25 26

129 10 0
                                    

فتـــــاة الربيع |💙🕊️
حلقة - 25 + 26 -

في جمعة المسيرة الموحدة وفي نفس ذلك اليوم وما أن حلَّ الظلام على سماء بغداد حتى صارت السيارات المظللة تحوم حول ساحة السنك والخلاني والوثبة والتحرير ولم يكن يُسمع عندها غير صوت رمي الإطلاقات النارية بشكل كثيف على الشباب المعتصمين ليستيقظ العراق على فجيعة أخرى بعد فجيعته بشباب الناصرية والنجف!!
صرَّح وزير الدفاع سابقًا وقبل إقالة الحكومة بأن هناك ( طرف ثالث) هو الذي يقتل الطرفين ( المتظاهرين وقوات الأمن) لكنه لم يصرح من هو الطرف الثالث!
كان مصطفى في ذلك اليوم موجودًا في بغداد إذ إنه لم يعد مع المسيرة وبقى مع بعض الشباب في ساحة التحرير ليرى بعينه تلك الفجيعة والمجزرة المروعة التي راح ضحيتها عشرات الشهداء..
كان ينقل الجثث من ساحة السنك إلى خيام الأطباء والمسعفين المرابطين في ساحات الاعتصام وهو يبكي ويردد بألم : بالروح.. بالدم.. نفديك يا عراق.
رأى بأم عينه سيارات مظللة كثيرة تحوم حول تلك الساحات وترمي بشكل عشوائي على المعتصمين! كان بقربه شاب يحمل راية سوداء كتب عليها ( لبيك يا حسين) وآخر بقربه يحمل راية خضراء كبيرة ويقف بوجه تلك العناصر المجهولة يرفرف بها أمامهم وكأنه يتحدى الموت! سقط الشاب الذي يحمل الراية السوداء فصار الجميع ينادي لبيك يا حسين!
ركض مصطفى باتجاهه ليحمله فإذا به يتفاجأ بأن الذي يحمل الراية الخضراء ينحني على ذلك الشاب المصاب ويحمله ويركض به دون أن يرمي تلك الراية الكبيرة من يده!
سقط مصطفى على ركبتيه وصار يصرخ ويردد : لبيك يا حسين! اتجه نحوه بعض الشباب وسحبوه إلى مكان آمن، لكن مصطفى كان في حال يُرثى لها..
كان ينادي بأعلى صوته وكأنه يريد أن يوصله إلى مدينته كربلاء حيث مرقد الحسين بن علي :
هؤلاء هم أنصارك الحقيقيون يا حسين، يحملون الراية بيد وينتشلون الجرحى المظلومين باليد الأخرى دون أن يتخلوا عن رايتكم الخفاقة..
هؤلاء هم أنصارك ومحبيك يا حسين.. الذين يقفون بوجه الظلم كما وقفتم أنتم بكل قوة وصلابة ، وليس أولئك الجبناء الأوغاد الذين يدّعون الإنتماء إليكم وهم منغمسون من رؤوسهم إلى أخمص أقدامهم بالظلم والدماء والقتل!!
********
نهضت ريحانة في تلك الليلة مرعوبة إثر كابوس مخيف، لقد رأت أن مصطفى عالق في طريق ضيق وموحش ومعه طفل يصرخ ويستنجد لكنها لا تراهما وتسمع فقط أنين مصطفى وصراخ الطفل!!
وعندما إتجهت صوبهما إعترضها كلب مخيف حاول أن يهجم عليها حتى لا تصل لمكان مصطفى لكنها كانت ترمي عليه الحجر تلو الآخر إلى أن ولى هاربًا فوصلت بصعوبة إلى ذلك المكان الموحش والضيق ، رأته أخيرًا وهو يحضن ذلك الطفل وقد فتر صوت صراخه بينما كانت الدموع قد غسلت وجه مصطفى!!
عندما إستيقظت كانت الساعة قد ناهزت الثانية ليلًا، تذكرت انها نامت منذ التاسعة مساءا بعد أن إتصل بها مصطفى ليخبرها بأنه سيقضي هذه الليلة في ساحة التحرير ببغداد!
تساءلت مع نفسها : هل يمكن أنه قد حدث شيء هناك؟ هل ممكن أن يكون شباب ساحة التحرير في خطر؟!
سحبت هاتفها وإتصلت بخطيبها لكنها تفاجأت بأن جهازه مغلق!! صارت أناملها تنتقل بين مواقع التواصل الاجتماعي وهي ما تزال ممسكة بالهاتف فصدمها تناقل تلك المواقع لخبر مجزرة جديدة حدثت هذه الليلة في بغداد!!
رمت الهاتف أرضًا ودون وعي صارت تلطم على وجهها وتصرخ : - يا إلهي.. مصطفى.. مصطفى!!
دخلت مروة الغرفة وقد أرعبها صوت صراخ ابنتها وهي تردد :
- إسم الله عليكِ يا حبيبتي.. ماذا دهاكِ يا روحي؟!
حضنت ريحانة أمها وهي تبكي وتنحب وتردد بأسى :
- مصطفى يا ماما.. إنه في بغداد!
- ولكن إهدأي يا حبيبتي.. سيكون بخير صدقيني.
- لقد حصلت مجزرة هناك يا ماما.. . قتلوا العشرات من الشباب المعتصمين، لقد رأيت مصطفى في منامي قبل قليل.. كان يستنجد ويبكي!!
بكت مروة هي الأخرى وساعدت ابنتها على النهوض، أخرجتها من الغرفة واتجهت بها صوب المطبخ..
اجلستها على الكرسي القريب من طاولة الطعام، ثم فتحت صنبور الماء وصارت تغسل وجه ابنتها بالماء البارد وهي تردد :
- سيحفظه الله من أجلكِ.. لا تخافي بُنيتي، ألم تقولي دائمًا بأنه هدية الله لكِ؟ أنتِ ما زلتِ بحاجته ولن يخذلكِ صدقيني.. سيكون قوي لأجلكِ أنتِ.. إطمأني!
- لكن يا ماما مصطفى يحب الشهادة، أكثر من مرة أخبرني بذلك! هو يتمنى الشهادة في سبيل الوطن، ماذا لو..
ولم تدع الأم ابنتها تكمل هذا الحديث الحزين، وضعت يدها على فم ريحانة وهي تضمها إلى صدرها بكل حنان :
- لا تتشائمي.. حبيبتي ،تفائلوا بالخير تجدوه، هيا قومي وتوضأي لتصلي صلاة الليل ولندعو معًا لمصطفى وباقي الشباب أن يفرج الله ما هم به الآن بحق فاطمة الزهراء عليها السلام ونحن نعيش ذكرى رحيلها في هذه الليالي الأليمة ..
توجهت ريحانة إلى سجادة صلاتها بعد أن أحكمت وضوءها، صلت الشفع والوتر من صلاة الليل ورفعت يديها للقنوت ودموعهما تسبق كلماتها :
إلهي بفاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ما أحاط به علمك وأحصاه كتابك فرج عنا يا الله.
***
في صباح اليوم التالي اتصلت ريحانة بتقوى بعد أن رأت أن هاتف مصطفى ما زال مغلقًا فما كان جواب تقوى إلا أن قالت :
- نحن أيضًا قلقين عليه كثيرًا ولا نعرف رقم أحد من أصدقائه! ما علينا إلا أن ننتظر ونفوض أمرنا وأمره إلى الله!
انتشر خبر غياب أكثر من عشرة شباب من ناشطي كربلاء كانوا قد ذهبوا في نفس تلك الجمعة إلى ساحة التحرير مع المسيرة الموحدة ثم لم يعودوا بعد ذلك إلى أهاليهم!
ضجت أهالي كربلاء بالدعاء لهم وتكثيف النشر الالكتروني للإعلان عن غيابهم والبحث عنهم وبعد أربعة أيام تقريبًا تم الإفراج عنهم وكانت ريحانة تتمنى أن لو كان مصطفى معهم لكنهم عادوا ولم يكن لخطيبها أي أثر بينهم!
ساءت حالة صفا كثيرًا وهي تبكي على ولدها ليل نهار ولا تهدأ لها دمعة حتى جفت دموع عينيها وشعرت بأن قلبها أصبح فارغًا إلا من ذكر مصطفى!
كانت كل من صفا وتقوى وريحانة تحاول أن تبدو أمامها طبيعية ليزدن من قوتها وعزيمتها وصبرها لكن الحقيقة أنهنّ كنَّ  أيضًا يشعرن بأن قواهنَّ صارت تضعف يومًا بعد يوم دون وجود أي أثر لمصطفى!
كن يرافقن عمه في البحث المتواصل دون جدوى..
كانت ريحانة تذهب كل يوم إلى مرقد سيد الشهداء وتمسك بالشباك الطاهر وتبكي وتتوسل بالله أن يكتب لخطيبها السلامة والعودة، عندما كانت تمسك بذلك الشباك وتقف تحت قبة الحسين عليه السلام مباشرة تتذكر كلام مصطفى وهو يقول لها : الدعاء تحت قبة الحسين مستجاب.
********
مضى إسبوع كامل على فقدان أي أثر لمصطفى وبالتحديد في يوم الجمعة 16 ربيع الآخر الموافق ( 13- كانون الأول) ذهبت ريحانة إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام ولتدعو لخطيبها بالخلاص والعودة ولتستمع إلى خطبة المرجعية من منبر الجمعة، وكانت هذه أول مرة تجلس مع المصلين وهي تستمع بلهفة :
أيها العراقيون الكرام..
إن أمامكم اليوم معركة مصيرية أخرى، وهي (معركة الإصلاح) والعمل على إنهاء حقبة طويلة من الفساد والفشل في إدارة البلد، وقد سبق أن أكدت المرجعية الدينية في خطبة النصر قبل عامين ( إن هذه المعركة ـ التي تأخرت طويلاً - لا تقلّ ضراوة عن معركة الارهاب إن لم تكن أشد وأقسى، والعراقيون الشرفاء الذين استبسلوا في معركة الارهاب قادرون ـ بعون الله تعالى ـ على خوض غمار هذه المعركة والانتصار فيها أيضاً إن أحسنوا إدارتها) .
************
بعد هذه الخطبة مباشرة عادت ريحانة إلى الوقوف تحت قبة سيد الشهداء عليه السلام ماسكةً بالشباك الطاهر وهي تتوسل إلى الله بهِ عليه السلام بأن يفرج عن خطيبها وعن كل العراق بعد أن أكدت المرجعية بأن العراق اليوم يخوض معركة الإصلاح ضد الفساد ووصفتها بأنها أشد وأقسى من معركتنا ضد الإرهاب!! كانت تردد وتبكي : إلهي بالحسين!
مضى أسبوع آخر وهي ما زالت تتردد على الضريح المقدس دون أي كلل أو ملل!
وفعلاً وكما كانت تشعر دائمًا بأن الله لن يخيب ظنها وسوف يستجيب دعائها ودعاء تلك الأم المسكينة صفا فلقد عاد مصطفى من غيبته التي دامت لأسبوعين كاملين بعد أن أطلق المجهولون سراحه وكان قد تعرض إلى مختلف أنواع التعذيب والترويع على أياديهم لأجل ترك النشاط الثوري!
رنَّ هاتفها النقال.. فتحته لتسمع صوت تقوى وهي تبشرها بعودة مصطفى!
لم تعرف ماذا تفعل للوهلة الأولى؟ هل تبكي أم تقفز فرحًا أم تركض لأمها لتبشرها أم تسجد لتشكر الله من أعماق قلبها على سلامة خطيبها وعودته إليهم حيًا يُرزق؟!
سجدت لله سجدة طويلة سالت فيها دموعها على الأرض وهي تردد : الشكر لله.. الشكر لله.
ثم اتجهت لغرفة والدتها وهي تناديها بفرحٍ غامر : ماما.. لقد عاد مصطفى.. عاد.. عاد!
إحتضنت الأم ابنتها وصارت تبكي هي الأخرى من الفرح وتشكر الله على هذا الخبر السعيد، ثم أسرعتا معًا إلى منزل مصطفى لرأيته..
وهناك صدمت ريحانة وهي ترى خطيبها بذلك الوجه الشاحب والجسم النحيل والعينين الغائرتين!
لم تتمالك نفسها! جلست بقربه وهي تبكي دون أن تعرف ماذا تقول أو تفعل؟!
أمسك مصطفى بيدها وهو يهون عليها ما ترى من أمره قائلًا :
- لا تخافي ريحانتي.. ما زلتُ بخير!
شعرت صفا بأن ولدها يريد أن يختلي بخطيبته ليبث لها ألم الفراق، أشارت إلى تقوى ومروة بالقيام وترك الغرفة لمصطفى وريحانة التي كانت شبه منهارة بعد أن صدمها منظر خطيبها وقد خطف الزمن لون وجهه وابتسامته الجميلة..
حاول أن يكون طبيعياً لكنه لم يقدر! صار يحدثها بما جرى معه كل هذه الفترة وكيف شاهد حادثة السنك المروعة ومن ثم معاناته على يد خاطفيه، كان يتكلم ودموعه تجري على خديه وهو يردد : روحي فداء للوطن.
صارت هي الأخرى تحدثه بما جرى في غيابه وما أصاب العراق من فتن رغم هذه الفترة القصيرة! وكيف أن المرجعية وصفت الثورة هذه بمعركة الإصلاح.. كما حدثته عن حادثة الوثبة المروعة وكيف قام الجهلة بقتل شاب من سكنة تلك المنطقة ثم قاموا بالتمثيل بذلك الشاب وسحله في الشارع وتعليقه على عمود كهرباء وسط حشود من الناس!!
كان يستمع والدم يغلي في عروقه، قال بعد أن توقفت ريحانة عن الكلام :
- حتى وإن كان فعلًا قد رفع السلاح ضد المتظاهرين فهل يرضى الدين والعقل والمنطق أن يفعلوا به هكذا؟!
قالت ريحانة وهي تحاول تهدأته :
- لقد كانوا حفنة من الجهلة لكنهم في النهاية شوهوا صورة المظاهرات السلمية وأحدثوا فتنة كبيرة وشرخ واضح بين أبناء الشعب!
- الفتنة.. نعم هذا هو المقصود! لذلك يا ريحانة تأكدي من أن هذه الحادثة لم تحدث إعتباطًا أو صدفة بل هي من فعل فاعل! وهذا الفاعل قد خطط لها وجرَّ الأحداث إلى ساحة الوثبة ليحدث ما يحدث وتتشوه صورة الشباب السلميين وأكثر ظني الآن هو أن من قام بحادثة السنك وقتل عشرات المتظاهرين هناك هو نفسه من أشعل الفتنة في ساحة الوثبة!
عادت دموعه تجري على خديه وهو يردد : أيجري كل هذا على أرضك يا عراق؟!
قالت له ريحانة محاولة زرع الأمل والقوة في قلبه من جديد :
- لا تبكي أرجوك، لقد مزقت نياط قلبي!
حينها صار يردد ذلك البيت الشعري الذي أحبه كثيرًا عندما قرأه للوهلة الأولى وهو الآن يشعر بأن كل ذرة في كيانه تردد تلك الكلمات :

‏لا تلمْ إن عيل صبري
أو ترى دمعي يُراق..

قد يهون الكون عندي
إنَّما.. هذا العراق!

#يتبع...💙✨

فتاة الربيع رويدة الدعمي حيث تعيش القصص. اكتشف الآن