الشّعرُ والنّثرُ كلمتانِ حُبكتا على الدّوام سويًّا، لكن تواجدت عدّةُ فوراق تُميّزهم عن بعضهم بعضًا، فواحدٌ منهما ذو كلامٍ موزون مقفى يعرّفُ بالشعر، والآخر هو الحديثُ الحَسَن الذي لا يتقيدُ بقافيةٍ أو وَزن أثناءَ كتابته وهو ما يعرّف بالنّثر، ومقال اليوم سيضمُ الشّعر وما يخصّه فحسب بين سطوره.
والشّعرُ أيضًا لا يُقصد به توافق الحرف الأخير في الجمل أبدًا، فاتّفاقُ الحرف الأخير في الجمل وتناغم الجُمل سويًّا يُلقّب بالسّجَع وليسَ الشّعر، كما مثلًا مقولة «الحُرُّ إذَا وَعَدَ وَفَى،وإِذَا أعَانَ كَفَى، وإِذَا مَلَكَ عَفَا» وهنا قد يَحسب الكثير أنّ الجملة تنتمي لنِطاق لفظ «الشّعر» إلا أنّها فعليًّا لا تفعل ذلك وإنّما تُنتَسب لنطاقِ لفظ «السّجع»
إذًا فما هو الشّعر؟
الشّعر بحدِّ ذاتِه يعتبرُ نوعًا من الأدب، وقد عُرفَ منذُ عصور، وأبهرَ النّاس بمعانيه، وما هو غير معروف كثيرًا بالفعل هو أنّ هذا الأدب ليس نتيجة عن مشاعر، بل عن تجارب، فمع أنّهُ لا يوجد تعريفٌ دقيق، كامل وافٍ للشّعر طبقًا لمقولة السير موريس بورا في كتابه «تراث الرمزيّة» حيثُ صرّح «لم يجد أحد -حتى أرسطو- تعريفًا كافيًا للشعر» وقد نظنُّ جميعنا أننا نعرف ما هو الشّعر ولكن تلو تدفقنا فيه سرعان ما نُلاحظ أنّ فكرتنا عنه لا يتشاركها مَن يعيشون معنا في هذا العصر حيث يختلف كُلٌّ منّا في تعريفه، فضلًا عن كبار النّقاد في الماضي. فكلّ تعريف تجده يبدو واسعًا جدًا وضيّقًا جدًا في الآن ذاته. وتختلفُ نظرتنا عنه تبَعًا للعصر الذي قد نعيشُ فيه.
وللحظة سيراودنا سؤالٌ يعتني جوفه باستفهامٍ عن كيف لتعريف الشّعر أنْ يتناقض! وتقبَع الإجابة في أنّ الشّعر مَبني على التّجارب، وباختلاف التّجارب يبرزُ لنا تعبيرًا مميّزًا يختلف عن الباقين، ممّا يضيفُ فنًا جديدًا لقائمةِ الشّعر، وبهذا يكونُ دائم التّجدّد! فلن نستطيع شمله في تعريفٍ واحد ونطبّقه، فحتّى لو استمرّ لفترةٍ من الفترات، فلن ينفع للأخرى!
نَمى الشّعر بشكلٍ مُبهر في عصرنا، حيثُ برزَ منهُ عدّة أنواع كما الشّعر الملحمي، والذي يروي لنا قصّة شعريّة بطريقةٍ بطوليّة، أو الشّعر التّمثيلي الذي يُستعمل في المسرحيّات، وبرزَ الشّعر الحُر أو لنَقلْ قصيدة النّثر، وغيرها كثير! كما برَزت العديد من الاتّجاهات المُختلفة كالاتّجاه الإسلامي، الاِجتماعي، الإنساني، الوطني القومي وغيرها. وحتّى بعضُ الأنواع التي تلاشت مع الزّمن، وبعدَ ظهور الإسلام تحديدًا كالهواء اللّاذع والرّثاء وغيرها، إلا أنّهُ كان شائعًا أيام الجاهليّة، وحتّى الشّعراء كانوا يعتبرونه مِن أساسيّات القبائل في ذلك الوقت، وبالعودة لعصرنا الحالي فقد ظهرت مدارس شعريّة وجماعاتٍ أدبيّة جديدة.
ولم تَكُن تلك المدارس الشعريّة والجماعات الأدبيّة تعتني بالموضوعِ ذاته، فقد كان لكلٍّ منها خصائص فنّية تميّزها، كجماعة البَعث والإحياء ولعلَّ ما سيطرَ على بصيرتكم الآن هو أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، وكذلكَ جماعة الدّيوان ومن أشهر شُعرائها عبّاس محمود العقاد، وإبراهيم المازني واللّذان يُعتبران سبب هذه التّسمية، فقد نشرا كتابًا من جزئين سمّوه بالدّيوان والذي اتّخذ تسمية لهذه الجماعة. والسّيد جبران خليل جبران والذي يعدّ من أشهر شعراء «المهجر»
وما الذي يميز الشّعر وما هي أُسسه؟
بالنّسبةِ لما يميّز الشّعر إضافةً للتّجدّد الدائم والمُستمر، فهو البيت وغالبًا ستعرفُ من خلاله إن كان ما بين يديك نظم، وإنْ صحَّ القول التّمييزُ إن كان شِعرًا أم لا. والبيت هو الذي يتكوّن من صدر وهو الشطر الأوّل، والعجز وهو الشطر الثاني والأخير في البيت. وعندما يكونُ أكثر مِن بيتين معًا بالقافية نفسها (والقافية هي نهايةُ البيت) وحرف الروي ذاته (وهو آخرُ حرفٍ في البيت) بعدها الوحدة العضويّة، وتعني أن يكون كتلة واحدة، فلن تستطيع نزعَ بيتٍ من القصيدة، وإلا حدَثَ خللٌ فنّيٌ بها، وتعسر فهمها. ومن الرّائدين في ذلك والدّاعينَ لهُ في عصرنا الحديث، فقد تألّفوا مِنْ شعراء «المهجر» وشعراء «الديوان» كما كانوا يستهلكون أكثرَ الألفاظِ المفهومة والأقرب لعقلِ القارئ وتحمل بصيرته، وقد يُعتبر هذا في بعض الأحيان مرآة تعكسُ لك ثقافات الشّعوب واختلاف الآراء الخاصّة بالشّاعر، فقبلَ أنْ يكونَ شاعرًا هو أيضًا شخصٌ مثلنا لديه شخصيّة خاصة، وتفرّد لا مثيل له.
ولعلَّ أبرز الشّعراء في وقتنا الحالي نازك الملائكة والتي اشتهرت بكسرها لقواعد القصائد القديمة، واستمرّت في ذلك حتّى وفاتها رغمَ المُعارضة التي تلقّتها آنذاك، ولدينا أيضًا نزار قباني، والذي اشتهرَ بأعمالٍ كثيرة نذكرُ منها «قصائد متوحّشة» و«أشعارٌ خارجة عن القانون» وغيرهم كثير! وكذلك جبران خليل جبران والذي اشتهر بـ «النّبي» و«الأجنحة المتكسرة»
هل سبَقَ وقرأتَ شيئًا لكُتّابٍ غير هؤلاء؟ وأخيرًا نودُّ لو تَذكر لنا مقطعًا قصيرًا أعجبك في أحد القصائد التي مَررتَ بها سواء ذكرت هُنا أو لا!
وتلو كلّ ذلك نودُّ أنْ نقول أنّه لمِنَ المؤسف أنّ شباب هذا اليوم لا يعطون أيُّ اِهتمامٍ كبير لهذا الفن الرّاقي والتّاريخي، والذي يصف لنا آلام الشخص ومعاناته بشكلٍ جميل غزيرٌ بالمشاعر. فالشّعر لا يتقيّدُ بواقعة ولا يستسلم للقوانين التي تُفرض عليه، وخيرُ دليل أنّ أكثر المبدعين تجاوزت إنجازاتهم قواعد الفنِّ في عصرهم!
وختامًا إنَّ أفضل الأساليب للتّعبير عن حُزنك أو فرحك هي تدوينه، ولعلّ الشّعر سيكونُ أفضلُ طريقة تميّز هذه الأحرف بشعورٍ خاص وتجسّده في قلب المستمع أو القارئ.
المصادر:
-كتاب «الأجناس الأدبية» من تأليف إيف ستالوني وترجمة محمد الزكراوي.
-كتاب من تأليف الدكتور عز الدّين إسماعيل، «الأسس الجماليّة في النّقد العربي عرض وتفسير ومقارنة.»
_________

أنت تقرأ
واحة الأدب
Non-Fictionسنُرافقكم هنا في جَولةٍ حول الواحة، حيث سنَستَنْشق رمال الأدب بين أنفاسنا، ونرتوي من لُجة أنواعه، سنُعلمكم عمَّ تخطوه خطوة بخطوة، وسنأخذكم إلى قَاعِ الواحة لنغرقكم في عالمها، ثم سننسج لِتفاصيلها ملبسًا آخر، وسنتناول الكلمات فوق طاولة كتابتنا، وسنطهو...