة «حبیب بن مظاهر». أما الحسين فقد ثبت في القلب.. وتسلم الراية «أبو الفضل» فبدا والراية تخفق فوق رأسه جيشأ لوحده.
القبائل تزحف باتجاه الخيام.. والخيول تجول.. تثير غبارة والقلوب الصغيرة في حنايا الخيام تخفق بشدة.. يا له من يوم عصيب!
أصدر الحسين أمره بإضرام النار في الخندق.. فتصاعدت ألسنة اللهب.. وتراجعت الخيول.. فرت مذعورة من خط النار.
اغتاظ «الأبرص» من هزيمة فرسانه، فصاح بنفاق: - یا حسين، تعجلت بالنار قبل يوم القيامة! سأل الحسين مستوثق:
- من هذا؟!
كأنه شمر بن ذي الجوشن.
- نعم..
إنه الشمر.
انطلق صوت الحسين:
- یابن راعية المعزى! أنت أولى بها صلي.
وضع «مسلم بن عوسجة» سها في كبد القوس.. استهدف الأبرص الذي باع نفسه للشيطان. وفي اللحظة الأخيرة، تدخل الحسين قائلا:
. أكره أن أبدأهم بقتال.
تذكر الحسين كيف كان الأبقع ينهش جسده بوحشية. رفع یدیه إلى السماء.. الى العالم اللانهائي.. شاکيا ويلات الارض. كانت كلماته تنساب کنه بارد.. نهر قادم من جنات عدن:
- اللهم أنت ثقتي في كل كرب، ورجائي في كل شدة، وانت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة.. كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة، ويخذل فيه الصديق، ويشمت فيه العدو أنزلته بي وشکوته اليك رغبة مني اليك عمن سواك، فكشفته وفرجته. فأنت ولي كل نعمة و منتهی كل رغبة....
القبائل تزداد ضراوة.. والسيوف تبرق من بعيد.. تقطر حقدأ ونذالة.. والحر يتقدم قليلا قليلا. راح ينظر الى الحسين الذي ركب ناقته.. يريد أن يخطب بالقبائل المحيطة به. أرهف الحر سمعه لهذا القادم من أقصى الجزيرة يحمل معه كلمات محمد وعزم علي.
استوی الحسين على ناقته، فبدا کنبي يعظ قومه: