14

286 46 4
                                    


اشرقت الشمس.. حمراء.. حمراء. بركة من دماء. التمعت ذرئ النخيل، وتوهجت ذرات الرمال، واصطبغت وجوه القبائل بلون الجريمة.. واستيقظ الشيطان يعربد ويدمر...
صرخ شيطان من القبائل:
- یا حسين.. أبشر بالنار.
_كذبت بل أقدم على رب غفور کریم..
_فمن انت؟
_انا ابن حوزة.
_رفع السبط يديه الى السماء.
- اللهم جزه الى النار.
لا أحد يعرف كيف حدث الأمر.
ما الذي أغضب الفرس؟
ما الذي دفعها لأن تركض كالمجنونة تدور وتدور وفي فورة غضب تمكنت الفرس أن تقذف من على ظهرها الفارس.. في قلب الخندق المشتعل. لحظات مرت تحول فيها ابن حوزة الى رماد.. تحولت احلام السلب والنهب وشهوة القتل الى هشيم تذروه الريح....

لو كان هناك رجل من الحواريين لقال هذا ابن الله. ولقال له الحسين.
- انا ابن نبي الله هتف السبط:
- اللهم انا اهل بیت نبيك وذريته وقرابته، فاقصم من ظلمنا وغصبنا حقنا إنك سميع قريب....
ما أقرب السماء للإنسان إن سما.
وتذكر الحسين رجلا سأل أباه:
كم هي المسافة بين السماء والأرض؟
فأجاب «باب مدينة العلم»
: دعوة مستجابة.
وقف ابن سعد منتشيا بأحلامه...
ماهي الا ساعة، ثم ينتهي كل شيء... سوف يحكم قبضته على الري وجرجان... لم تبق الآ خطوة واحدة.. أن يعبر جثة الحسين.. بركة صغيرة من الدم.. ثم ينطلق صوب الشرق.. الى عالم يزخر بالجواري والحريم.

تقدم الحر.. أيقظه من الحلم:
- أ مقاتل انت هذا الرجل؟!

- إي والله قتالا أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الايدي.
- دعوه ينصرف الى مكان في هذه الأرض؟
- لو كان الأمر بيدي لقبلت..
انها أوامر ابن زیاد.
ادرك الحر أن الساعة آتية لا ريب فيها، ولسوف تذهل کل مرضعة عما أرضعت، وترى الناس سكارى و ما هم بسكارى.. وبدأ الحر يخطو صوب القافلة.. قال «ابن أوس» وقد ذهبت به الظنون.
- اتريد أن تحمل؟؟
ضرب الزلزال الاعماق مرة أخرى، وشعر الحر بالانقاض تتراكم بعضها فوق بعض...
هتف ابن أوس متعجبا:
- لو قيل لي من اشجع أهل الكوفة لماعدوتك؟ فماهذاالذي اراه منك؟
_التفت الحر وصوب نحوه نظرة تحمل كل معاني الاكتشاف:
اني أخير نفسي بين الجنة والنار..
والله لا أختار على الجنة شيئا ولو أحرقت...
تمتم ابن سعد مذهولا
- ماذا أرئ؟..
ماذا يفعل هذا المجنون؟..
كيف يختار الانسان الموت!..
انظروا اليه.. كيف يبدو خاشعة أمام الحسين...
- انصتوا انه الحر.
قهقه أحدهم
- إنه يريد موعظتنا هو الآخر...
هتف شبث بن ربعي : ايها الاحمق، دعنا نسمع ما يقول.
وجاء صوت الحر جهوريا مدوية منطلقا من اعماق نفس اكتشفت ينابيع الخلود:

- يا أهل الكوفة لأمكم الهبل والعبر، إذ دعوتموا هذا العبد الصالح وأحطتم به من كل جانب ومنعتموه التوجه الى بلاد الله العريضة حتى يأمن هو وأهل بيته، واصبح كالأسير في ایدیکم لا يملك لنفسه نفع ولا ضرا وحظتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازیر السواد وكلابه! وهاهم قد صرعهم العطش. بئسما خلفتم محمدأ في ذريته..
وانطلقت نحوه السهام المطر..
وتقهقر الحر متفادية نبال القبائل الغادرة.
نسور مجنونة تحوم في السماء، وريح عاصف تهب من ناحية الصحراء، وبدت اشجار النخيل کرماح مرکوزة في خاصرة الفرات.
بدا الجو مشحونة بالخطر، ومثلما تندلع الصواعق بين اكوام السحب، تدفقت سهام مجنونة تحمل في اتصالها الموت.
هتف الحسين بأنصاره:

قوموا رحمكم الله الى الموت الذي لابد منه، فإن هذه السهام رسل القوم اليكم.

هب رجال كانوا ينتظرون على أحر من الجمر.
كيف اصبح الموت أمنية لهم؟
كيف اضحى في نظرهم خلود ..
كيف تحولت الصحراء الملتهبة الى جنات تجري من تحتها الأنهار، غاص الرجال في احراش كثيفة من رماح وسيوف. كانوا يقاتلون بضرواة لانظير لها كما لو كانوا يريدون توجيه مسار التاريخ الاتجاه الذي ينشدون.

امتلأ الجو غبار ودخانا، وكانت السيوف تهوي كبروق مشتعلة. وعندما غادر الغبار ارض المعركة، كان هناك خمسون صريعا يعالجون جراحاتهم في الرمضاء.. الجراح تسقي الارض.. والدماء تروي شجرة الحرية.. شجرة اصلها ثابت في اعماق التراب، وفرعها في هامة السماء تمتم الحسين متألم

- اشتد غضب الله على اليهود اذ جعلوا له ولدا، واشتد غضبه على النصارى اذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتد غضبه على المجوس اذ عبدوا الشمس والقمر دونه، واشتد غضبه على قوم اتفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيهم...
أما والله لا اجيبهم الى شيء مما يريدون حتى ألقى الله وأنا مخضب بدمي.

هجم الأبرص على إحدى الخيام، وقد اشتعلت في عينيه شهوة النهب، وهاج شیطان يعربد في اعماقه:
- علي بالنار لأحرقه على أهله....
القلوب الصغيرة الخائفة فرت مذعورة من الخيمة كطيور هاربة من سفن بعيدة غرقت.

صاح الحسين:

- يابن ذي الجوشن انت تدعو بالنار لتحرق بيتي على أهلي.. احرقك الله بالنار.

واستنكر شبث بن ربعي الحضيض الذي وصل اليه رفيقه.
- أمرعبأ للنساء صرت؟!
ما رأيت مقالا أسوأ من مقالك، ولا موقفا أقبح من موقفك..
وتمتم وهو يعض على يده:
- قاتلنا مع علي بن ابي طالب ومع ابنه من بعده آل ابي سفيان خمس سنين، ثم عدونا على ولده -
وهو خير أهل الأرض نقاتله مع آل معاوية وابن سمية الزانية!... ضلال... يا لك من ضلال!!

توسطت الشمس كبد السماء، والقبائل تتخطف القافلة... التفت «ابو ثمامة الصائدي» إلى الحسين. قال بخشوع:

- نفسي لك الفداء إني أرى هؤلاء قد اقتربوا منك. لا والله لا تقتل حتى أقتل دونك واحب أن القى الله وقد صليت هذه الصلاة التي دنا وقتها.
رفع الحسين رأسه إلى السماء وألقي نظرة على الشمس:
- ذكرت الصلاة..
جعلك الله من المصلين الذاکرین، نعم هذا
وقتها...وأردف وهو يجفف حبات عرق تلتمع فوق جبينه:

- سلوهم أن يكفوا عنا حتى نصلي.
هتف ابن نمير وكان فظا غليظ القلب:
- انها لا تقبل!
اجاب حبیب بن مظاهر غاضبا
- زعمت أنها لا تقبل من آل الرسول و تقبل منك يا حمارا
عربد الشيطان في اعماق «ابن نمير»، فأقحم الفرس نحو «حبیب» وحبيب واقف كالجبل لم يكترث بالجموع وهي تنحدر نحوه. وتخطفته سيوف القبائل... وانسابت دماؤه قانية فوق رمال الصحراء تروي لها أروع قصص الوفاء والتضحية والفداء.
واسترجع الحسين كثيرة
- عند الله احتسب نفسي وحماة اصحابي.

القبائل تموج كأنها ريح صفراء تحمل في طياتها الموت؛ والحسين وسط الإعصار يصلي بأصحابه الصلاة الأخيرة.. السماء تفتح ابوابها للقافلة القادمة، والفضاء يزخر بأجنحة الملائكة.. ونسائم طيبة تحمل رائحة الربيع. ربيع جنات الفردوس.
التفت الحسين الى اصحابه وهو يشير الى مسار القافلة
_یاكرام هذه الجنة قد فتحت أبوابها، واتصلت أنهارها، وأينعت ثمارها، وهذا رسول الله، والشهداء الذين قتلوا في سبيل الله يتوقعون قدومكم ويتباشرون بكم، فحاموا عن دين الله، ودين نبيه وذبوا عن حرم الرسول...

رواية ألم ذلك الحُسـين ؏ حيث تعيش القصص. اكتشف الآن