الفصل الثالث

3.5K 132 9
                                    

الفصل الثالث

" أنا أقف فوق حافة جسر أولاند، ربما بعض دقائق ستكون كافية لألقي نفسي من فوقه وأكون عند بابا "
توقف بالسيارة أخيراً بعدما عثر عليها ألم يلتفت أي أحد لها! ومن سيقف يلتفت في هذا الظلام وعلى هذا الجسر بالأخص بمنتصف الليل لشخص يقف أعلى حافته فإما مريض أو عفريت؟
أغمض عينه لثواني فقط يتحكم بنفسه دون جدوى ورغم أنه يرتجف من داخله يقسم على ذلك لكنه صرخ بأعلى صوت حاقد يمتلكه :
" هزيم؟؟..."
تنفست بعمق مرير لصوته بعد كل هذه السنين لكنه تبع قوله بصراخ..
" أليس لديك ذرة احترام لمَ عليك الانتحار في هذا الوقت المتأخر ؟"
أصابت الصدمة قلبها والتفت برأسها له بذهول مما يهتف نظرت لوجهه وصرخت بع :
" سأرمي نفسي  من هنا ؟!"
"هائل.. مكان هائل توقيت هائل.."
حاول أن يقترب فصرخت:
"لا تقترب سأرمي نفسي من هنا أقسم بربي.. لا أمزح.."
حك شعره بصبيانية :
"لا جريئة.. جريئة جداً يا هزيم هانم إنها المرة الثالثة لكِ على هذا الجسر بعد موت أبيكِ.."
هذا زاد من انفعالها هذا البرود الذي هو به وفي موقف كهذا ويذكرها بالمرات السابقة..!
فصرخت بصوت أعلى مقهور :
" أنا لا أمزح معك الآن "
"عامين وأصبح لسانك حاد وقليلة أدب أحسدك حقاً"
أقترب خطوة واحدة وهو يحدثها :
" ماذا سأسهل المهمة لكِ تريدين لقاء والديك حسناً لكن يحزنني أن أخبرك أنهما سيرفضان رؤيتك، كيف يقابلان ابنتهما التي لا تستطيع تحمل بعض المشاكل القليلة لذا قررت إنهاء حياتها بسهولة جداً.. "
" مشكلات قليلة..؟ "
تساءلت بقهر هل ما تعيش مجرد مشاكل قليلة..؟
" ماذا تعرف عني؟ "
ابتسمت باستهزاء وهي تنظر له تسأله :
" وأين كُنت؟! "
" أين كنت وكل تلك المشكلات القليلة تتمكن مني أيها الوغد؟"
نظر ثائر للواقفة أمامه ليست كما عادها مؤخراً تخلت عن حجابها وشعرها يصل أذنها وغرة تنزل على عينيها هناك شيء تغير بها وكأنها أخرى ..
شعر بقليل من تأنيب الضمير،
إنه منذ سلمها لعمتها ولم يسأل عليها غير كل عدة شهور عديدة يكلمها مكالمة قصيرة لا تتعدى الدقائق سائلاً عن حالها وتجيب باقتضاب هي الأخرى أنها بخير ومنذ حادثة قائد نساها تماماً أو تناساها ..
مسك الحاجز سائلاً إياها :
"ماذا حدث لك ؟ أي كان يمكننا حله سوياً لقد عدت إلى السويد بلا رجعة  "

لم تجبه وغصة تقف بحلقها، غصة مريرة ويد مرتعشة وعين تزوغ فعرف أنها ليست على ما يرام، ليس قرار متهور من مراهقة صعبة المراسم..
مد يده لها ولم يستطع إخفاء قلقه الذي تمكن من داخله رغم البرود الذي يظهره وبصوت عميق دافئ هتف بها..
" انزلي "
أغمضت عينها وهي تهتز..
"لن يتغير شيء، لا أستطيع ولن أتحمل لن أتحمل أنا أموت كل يوم"
توقفت دمائه في عروقه عن السريان لبرهة ثم ضخت بعنف برأسه فأحمر وجهه وبرزت عروقه معتقداً أن مكروه أصابها :
" ما الذي تتحدثين عنه؟"
نظرت له بعين ثائرة متهمة عنيفة :
"هذه المرأة وهذا الرجل الذين ظهروا في جنازة أبي وأدعوا حبهم ورغبتهم في تولي أمري لا أريد أن أعيش معهم من اليوم"
هتف بصوت قاطع :
"انزلي وأخبريني عن كل شيء بهدوء.. "
"لقد تركتني لهم بسهولة وانسحبت من الساحة تماماً لم يعد لديك الحق لا أنت ولا قائد اللعين"
التفت تنظر له بعين واسعة تلمع بالدموع :
" أذهب أنت عني "
أقترب منها برفق ولين رغماً عنه يخبرها مبتسماً:
" اليوم عيد ميلادك.."
شهقت تبكي بقوة فمد يده لها
" هيا يا هزيم.. تعالي "
نظرت أمامها تهتف به
" لن تعيدني لعمتي.. "
أجابها بصدق
" لن أفعل.. "
" عليك الموافقة على ثلاث أشياء.. لن أنزل دون موافقتك عليهما ووعدك لي بهما "
ابتلع ريقه ببطء وبصبر طويل..
" سأفعل كل ما تريدين.. "

"أولاً أريد منزل خاص لي بمفردي.."
نظرت له فأخرج من جيبه مفاتيح ومد يده بها..
" سأعطيك منزلي.."
" أريد عمل.. لا أريد أن يذلني أحد بمصروفي أنا بحاجة للمال.. "
"سأبحث لكِ عن عمل.. انزلي فقط "
نظرت له بحزم :
" لم انتهِ "
رفعت رأسها بحركة معتادة وهي تأمره :
"أريد رجل يتزوجني.. "

ربما يستطيع أن ينزع حذائه ويضربه بها أو أن يلقيها من فوق هذا الجسر بسهولة ويخلص منها..
" رجل "..!
لا يصدق تلك الجرأة..؟
" هذا أهم وعد في الثلاث شروط أريد أن تجد لي أحد يتزوجني مللت من الوحدة وعدم الأمان.. "
هز رأسه يخفي ما بداخله رغبة عارمة بضربها.. ماذا لو لم تكن في هذا العمر... وتريد زوج؟
إنه يعرف أنها متهورة عنيدة صعب التحكم بها لكن تلك الجرأة من أين لها بها ؟
مد يده بصمت يعدها بصدق :
" أعدك أن أنفذ لك الثلاث شروط.. "
وحين لمحت بعينيه الصدق وضعت يدها التي كانت تماثل قطعة ثلج وساعدها على النزول ببطء..
وضع يده على صدره أخيراً يلتقط أنفاسه التي سلبتها تلك اللعينة..
نظرت لثيابه الغير مهندمة ملابس نوم إنه حتى لم يلبس شيء في قدمه؟
ابتسم بشراسة :
"مرحباً يا بنت عمتي الحقيرة الصغيرة"
صرخت به وقد ظهر على حقيقته وعاد لعنفه :
" لا توبخني لقد وعدتني.."
كانت عينه بالشر الكافي الذي يجعلها تصمت عن أي فعل متهور ورفعت يدها بمفاتيح منزله..
"وصلني للمنزل أنا متعبة وبحاجة للراحة"
وعد بداخله يتمالك أعصابه بصعوبة..
" مومو.."
نظر لها حين التقطت دمية كبيرة من الأرض تحضنها..
" هذا مومو صديقي.."
يجن..؟
يحق له أن يصاب بالجنون بسببها لقاء لم يتعدى عشر دقائق وفقد هدوئه وأعصابه ماذا عن عمتها المرأة تستحق جائزة على احتمال هزيم كل تلك المدة ..
ركبت السيارة تحضن دميتها فضرب الباب خلفها بقوة ثم ركب وهو يخبرها.
"تمثيل جيد جداً أدعو أن يبارك لك الله على موهبتك العظيمة"
"لا تستفزني إذا ستبدأ سأنزل الآن"
"حاشا لله يا ست هزيم حاشا لله"
"الآن أخبريني بكل شيء منذ تركتك لعمتك حتى وصولك أعلى جسر"
وكأن الكلمات وقفت بحلقها هل كان ما مرت به صعب لتلك الدرجة التي تجعلها عاجزة أن تحكي له؟
حتى أنها تشعر بالخزي لتخبره عن محاولة زوج عمتها الليلة التي أسفرت على محاولتها لإنهاء حياتها..
" ليس الآن أنا متعبة.. "
" في أي صف دراسي أدراسي"
" لا زلتِ في العام الأخير من الثانوية"
"منذ ثلاث سنوات وأنت في العام الثالث؟"
"لماذا تستمر بالكلام أخبرتك أنا متعبة.."
نظر لها بقوة وأكمل بصمت تمام قيادة السيارة حتى وصل للمنزل هتف بها..
" سأبدل ثيابي واترك لك المنزل حتى الصباح لدينا حديث طويل.."
هزت رأسها ودخلت خلفه تجلس على الأريكة بالدور الأسفل دقائق قليلة ونزل يرتدي ثيابه..
دعاها للمطبخ فجلست على طاولة الطعام وأخرج من الثلاجة طعام لها رصه أمامها..
" المنزل آمن لا يستطيع أن يدخل أحد.."
أخذت نفساً عميقاً..
"حسناً.."
ودعها للمرة الأخيرة وخرج يغلق الباب خلفه..
أما هي فنظرت للمكان الأنيق حولها خلعت حذائها ونامت على الأريكة تحضن مومو بقوة..
" أخيراً .."
***********
في الصباح الباكر البرودة شديدة والشمس تختبأ خلف الغيوم، هنا الجو في الغالب بارد وفي الشتاء يكون قارص، خرجت ترتدي ثيابها المعتادة الغريب أنها رغم أن ما قضته بوطنها أعوام قليلة جداً لا تفلح في تذكرها وهاجرت لهنا برفقة أمها ألا أن أمها القوية رغم أنها ليست عربية صممت أن تنشأ سورينا بهوية عربية إسلامية فأودعتها في مراكز إسلامية  قليلة العدد هنا لتتعلم أمور دينها وحاولت أن تتعلم اللغة العربية كثيراً فلم تبرع بها
احتفظت بداخلها بهويتها العربية بثيابها بحجابها وبصفاتها
غرفة كانت مخصصة للتخزين سابقاً .. فراش بسيط هذا كل ما تحتويه .. ابتسمت تخرج ثيابها ترتدي إياها ..
نظرت حولها الغرفة نظيفة ولا يوجد فيها تدفئة مركزية..؟ لا بأس أخرجت من الحقيبة السوداء غطاء وردي صغير يبدو لطفلة احتضنت الغطاء بقوة وضعته على أنفها تتأوه..
"ستدفئني أليس كذلك؟"

جلست على الفراش تتذكر ما حدث لقد تزوجت من قائد الصياد لقد صكت اسمها على ضحيتها بشهود أقاربه..

" لا بأس سيصبح كل شيء بخير هذه بداية الطريق يا سورينا، إما الموت أو الحياة.. "
فتحت هاتفها وضغطت على زر تسجيل فيديو بحركات يدها تترجم ..
"سامحيني يا ماما لأنني تزوجت دون أن تكوني بجانبي لكن أعلم أنك لم تكوني لتوافقين.. لا تخافين سأعود قريباً ما أن أنهِ ما جئت لأجله، إذا حدث اي شيء اتصل بي أنا بخير لا تقلقين تعلمين ابنتك كم تكون قوية ..  "
وحين انتهت ضغطت زر إرسال
خرجت تتمسك بحافتي سترتها الثقيلة
" إلى أين العزم؟؟"
أتى صوت قائد العنيف من خلفها فما إن لمحها تخرج من النافذة العلوية حتى هرول ينزل..
استدارت له تخبره بهدوء :
" للعمل.. لن أتأخر "
أقترب منها على مهل وتستطيع سورينا قراءة الشر بعينه بسهولة شديدة لأنه منذ اللقاء الأول كانت عينه شفافة للدرجة التي تستطيع بها قراءة الكلمات قبل أن ينطقها..
" لا أحب تلك الثرثرة لذلك لا تعتادين على سهولة الحديث معي.. ثانياً لا يهمني إذا عملت في الجحيم أو لا هل تفهمين؟"
أومأت برأسها بصبر شديد وسألته :
"هل يمكنني الذهاب؟؟"
نظر إليها بكره شديد وغادر دون أن يجيبها فتنهدت وغادرت المكان..
في الداخل جلس على المقعد بغضب يعميه واتصل على..
" تعيش حياتها تلك القاتلة اقسم أن أفسد عليها روحها "
أتى غامد .. فأمره قائد :
" أذهب خلفها أعرف لي أين تعمل وكل ما يخصها في هذا العمل بسرية تامة احذر أن تعرف.. بل أريد أن أعرف كل ما يخصها "
" حسناً سيتم الأمر كما تريد يا سيدي"
***************
جلس ثائر وقائد بجواره..
" إذن ماذا سنفعل معها؟"
هتف ثائر يضع يده على خده..
" تريد منزل بمفردها.. وأعطيتها مفاتيح منزلي وإلا كانت سترمي بنفسها من فوق الجسر.. وأنا أصبحت مشرد.. "
عنفه قائد :
" هل صدقتها أليست تلك المرة الثالثة لها تهددنا بالانتحار من نفس الجسر"
" لم تبدو لي أنها تمثل تلك المرة.. ترفض تماماً فكرة العودة لعمتها وترفض أن تحكي شيء.. كل ما تقوله ليس الآن أنا متعبة .."
أخذ قائد نفساً عميق بينما وقف ثائر يسترسل في الحديث..
" لم تتخرج من الثانوية بعد وخلعت رداء شعرها وقصته وتمسك دمية غبية مثلها وكأنها في عمر العاشرة.. "
نظر فجأة لقائد يكمل غير مصدق للآن :
" تريد رجل تتزوجه لقد أمرتني أنا بالبحث عن رجل لها وجعلتني أعدها بذلك.. "
نظر له قائد بصدمة هاتفاً :
" ماذا ؟؟؟؟؟ تلك اللعينة من سلالة الحمير تريد أن نكسر لها رأسها.. "
هتف ثائر يندب حظه :
" لقد هبطت على رأسي كالمصيبة كيف سأتولى مسئوليتها.. لماذا يا الله ولدت في عائلة لديها المرض النفسي متوارث ولسوء حظي أكون أنا طبيب نفسي بها.. "
نظر له قائد يرفع حاجبيه.. سأله ثائر :
" ماذا سنفعل معها..؟"
" دعها بمنزلك حتى تهدأ وتحكي ماذا حدث.. ومساءاً نذهب لعمتها نعرف المشكلة.. لا يعقل أن تعيش بمفردها "
جلس ثائر يهتف..
" لقد وعدتها ألا تعود لعمتها.. سأتركها حتى تهدأ تماماً بعدها نتحدث ثلاثتنا كعاقلين ونجد حل وسط "
*********

دخلت غسق القصر الضخم بقلب يقفز لكن رغم كل شيء كانت قوية برأس مرفوع لا يستطيع أحد أن يكسرها أو يجعلها تنكسه كما قال شهاب – هي مدينته الشامخة – ومن خلفها يقف شهاب مواجهاً لأمه.. .. أبيه حمدان.. جده.. ثم قوت..!
الجميع يتطلع إليها بعين فضولية واقتربت أمه أما قوت فتقف بالخلف جامدة مصدومة..
أبيه يستطيع أن يقرأ من علامات وجهه غضبه المخيف وجده سلطان كالعادة لا يستطيع أحد أن يتكهن بما داخله..
" غسق الغناتي.. ستكون زوجة شهاب الجديدة.. سيأتي أبيها بعد قليل لعقد كتابها.. لا أريد أي سؤال عن أي شيء.."
نظر لهم جميعاً ثم ابتسم بكره لغسق يكمل :
" رحبوا بالعروس.."
ورغم كل شيء لم تنهار لم يبدي على وجهها أي انفعال كانت تحدث نفسها "سيأتي أبي.. سيأتي أبي"
واقتربوا منها وشهاب كان خلفها وداخله رغبة تناجي في هذه اللحظة أن يمسك بيدها يدعمها أو يفر بها لكن أي من الخيارين كان محال وهو أكثر من يعرف حكم عائلة فيان لا مفر منه..!
تعرفت على جميعهم ورغم الفضول والصدمة الظاهرة على وجههم والتي يتلاعب بها لسانهم دون قدرة على السؤال رحبوا بها حتى أتى الدور على قوت وبعينها استطاعت أن تعرف جيداً هويتها..
"أنا قوت..... زوجــ... ـة
زوجة شهاب "!!
لم تُصدم بما سمعت فقد عرفت من محمد أخيها أن متزوج ولا يهمها الأمر سوى كان متزوج أم لا هي سوف تهرب من تلك العائلة المقيتة ...
سلمت عليها غسق باليد واستطاعت أن تعرف ما يجول بداخل تلك المرأة ضعيفة البنية جيداً من رجفة يدها وبرودتها الشديدة وشحوب وجهها وأنفاسها التي ستتوقف وكأنها مهزومة، لكنها لم تهتف بكلمة واحدة؟
كلمة اعتراض واحدة وقد دخل زوجها بامرأة أخرى يهتف أنه سيعقد عليها وترحب بها العائلة وهي خرساء عن النطق..!!
أي امرأة تلك وأي عائلة تلك ؟
نظرت غسق لشهاب ثم لها وأتت صدمتها القاضية حين هتفت تلك المرأة بحروف مرتجفة والدموع تتجمع بعينها :
"مبارك يا شهاب.."
هل يريدون أن تجن..؟
هل تبارك له حقاً ..؟
وفي تلك اللحظة سمحت لنفسها بقليل من القلق والخوف ، أي أناس وقعت بينهم أي عائلة تجعل النساء مستسلمات خاضعات هكذا، إذن ماذا سينتظرها هنا وهي بكل هذا التمرد والقوة والطاقة؟
خافت قليلاً وهي تحدث نفسها كي تهدأ
" لحظات يا غسق وسينقذك أبيك"
ثم كان صوت شهاب :
"اصعدي لغرفتك يا قوت لنا حديث آخر"
ثم نظر لامرأة لا تعرفها هاتفاً :
" خذي غسق لغرفة الضيافة كي تستريح قليلاً"
نظرت له غسق نظرة قاتلة قطعتها التي هتفت
"تفضلي يا سيدتي"
ذهبت معها صامتة لم تهتف بحرف..
دخلت الغرفة التي تدعى" غرفة ضيافة " تحدث نفسها من هول الترف حولها إذن كيف هي باقي الغرف؟
وتركتها المرأة كي تستريح لكن من أين لها الراحة..؟
جلست على الفراش تسند رأسها للخلف بإرهاق لا تريد التفكير عما حدث وعما سيحدث ليأتي أبيها فقط...
..
أما شهاب فالجرح فوق قلبه يحرقه ودله قلبه على المكان الوحيد الذي يستريح به بيت الشيخ بيت صغير من الطوب اللبن بسيط المظهر يدل على حال صاحبه وبالخارج استراحة يجلس شهاب عليها وبجواره رجل كبير السن يقطب جرح غائر موضعه فوق القلب مباشرة، والآخر غارق في السماء ونجومها وقمرها المكتمل.. ووجه يشبه هذا الجمال..!
حدق به الرجل وهتف بفطنة :
"ما هذه إلا طعنة مُغرمٍ..! "
تحركت جفونه واهتز بؤبؤ عينيه لوهلة وتنهد هاتفاً بابتسامة :
" رمتني بسهم قاتل يا شيخ"
"أخيراً وقع سيد الجزيرة في المصيدة.."
نهض شهاب واقفاً بطوله الشاهق هاتفاً
"لا أصدق أنني اتسامر معك بينما تنتظرني حرب هوجاء في المنزل"
"أدر كل شيء بعقل وحكمة "
قبل شهاب رأس شيخه يبتسم :
"كما علمتني قديماً يا شيخي"
بينما يغادر خرجت أمامه فاطمة ابنة الشيخ صاخبة الخمسة عشر عاماً
" سيد شهاب.."
توقف يستدير لها
"مرحباً يا فاطمة كيف حالك.. "
أخفضت رأسها باحترام وخجل تهتف
" أنا بخير.. أرجوك جد لي مكان في فيان إنها أمنيتي منذ الصغر"
لاحت ابتسامة على وجه شهاب لتلك الصغيرة
"أعدك في أقرب وقت"
تهللت أسارير فاطمة ونظرت له حتى غادر بفخر وقفزت كالصغار ستدخل قصر فيان هذا حلمها منذ زمن عندما تخبر باقي الفتيات لن يصدقن بل سيحسدونها..
****

حين دق الباب نهضت بفزع، فُتح الباب وظهر كل أمانها من خلفه هرولت تمسك بملابس أبيها بفزع ولهفة :
"أبي.. أبي الحمد لله أنك أتيت.."
رفعت رأسها تنظر لوجه أبيها الحبيب :
"أبي خذني معك لنذهب من هنا أرجوك لا تعرف ما حدث لي هنا ولا ماذا يريد هؤلاء الناس أن يفعلوا بي يريدون أن أتزوج من قاتل أخي أو يرموني بالسجن..! "
أجلسها أبيها على المقعد وجلس بجوارها بهدوء فهتفت غسق بثورة :
" محال أن أتزوج من هذا الرجل قاتل أخي ومن الجزيرة وأنا ما عشت هنا ولا أعرفهم"
هتف بها بغضب وتأنيب :
" لماذا فعلت ما فعلت يا غسق.. لماذا رميت نفسك للتهلكة يا ابنتي.. ؟؟"
صمتت تغمض عينها..
" لم أستطع يا أبي.. أخي سُلبت منه حياته والقاتل أصبح حر طليق يتنعم بالحياة؟؟ والقصاص حُل يا أبي.. "
" سبق وحذرتك يا غسق ليست عائلة فيان بقليلة.. جزيرة السلاطين يهابها الجميع.. وهذا الرجل الذي تريدين قتله سيد تلك الجزيرة وابن فيان انظري لحالك الآن .."
وقفت غسق تهتف به بقوة :
" سترفض يا أبي أن تشهد على العقد ونذهب من هنا رغماً عن أنفهم.. "
نهض أبيها يخبرها قراره الحاسم بعد جلسته مع كبير السلاطين :
" إن زواجه منكِ هو السبيل الوحيد لنجاتك، لست أنا من ذهبت إليه في جحره وأشهرت السكين بصدره أنت من بدأت الحرب يا غسق.. سبق وحذرتك فتحملي نتيجة خطأك "
انتفضت تدور حول أبيها تسأله بصدمة بلغت من روحها تضرب على صدرها :
" لقد قتل أخي.. قتل محمد ابنك كيف تأمن عليّ معه؟؟ "
" المحكمة أصدرت براءته وأنتِ تعلمين لكنك لا زلت في ضلالك الأعمى "
ثارت بجنون :
" أي محكمة مضلة تلك.. أنا رأيت بأم عيني رأيته قاتلاً رأيته وهو يغرز السكين بظهر أخي..!!"
صرخ بها أبيها بوجه أحمر وقد قست ملامحه:
"ماذا بيدنا أن نفعل نحن هل نصبح قتلة مثله؟؟ أنتِ لا تعلمين أي شيء مجرد متهورة ألقت بنفسها في الهلاك
من أين جئت بتلك الجرأة بحق ربك كيف ترفعين السكين بوجهه؟ انظري ماذا فعلت بنفسك كيف أخرجك أنا من تلك المصيبة أخبريني؟؟.. لن أستطيع إنقاذك ولا أي أحد "
الآن حقاً تستطيع أن تقول
"سقطت أوراقي، وبتُ عارية "
كانت صدمتها أكبر مما تستطيع أن تصف أو تعبر عنها بالكلمات أو البكاء!
وأستدار أبيها ينوي الرحيل فهتفت تلقي آخر ورقة لو فقط ينظر لعين الطفلة التي تستنجد به لعين غسق ابنته التي تنتظر أن يمسك بيدها ويغادر بها من بينهم حتى لو قاتلوهم.. صرخت به :
" إذا غادرت الآن يا أبي فأنسَ أن لك ابنة تدعى غسق لن أسامحك لن أنظر بوجهك ولو كنت على فراش الموت "
" سبق وتخليت عن ابنة لن تكوني الأولى"
كان قاسياً فوق ما تخيل ضرب بكل ما بداخلها بعرض كلماته، نعم تخلى عن ابنة ليعيش معهم تخلى عن أخرى واختارها هي ومحمد وأمها؟
إذن ماذا يحدث الآن لماذا يتخلى عنها هي الأخرى لماذا يثبت لها أنها مثلها مثل غيرها لقد كانت تشفق على سورينا حين تضع نفسها مكانها ؟
أرادت أن توقفه تهزه تصرخ به،
لكنه يريد أن يذهب دون أن يحضنها دون أن يخبرها أنها ستكون بخير دون أن يلقى عليها نظرة وداع واحدة ؟
كان هذا أكثر ألماً وقسوة مما تمر به،
لقد تخلى عنها جردها من أمانها وأمالها كان خاضعاً مستسلماً لقدرها فماذا كان المقابل ؟

ودخل شهاب عليها حين خرج أبيها سمع جملتها الأخيرة وكما قال :
" الخائن محروم من مدينة غسق وأبيها أصبح خائناً في عرفها"
هتفت له بوعيد ولا زالت روحها تنزف:
"أنت تعلم أنه لوقت قليل فقط وسأهرب منك لكن قبلها أعدك أن أجعلك تكره اليوم الذي فكرت به بقتل أخي واليوم الذي تجرأت به لطلبي أنا لك"
وكان جوابه:
" كلما سنحت لك الفرصة اهربي يا غسق..
الآن سننزل نعقد أبيك سيكون وكيلك، لمصلحتك أنتِ لا تفتعلين مصيبة.. الجزيرة كلها خاضعة للسلاطين فلا مفر لكِ منها.. "
نظرت له بكره صدرها يهبط ويعلو كما لو كانت بسباق،
" ستندم بطريقة لا يتخيلها عقلك الآن بات ثأري مع فيان والسلاطين لن أخرج من هنا قبل أن أهدم المعبد على ما به "
تركته وغادرت لمصيرها يريد الزواج منها حسناً ليفعل ليدخل بحياته أفعى سيكون هو أول من تسمه.. ونظر بأثرها لدقائق عديدة قبل أن يذهب خلفها داعياً الله ألا يحدث شيء لها ..
******
في السويد يقف غامد أمام قائد هاتفاً:
"إنها تعمل في مكتب محاماة كبير منذ خمس سنوات منذ عامها الأخير بالجامعة ، ناجحة كمحامية بدرجة كبير تفوق عمرها وتحب عملها جداً ومعروف عنها أنها تتولى حماية موكليها وليس فقط الدفاع عنهم، قضت عام بالسجن بسبب حادث السيارة الأخير وخففت العقوبة لنصف عام لحسن سلوكها ودفعت كل ما تملكه بهذه القضية لأجل خروجها، تطلقت بعد خروجها من السجن وتعيش في شقة صغيرة في مدينة اوميو مع أمها الغير عربية لكن أبيها عربي مسلم، هذا كل ما استطعت معرفته من رجل يعمل معها في المكتب"
رجع بظهره للخلف ينظر للفراغ بملامح جامدة لم تبدو له بتلك السهولة.. امرأة ناجحة.. قوية.. مستقلة..
وكانت متزوجة أي حياتها كانت كاملة ما الذي جعلها تلقي بنفسها بطريقه؟
" عندما تعود أخبرني قبل أن تدخلها من البوابة "
" أمرك..  "
****
لم يكن بالوقت المتأخر حين عادت تحمل حقيبتها الظهرية بها  حاسوب شخصي للعمل وبعض المتعلقات الشخصية.. اوقفها غامد على البوابة وقبل أن تسأل لمحت قائد يقترب وهي لا زالت خلف البوابة تقف في هذا البرد يمنعوا دخولها.. تساءلت بغرابة :
" ماذا هناك؟؟ "
" من سمح لكِ بالخروج صباحاً؟؟"
سألها بنبرة غاضبة فصمتت ولم تجيب لقد وقف معها صباح اليوم وحدثها هل يتناسى أم نسى بالفعل.. فأردف قائد بغل..
" أنتِ هنا كالعبيد وليس لتعيشي حياتك كما تشائين هذه البوابة لن تخرجي منها دون إذن مني..!"
هتفت له ببساطة:
"حسناً "
"لتعلمي أنني بعلاقاتي سأجعلك تُطردين من العمل وسأجعلك تتسولين انتظري فقط وستري بعينيك "
أخذت أنفاسها لعدة دقائق وهتفت..
" افتح لي .. من فضلك"
" لماذا ؟؟ "
اعتقدت للوهلة أن هذا مزاح لكن وجهه كان يسأل حقاً، فأجابت وهي تخفي المرح بداخلها رغماً عنها..
" لأنك تزوجت بي أمس..  وهذا المخزن الذي يعتبر غرفتي به أشيائي"
إنها صبورة بطريقة تدعي للجنون.. تسايره.. والأغرب أنها مندمجة معه ولا تفعل ما تفعله مجبرة ؟
" هل سترحلين؟؟ "
" لماذا أرحل ؟؟ .. أنا لن أستسلم.."
" من أين ستأكلين لن أطعم قاتلة بأموالي.."
" سأتسول بعد أن أطرد من عملي بسببك أنت أخبرتني بهذا.. "
هذا أصابه بالغضب فأدار ظهره ينوي الرحيل فهتف غامد من خلفه..
" افتح لها أم لا.. ؟"
كانت إجابته إشارة بيده غير معلومة لكن غامد هرول يفتح لها البوابة وهو الآخر يكتم بداخله الضحك..
" يا مرحباً.."
هتفت سورينا له بمشاغبة..
فأخبرها :
" ادخلي بسرعة قبل أن يخرج وقد وسوس له رأسه بمكيدة أخرى"
هرولت وصدقته.. استدار غامد ضاحكاً :
" لقد قلت أن تلك الفتاة ستبعث الحياة للقصر.. لأتخيل كل يوم عرض مثل هذا بينهما بعد أن كان قائد يحبس نفسه بالأيام بداخل القصر .."
عادت سورينا بسرعة تهمس لغامد :
"سيأتي رجل توصيل الطعام.. خذ منه الطعام بسرية تامة "
أومأ لها ضاحكاً فهرولت تدخل غرفتها
****
في غرفتها بقصر فيان بالجزيرة
منذ صعدت وهي على وقفتها العاتية، تريد أن تضحك بقوة وبجنون لقد تركها أبيها لهم؟
تتماسك بكل ما تملك،  وتهتف لنفسها أنتِ قوية ستنقذين نفسك لست بحاجة لأحد ستهربين عاجلاً أو آجلاً..
دخل شهاب خلف جده الغرفة بسرعة، لا يعلم بالضبط ما برأس جده حقاً وماذا يفعل؟
وقفت غسق تتأهب لهما حين دخلوا خلف بعضهما فاقترب جده منها عينه النافذة الضيقة بعينها الحارقة :
"مبارك يا عروس "
لم تجيبه غسق لكن نظراتها القاتلة كانت كافية وهي تلقي سهاماً نارية لكلاهما، لم يكتفي جده بل هتف بصوت منتصر :
"أصبحت زوجة قاتل أخيكِ" 
صرخت بجنون لهذا العجوز اللعين بأعلى صوت تملكه:
" لا تستفزني "
وخرجت الابتسامة المقيتة ثانية رداً عليها وغادر حينها استدارت لشهاب الذي كان ينظر لجده بذهول إنه حقاً يستفزها ؟
" هذا العجوز إن لم يكف عما يتفوه به سأقتله "
زجرها هاتفاً :
" تأدبي يا غسق إنه كبير السلاطين.. إياكِ والخطأ به.."
تنفست بعنف وضربت الأرض بقدمها تقف أمام الشرفة الخارجية الضخمة لا ترى سوى السواد حولها، أغمض شهاب عينه ينظر لظهرها لقد باتت امرأته، امرأته هو قلبه سيغادر في التو واقعاً تحت قبضتها، وعلى الرغم أنهما تحت نفس السقف بغرفته كما تخيل عشرات المرات ألا أنه يدرك أنها بعيدة ملايين المسافات عنه في تلك اللحظة..
اقترب منها يحاول ملامستها من الخلف مغيب بعاطفته القوية نحوها :
" غسق.."
واستدار تدفعه بوحشية صارخة بحسيس :
" في اليوم الذي أدعك تلمسني به سأكون جثة"
وبنبرة أقوى وصوت قاطع :
" أخرج"
ردت عليه بصوتها القاطع، و استدارت له تهتف به بصوت متقاطع وكأنها تكتم ملايين الصرخات :
" أخرج لا أحتمل.. لا وجودك.. ولا صوتك.. ولا النظر بوجهك الخائن لا أحتمل"
غاضب وحانق عليها وحزيناً لأجلها سعيداً لقلبه أنه سيراها كل يوم:
" لن أخرج"
" سيكون عليك تحملي فقط للصباح وسوف أغادر.. سيكون عليك تحملي كثيراً يا غسق"
دون أن تجيبه سحبت غطاء خفيف وخرجت للشرفة الخارجية التي تطل على شجيرات الليمون وحولها الأشجار الضخمة كأنها تحميها وكان هناك مقعداً ضخماً جلست عليه تضم نفسها تنظر للظلام العاكف أمامها وتستمتع إلى أصوات الحشرات المرتفعة،
أما هو فخفف ملابسه وتمدد على الفراش دون القدرة على الاقتراب منها ثانية يكفي عليها ما حدث في هذه الليلة العصيبة وفي كل هذا تناسى ألم جرحه بصدره، وظل يراقبها كل رمشة عين منها.. وجاف النوم عينه فلم يكن ليترك فرصة النظر لها بهذه الحرية، وهي كانت وكأنها في عالم آخر لم تلتفت ولو لمرة له وكأنه ليس بالغرفة ومضى الليل دون أن ينام أي منهما هو في مراقبتها وهي في عزلتها.
،،،،،،
أتى الصباح بأسرع ما تخيلت سمعت صوت طرقات على الباب فنهضت تقف تنظر للباب..
" ابقي مكانك سأفتح أنا.."
لا تعلم متى بدل ثيابه بأخرى، كانت في عالم آخر منذ الأمس تخطط بداخل عقلها بالكثير مما سيحرقهم جميعاً، هتفت به بجمود :
" أريد هاتفي..؟"
أخرج من جيبه واحد جديد
" عليه الأرقام التي كانت بهاتفك السابق"
نظرت للهاتف باستهزاء تستفزه بالقول :
" هل هذا مراقب؟ تخاف لتلك الدرجة؟ "
أخذ نفساً طويلاً وحدثها بهدوء
" سأنزل للأسفل لا تخرجين من الغرفة حتى أعود"
أشاحت بوجهها عنه دون اهتمام لما يقول، أخذ شهاب نفساً آخر أكثر عنفاً وغادر يغلق الباب من الخارج عليها.
أما هي فجلست بسرعة تضغط على رقم تحفظه عن ظهر قلب انتظرت حتى سمعت الصوت الهديل الدافئ هتفت بصدمة متأخرة تصرخ :
"سورينا.. ؟.. لقد تزوجت..!.. تزوجت من قاتل أخي..؟؟ "
.....
نهاية الفصل

إذا كنت قاتلاً لا تحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن