القافلة التي اكتشفت ينابيع الخلد تهب للخطى الاخيرة:
- نفوسنا لنفسك الفداء، ودماؤنا لدمك الوقاء. فوالله لا يصل اليك والى حرمك سوء وفينا عرق يضرب.
السماء تفتح أبوابها، والرجال يعرجون.
تقدم «أبو ثمامة» إلى المعراج، وما اسرع أن حلق الى السماوات مخلفا وراءه بركة من دماء
قانية.ومن بعده انطلق «زهير» وضع يده فوق منكب الحسين، وانشد:
أقدم هديت هادية مهديا
فاليوم ألقى جدك النبيا
وحسن والمرتضى عليا
وذا الجناحين الفتى الكميا
وأسد الله الشهيد الحيا- وأنا القاهما على اثرك.
وما أسرع أن التحق برفاقه.القافلة تطوي السماوات.. تتخطی الكواكب والافلاك.. في عروج ملکوتي فريد
وقف الحسين عند مصرعه، وقال متأثرة
- لا يبعدنك الله يا زهير ولعن قاتليك لعن الذين مسخوا قردة وخنازير.واستعد «نافع الجملي» للرحيل، فغاص في اعماق القبائل وانهمرت عليه الحجارة من كل صوب، فتهشم عضداه، وسيق اسيرة.
كانت الدماء تنزف منه، وقد صبغته بحمرتها المشتعلة. قال ابن سعد بلهجة ينم منها الإعجاب ببسالته:
- ما حملك على ما صنعت بنفسك؟!
إن ربي يعلم ما أردت.
- أما ترى ما بك؟!
- والله لقد قتل منكم اثني عشر سوئ من جرحت، وما ألوم نفسي على الجهد.. ولو بقيت لي عضد ما أسرتموني.جرد الأبرص سيفه وقد برقت عيناه حقدة. فقال نافع بطمأنينة:
- والله يا شمر لو كنت من المسلمين لعظم عليك ان تلق الله بدمائنا... فالحمد لله الذي جعل منایانا على أيدي شرار خلقه....هوى السيف بقسوة، وتدحرج الرأس فوق الرمال، وعيناه تنظران باتجاه عوالم لانهائية، وقد ارتسمت ابتسامة هادئة فوق شفتين ذابلتين من الظمأ.
ونادى رجل من القبائل:
یا بریر ، كيف ترى صنع الله بك؟
اجاب بریر وهو ينظر الى ما وراء غبار الزمان:
- صنع بي خيرة وصنع بك شرا.
- كذبت وقبل اليوم ماكنت كذابا.
اتذكر يوم كنت أماشيك في بني لوذان» وانت تقول:
كان معاوية ضالا وان إمام الهدئ علي بن ابي طالب:
- بلي اشهد ان هذا رأيي.
- وانا اشهد انك من الضالين.
- تعال نبتهل إلى الله فيلعن الكاذب منا ويقتله.توجهت اید مع قلوب الى السماء تستمد النصر، وارتفعت اید جذاء. فتقبل من احدهما ولم يتقبل من الآخر. وبدأت المنازلة...
هوى برير بسيف يشبه صاعقة مدمرة.. فهوى الرجل الذي حاقت به اللعنه الى الارض كأنما خر من شاهق.الشمس ما تزال مستمرة في زرقة السماء تصب لهيبة يشوي الوجوه... وعجلة الموت تدور مجنونة في الرمال الملتهبة.. تتخطف رجالا لم تلههم تجارة ولابيع عن ذكر الله....
تقدم «جون»..
دفعته الأيام من اصقاع بعيدة، وكان فتي لأبي ذر الغفاري..
قال الحسين:
- یا جون انما تبعتنا طلبا للعافية، فأنت في إذن مني.
اجاب جون بضراعة:
- أنا في الرخاء ألحس قصاعكم، وفي الشدة أخذلكم..
لا والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم.
واندفع جون يقاتل القبائل..
والارض تهتز تحت قدميه بشدة.. كطبول افريقية.
وأطبقت السيوف عليه كأنياب وحش اسطوري.
تمتم الحسين، وهو يتأمل جراحه النازفة
- اللهم احشره مع محمد و عرف بينه وبين آل محمد.
وتقدم من بعده أنس بن الحارث الكاهلي، وكان شيخا كبيرة صحابية، رأى النبي وسمع حديثه، وشهد معه بدرة، وحنينة، ومعارك دامية أخرى.
الشيخ الذي حنت ظهره الأيام.. ووقفت عاجزة أمام إرادته.. نزع عمامته، وشد ظهره المقوس بها، ورفع حاجبيه بالعصابة.
كان الحسين يراقبه، وعيناه تنهمر ان دموعا.. ثم أجهش بالبكاء.. - شكر الله لك يا شيخ!تقدم الصحابي بخطى واهنة، وعزم كالحديد أو أشد بأس.. وتداعت امامه صور مشرقة من جهاده مع النبي يوم كان يقاتل المشرکین کافة.. وها هو اليوم يقاتل ابناءهم واحفادهم... ودوت في أذنيه كلمات الرسول في المعارك:
يا منصور أمت...
ووجدت القبائل فيه ثأر قديمة من ثارات بدر و حنین.. فتكالبت عليه من كل حدب وصوب.
وعندما هو الصحابي الكبير الى الأرض، ولامس وجهه الرمال، شعر بأنه يقبل وجه النبي.الصحراء تئن من وقع سنابك الخيل، والرمال تشرب الدماء وتنشد المزيد، والقبائل تنتشي بثارات قديمة.. قديمة جدا
الفرات يجري.. تتدافع امواجه؛ فبدا غير مكترث لما يدور على شواطئه.. بل لعله كان يسرع معنا في الفرار.. لايريد أن يشهد الأهوال..
أو ربما كان يريد أن يروي للبحر قصة الصحراء والظمأ والحسين.
لم يبق مع الحسين من اصحابه أحد.. ودعوه وذهبوا بعيدة
لم يبق مع الحسين سوى أهل بيته ...
فتقدم علي الاكبر..اعصار يختزن غضب الانبياء الاب يودع ابنه بنظرات حزينة كغيوم ممطرة. كانت دموع الحسين تنهمر. وبصوت، يشبه نشيج الميازيب في مواسم المطر، هتف:
قطع الله رحمك يابن سعد کما قطعت رحمي ولم تحفظ قرابتي من رسول الله..
وسلط عليك من يذبحك على فراشك.
الأكبر يخترق غابة السيوف والرماح..
والحسين يرفع وجهه.. يحدق في السماء- اللهم اشهد على هؤلاء القوم، فقد برز اليهم اشبه الناس برسولك محمد خلقا ولقة ومنطقا، وكنا اذا اشتقنا الى رؤية نبيك نظرنا اليه، اللهم فامنعهم بركات الارض.
العلوي يخترق أحراش الرماح.. وبين الفينة والأخرى يلوح بريق سيف غاضب کوميض الصواعق بين سحب مشحونة.. مخزونة بالرعود.
هز «مرة بن منقذ» رمحه، وقد عصفت في نفسه الحمية.. حمية الجاهلية:
- علي آثام العرب إن لم أثكل أباه؟واخترق رمح وحشي طيفا نبويا فاعتنق فرسه. فانطلقت وسط احراش السيوف وغابات الرماح.. وتخطفته القبائل المتوحشة.. وانبثقت کلمات «الاكبر» کنافورة حب ازلية:
- عليك مني السلام أبا عبد الله، هذا جدي قد سقاني بكأسه شربة لا أظمأ بعدها، وهو يقول إن لك كأسا مذخورة.
وعندما وصل الأب المفجوع، كان الابن قد رحل بعيد .. بعيدا جدا. وفي عينيه تلوح قوافل مسافرة.
الجراح النبوية تنزف ملا الحسين كفه من ينابيع الحياة، ثم رمى بها الى السماء..
الرذاذ الأحمر يصعد إلى الفضاء اللانهائي.. يتحول إلى نجوم تنبض أملا، فتهتدي في وميضها قوافل قادمة من رحم الأيام.
- على الدنيا بعدك العفا..
ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حرمة الرسول.الراية ما تزال تخفق بعنف.. تعلن الثورة.. الرفض.. الإباء.. الدماء تنزف.. تروي الرمال. تنفخ فيها روحة، وتبتها اسرارا لا يدركها أحد من العالمين.
-هل رأيتم القمر يمشي على الارض
تمتم التاريخ متعجبا، وهو يرى القاسم بن الحسن.. فتى لم يبلغ الحلم بعد
يمشي الهويني.. عليه قميص وإزار، و في رجليه نعلان. في يمينه سيف.. يطوح به يمينا وشمالا.. يقاتل الذين غدروا.. انهم لا ايمان لهم. انقطع شسع نعله اليسرى، فانحنى يشده.. غير عابئ بالقبائل تدور حوله کدوامة ما لها من قرار
شد عليه رجل يلهث، فاستنكر آخر:
- ما تريد من هذا الغلام ؟!
يكفيك هؤلاء الذين احتوشوه.
- لأشدن عليه.
وارتطم سيف جبار، فانشق القمر:
- يا عماه؟
وهب الحسين عاصفة مدمرة.. إعصار فيه نار. وما اسرع آن هو العم على قاتل ابن اخيه بسيف مشحون غضبا. وصرخ القاتل الهول الضربة. وارادت الخيل أن تدفع عنه الموت، فداسته بحوافرها..