الفصل الثالث والرابع

267 15 16
                                    

.........................

(( الفصل الثالث))

((طفلة جميلة لم تتعدّى الثلاث سنوات من العمر، تتسلّق شجرة زيتون مُعمّرة كبيرة، تشبثت بالأغصان الكثيفة المتداخلة ببعضها، ابتسمت هذه الصغيرة بانتصار طفيف وهي تمدّ يدها الصغيرة لتُمسِكَ غصناً تصله للمرة الأولى، وهناك أسفل تلك الشجرة وقف صبيٌ صغير، لم يتعدّى الثماني سنوات يصفق لها بتشجيع، اتسعت ابتسامتها السعيدة وهي تستمع لتشجيعه لها، نظرت اليه لتخبو ابتسامتها سريعا وهي ترى مكانها على عُلوٍّ شاهق بالنسبة إليها، باغتها الدوّار فجأة لتنزلق قدمها وتقع عن الشجرة، لتستقرّ بين ذراعيه ويضمها إلى صدره بخوف، ثوان مرّت حتى هدأت أنفاسه ،ثم رفع وجهه ليُطالع عينيها الزيّتونية وابتسم لها حتى ظهرت غمازتيه ، بادلته الابتسامة ذاتها وقبل أن يقترب ليُقبلها على شعرها الكستنائي سمعا صوت جلبةٍ خفيفة.))

انتفضتُ جالسةً بعد هذا الحُلمِ الغريب ، لم تكن تلك المرّة الأولى التي أُشاهدُه فيها ، ولكن هذه المرة رأيت وجه هذا الصبي الذي شجع تلك الفتاة ،ولا اعرف لمَ أحلمُ بهذا الحلم دائماً ، مرّت دقائق عدة حتى تذكرتُ مكاني أنا الآن في الجوّ، وهذا السرير الذي أرقدُ فيه هو سريري الخاص في طائرة والدي الخاصّة، عمار الفايد ، رجل الأعمال اللبناني الذي قضى جُلَّ عُمْرهِ خارجا ، والدي رجلٌ عِصامي، بنى نفسه دون مساعدةٍ من أحد ، كان يخبرني بكمّ الأعمال الوضيعة التي عَمِلَ بها حتى يؤمّنَ قوت يومه، وهو الشاب اليتيم الذي رباه عمه بعد وفاة والديه عندما كان يبلغ من العمر ثلاث سنوات في انفجار الفرن الخاصّ بهم نتيجة تسرّب الغاز فيه، ثمّ أتبعه ذلك وفاة عمّه عندما بلغ من العمر سبع سنوات، تشرّد بعدها في الطرقات والأزقة، حيث أن عمّه لم يكن يملكُ منزلاً ،بل كان يستأجر غرفة صغيرة لضيق ذات اليد في ذلك الوقت في لبنان، بسبب الظروف السياسية فيه.

دوماً كان والدي يُخبرني كيف استطاع جمع المالِ بشقاءٍ وكدٍّ ليُسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وهناك بدأ يعمل بعدة وظائف حتى إستطاع تأمين بعض المال ليفتح مشروعاً صغيراً خاصّاً به ،كان مشروعه عِبارةً عن محلٍ صغير في حيٍ فقير ،يبيع فيه التُحف زهيدةَ الثّمن ،أو مانسميها نحن بالأنتيكات .
وتدريجياً كَبُرَ عمل والدي وتوسّع حتى إستطاع افتتاح شركةٍ صغيرة لبيع التحف وتوزيعها،وصنع الاغراض التذكاريّة ، عَمل بجهدٍ جهيد حتى تحولت شركته الصغيرة تلك إلى شركات كبرى ، تتخذ أفرعاً لها في جميع البلدان، وأصبح والدي من رجال الأعمال ذائعي الصّيت، وها هو اليوم يعود إلى بلده الأم الذي رحلَ عنه منذ مايُقارب الثلاثون عاماً ،خرج منه مُعدماً فقيراً ،ليعود إليه اليوم رجل أعمال كبير له اسمه ومكانته العريقة، بعدما أسس فرعاً لشركته الكبرى هنا.

خرجتُ من غرفتي المخصصه في هذه الطائرة، لأجد أبي يجلسُ في كرسيّه،ماإن رآني حتى اتّسعت ابتسامته وهو يشير إلى الكرسي الآخر بجانبه قائلا: تعالي عزيزتي كنتُ على وشك إرسالِ أحدهم إليكِ لإيقاظكِ ،اجلسي هنا و ضعي حزام الأمان، نحن على وشكِ الهبوط.

أشلاء حيث تعيش القصص. اكتشف الآن