الفصل العشرون

3.6K 129 11
                                    

**

الفصل العشرون

بطريقة ما تتغير الفصول وتمر الأيام والأسابيع والشهور كلمح البصر ومعها حرب من فوضى مشاعر فوضى كلمات فوضى ذكريات، ويأتي فصل جديد يحاول أن يخفي بداخله حزننا المرير لكنه لا يستطيع أن يمحِ هوة الفقد ومرارتها؛
لأن ندبات الفقد لم تنسى ولن تنسى بالأيام والسنين، يبقى أثرها بزاوية بقلبك مركونة، تقاذفها الذكريات الجميلة ويغالبك الحنين كل حين فترتسم على ثغرك ابتسامة تخالطها لمعة من الدمع من شوق اللقاء الذي بات مستحيل.
ربما لم يعودوا موجودون في دنيانا لكنهم سيبقون أحياء بقلوبنا للأبد، الموت لا يمكن أن يفرق أرواح تآلفت في دنيا البشر!.
..
ليلاً بوقت متأخر وأثناء نومها العميق على فراشه الدافئ كانت هناك يد تهزها:
" سورين.. سورين.. استيقظي رجاءً"
فتحت عينيها بنعاس تضع يدها على قلبها ونظرت لقائد تهتف:
"ماذا هناك؟؟؟ "
" لا شيء ايقظتك حتى تنامي بالداخل لأني أريد النوم بطرف السرير "
مرت عدة لحظات حتى تفهم ما تفوه به:
"هل ايقظتني لهذا حقاً!.. لا أصدق.."
أزاحها للداخل ببعض القوة عاقداً جبينه وتمدد بجوارها تحت أنظارها المذهولة من حركاته الغير ناضجة،
أخذت نفساً عميق واغمضت عينيها ثم هدأت وربطت شعرها المسدل وظلت تنظر له لثواني عديدة فتكلم مغمض العينين:
" ستظلين تنظرين لي للصباح؟.... نامي"
"أرغب بمعرفة لماذا ايقظتني حقاً؟ هل توقظني حتى تخبرني أنك تريد النوم مكاني؟؟ لا أصدق"
فتح عينيه واخبرها:
"اكملي لي الحكاية.."
رفعت حاجبيها وصمتت قليلاً ثم اقتربت منه بصوت مشاكس:
"لقد ايقظتني حتى أحكي لك من جديد أعترف؟ "
اشاح بوجهه فضحكت لا تصدق:
" يا الله"
وبانفعال يخبرها:
" لقد كنت ستسقطين من فوق السرير لا تنامين على الطرف ثانية "
استدار يعطيها ظهره فدق قلبها له ولحركاته التي تهاتف عاطفتها ابتسمت بحنان تخبره: " هل تتذكر السورة التي صليت بي بها يوم وفاة أمي "
نظر لها يجيب:" أجل.. كانت سورة الضحى "
فتبتسم تحكي له: "هل تعلم لماذا نزلت هذه السورة؟ "
هز رأسه بالنفي فأخبرته:
" انقطع الوحي عن النبي عليه الصلاة والسلام لفترة فذاع في المشركين أن رب العالمين استغني وودع الرسول فحزن حزنًا شديدًا لذلك أوحي الله له "ما ودعك ربك وما قلى "
أي أن رب العالمين لن يتركه ألم يأويك وأنت يتيم ولم يدعك للضلال فلسوف يعطيه ربه حتى يرضى!
حين قرأتها وأنا أصلي خلفك في هذا اليوم مست بقلبي أن الله لن يتركني أنا الأخرى فبكيت "
ابتسم متأثرًا يلامس وجهها بحب شديد فاقتربت منه تسند بيدها على كتفه تهمس له:
" سأكمل حكاية الفتاة أوتومن لك حتى تنام "
وأكملت حكايتها التي نام على نصفها الأول ليلة أمس، كان ينظر إلى وجهها بتلك الطريقة التي ترى بها الحب يخرج من عينيه نحوها وخوفه الشديد عليها وتكمل الحكاية بصوت شجي يتسلل لقلبه:
"اعتقدت الفتاة أوتومن أنها النهاية بقدوم هذا الفصل تشرين الأول الذي يدعوه الناس بالكئيب وسيقت لمدينة الأشجار والزهور بروحها الباهتة وجروحها المشوهة من الدنيا،
مرت من أول شجرة فتساقطت أوراقها كلها تحت قدمها وباتت الشجرة عارية فشهقت أوتومن لكن وجدت أن جرح الحب بقلبها قد دويّ، ودق قلبها أول دقة!
ثم مرت على الشجرة الثانية فتساقطت كل أوراقها هي الأخرى وباتت مثل قبيلتها ودويّ جرح الماضي ودق القلب ثاني دقة ونهضت روحها، فهرولت تمر على الأشجار كلها من شجرة لأخرى ومن دواء لدواء ومن دقة لدقة.
كل الأوراق تساقطت وكل الجروح شُفيت، ضحت الأشجار بأوراقها لأجل أوتومن التي استعادت روحها أخيراً ونبتت زهرة جديدة بأحشائها غير تلك التي ذبلت.
سمت الفصل بفصل الخريف الذي به تعتقد أنه النهاية فيفاجئك بالبداية خريف يعالج جروح الثلاث فصول.
ظلت الفتاة بمدينة الأشجار الضخمة تسكن بها حتى يأتي فصل الخريف فتذهب للدنيا تجمع الجروح من قلوب المساكين وتعطيهم ورود تداوي جروحهم هؤلاء محبي الخريف "
وتراخت عيناه حتى راح في سبات عميق دون أن تنته الحكاية حينها راقبته سورينا عن قرب  ورفعت أصابعها تلامس ملامح وجهه والعقدة التي بين حاجبيه وقلبها يدق لأجله وتهتف: " أنا محظوظة بحب رجل مثلك"،
*********
الليلة إجازة من العمل لكلاهما فكان قائد يجلس على الأرضية وحوله مجسمات صغيرة للسيارات يقوم بتركبيها، هذه هوايته التي اكتشفتها به إنه مهووس بكل شيء يتعلق بالسيارات، وفي غمرة انشغاله أتت له ومن ملامح وجهها المصدومة عرف ما ستقوله
"امسح ما كتبت بالتو يا قائد.. لا يعقل ما تفعله بي"
ورفع رأسه ببراءة يضع المجسم بجانبه وخلفه حائط به العشرات من هذه المجسمات
"نعم يا سورينا"
ويرتفع صوتها : "امسح تعليقك يا قائد الآن"
ويسند قائد على يديه للخلف يراقبها منفعلة خارجة من طور الهدوء
"ماذا به تعليقي؟... لماذا لا تعجبك كل تعليقاتي؟؟ "
انخفضت له تجلس القرفصاء تهتف بنفاذ صبر
"لقد كتبت مقال طويل عن أمي مؤثر ومبكي ثم أجدك تكتب لي هذا اقرأ بالله عليك وانظر إلى الردود عليه "
تردد له تقرأ ما كتب هو:
"أعتقد أنك لن تنسي أبداً نهاية هذه الليلة... لقد انتهت بطريقتي... فكلما تتذكري ليلة موت أمك ستبكين ثم تضحكين حتى تدمع عينيك"
تسارعت أنفاسها بتهديد وانفعال :
"امسح هذا"
كتم ضحكة كادت تخرج للعلن يغيظها:
" أليس هذه الحقيقة!! "
نظرت له بجدية:
" أنت حقاً تخجلني أرجوك احذف تعليقك يا قائد أنا لا أمزح"
أمسك الهاتف يطلع على ما كتب :
" الجميع رد على تعليقي ماذا كانت نهاية الليلة ومن أنت؟"
وتساءل ببراءة:
" ما رأيك أن اخبرهم يا سورينا؟؟؟"
"قائد لا تفقدني أعصابي سأحذفك من صفحتي"
"تجرئي وافعليها حتى اكتب لهم بالتفصيل ما حدث"
وأحمر وجهها من الغضب والخجل ونهضت واقفة وهي تزعق
" لا تكلمني لقد خاصمتك"
بينما يتابعها تذهب وتغلق الباب بوجهه بقوة حينها يبسم ضاحكاً يهتف بصوت عال:
"أحبك جداً وأنتِ غاضبة "
...
قبيل المغرب كانت بغرفتها تمتثل النوم حين شعرت به يجلس بجانبها ببطء وينخفض يقبل وجنتها هامسا:
" لقد حذفته.... لا تخاصميني.... أعلم أنك لست نائمة"
فتحت عينيها تنظر لوجهه المشاغب وتهتف
"تعلم أنني أخجل من هكذا أمور"
فيداعب وجهها وخصلات شعرها:
"أعلم"
تنهدت بعمق أخبرها:
"سوف اذهب لهذا الموعد المسائي مع مدير المعرض كما أخبرتك ادعي لي كما تفعلين في كل صلاة إنه يومي الأول به"
نهضت تجلس وتعانقه بقوة هاتفة بعاطفة لا تبخل بها عليه:
" سأفعل "
"إذن يمكنني المغادرة الآن وأنا مطمئن"
راقبته حتى غادر ونهضت تغلق الغرفة عليها خلفه
أخرجت قلمها تكتب في صفحة جديدة:
" قائد الصياد ليس مجنوناً فقط قد يوقظني في نصف الليل ويأخذني بجولة في هذا الثلج! ؛ بل في كثير من الأحيان يكون طفل يطالبني بالعاطفة والاحتواء وأحيان أخرى يعطيني هو كل الحنان ببزخ ممثلًا لي دور الأب الذي حُرمت منه والأم والصديق والحبيب والابن ، ممتنة له بكل ما أملك لم أعتقد أن وجود شخص مثله بحياتي يحبني بهذا القدر الجنوني ويحتويني في مصائبي قد يخفف عني عناء الألم بمفردي لأنه شاركني ألمي كما نتشارك الابتسامة،
لم أعتقد أن حبه لي سيسكن فاجعة موت أمي ورعبي.. لقد جعلني أبكي له وأصرخ جعلني أعترف بكل قهري ووحدتي في هذه الليلة ثم اسكنني بطريقته وللغرابة كان هادئ على غير المعتاد!
أعطيت الحزن حقه كان بجانبي لم يتركني رغم أنني ظللت أكرر أن يهجرني وبكل مرة كان يتشبث بي فأجاد قائد الصياد احتوائي. شتان بين حالي بعد فقد مارية وحالي بعد فقد أمي، وكل الفرق أن سحر الحُب أصاب قلبي"

إذا كنت قاتلاً لا تحب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن