كنتُ عائدًا من مهمة سرية جدّا، سرية لدرجة أنه لا يعلم بشأنها إلا رجل واحد، ولا يجب أن يعلم بها أحد آخر، للأنها وإن انتشرت، ستودي بي وبالمخابرات إلى الهلاك.
كنتُ جالسًا في غرفتي ذات الجدران المطلية بالأبيض والأثاث الفخم نسبيا، على سريري الأبيض ذو الخشب الأصليّ تركيّ الصنع، يغطي الظلام المنزل، أفكر فيم فعلته في تلك المهمة، أتساءل بين الحين والآخر... أكان صوابًا ما فعلته؟ لم أستطع تدارك الأمر باكرًا، لم أكن أريد أن يحدث ذلك، ثم انتقلتِ الأفكار بي إلى ابنتي ذاتُ السبعةِ أربِعَة، وتساءلتُ فجأة... ترى كيف حالها الآن؟، آمل أن تكونَ بخير، كم بدتْ جميلةً تلك المها، بشعرها الأسود اللامع وإشراقتها الفريدة، إنها تشبه أمّها رحمها اللّه، تسلل إلى أذني صوتُ هاتفي يرنّ في غرفة الجلوس، تركته هناك عند دخولي، تحركتُ إليه بحذري الذي اعتدت عليه، كان المتصل النقيب السامي، ضابط لدى المخابرات وأعز أصدقائي، أجبتُ عليه قائلا:
"أهلا سامي" ليجيب بنبرة صوت بدت جادة، ما يدل على أنه أمر متعلق بالعمل:
"راسم! هلا أخبرتني أين أنتَ الآن؟" أثار هذا السؤال تعجبي، وتحفزت حواسي و أجبته:
"في المنزل! ما الخطب؟" ليجيب قائلا:
"تعجبت من غيابك في مثل هذه الظروف، عليك أن تأتي فورًا" أثارت طريقة كلامه تلك الفضول في داخلي و سألته:
"ماذا تعني بـ'ظل هذه الظروف' ؟ ماذا يجري يا رجل؟ " لأسمع صوته يسأل:
"ألم يصلكَ الخبر فعلا؟ " أجبته قائلا:
"لا! ماذا هناك؟ " فقال بنبرة جادة حاول بها إخفاء حزنه الذي بدى لي واضحًا:
"تعرض العميل خالد فتح الله سالم للقتل، و هو لأمر جسيم قتله بهذه البساطة، نتوقع أن تكون هذه القضية صعبة، و نرجوا ألا تتحول إلى قضية دولية" صعقني هذا الخبر للتّو، شعور من الإحباط هيمن عليّ أرخى عزيمتي، قُتِل خالد! زعزع هذا الخبر صفوف المخابرات بكاملها، تصارع عيناي لسحب دموعها، لكنها لم تستطع، لتنزل دمعة من عين تخزن الكثر من أخواتها، كان خالد صديقي، لربما في أعين الناس هو ذلك الجبل الذي لا تزعزعه رياح العواصف، عديم المشاعر لا يتألم، الوسيم اللبق الأفضل في كل شيء، لكنه في الحقيقة حنون طيب، يعيش يصارع الوحدة، كان دائمًا الأول لآتي أنا بعده... رحمك الله يا خالد، تمالكتُ نفسي وقلتُ له بنبرة حازمة:
"حسنًا، سآتي حالًا" رميتُ الهاتف في جيبي و انطلقتُ إلى معطفي الأسود المائل إلى الزرقة، بطوله المزعج الذي يصل إلى ما تحت الركبة، و أكتافه المطرزة بشكل دقيق تغطيها طبقة من الجلد، أكره هذا الزي، يتمنى الجميع ارتداءه، لكنني أتمنى أن لا أراه مجددًا، يثقل كاهلي بشدة، و يضع على عاتقي الكثير، يحولني إلى آلة حرب لا ترحم، و يطمس هواجسي البشرية، ليجردني من المشاعر، ألقيتُ على المرآة نظرة خاطفة لأرى نفسي، بدوتُ عاديًّا، بشعري الكثيف و حاجباي كستنائيَّا اللّون، أدعجٌ أنجلُ العينان، بلحية خفيفة متناسقة توحي للناظر بأن عمري في بداية الثلاثينات، و هو كذلك، توقفتُ لحظة للتمعن في مظهري، شعرتُ بشيءٍ غريب تجاهه، لكنّي لم أستطع معرفته، فخرجتُ بسرعة بينما أفكر و ازداد تحفزي و ضخ الأدرنالين في دمي... كيف سأخفي أمر المهمة إن سألوني؟، يجب عليّ إخفاء أمرها و إن كلّف ذلك حياتي... هل سأنجح؟... آمل ذلك.
*****
"تحيّاتي سيدي! " هذا ما قاله النقيب سامي بحزمٍ و احترام فور دخوله و إلقاء التحية على رئيس المخابرات بأكملها... اللّواءُ أدهم.
ليقول اللواء بنبرة حازمة:
"استرح! " ليترك النقيب وضح التحية و يقف بثباتٍ في وضع استراحة و يقول اللّواء:
"طلبتكَ هنَا لأوكِلَ إليْكَ مهمّة تتعلق بمقتل العميل خالد" ليجيب النقيب قائلًا:
"أوامركَ سيّدي! " قال اللّواء بجدية بالغة و عينين تصبان تركيزهما على النقيب تزيدان الضّغط عليه:
"أنا اللّواء أدهم رئيس المخابرات أكلّفكَ و العميل راسم شخصيًّا للتحقيق و إيجاد المسؤول عن عملية قتل العميل الخالد، و أعطيكَ الصلاحيات الكاملة لفعل ما يُلْزِمُكَ به حل القضية تحتَ مقوماتِ القانون الدوليّ إن كان أجنبيًّا، و تحت مقومات القانون القوميّ إن لم يكن كذلك" كان ما يشعر به الأنجل أزرق العينين النقيب سامي شيء من الصدمة، شَعَر أشقر الشعر و اللحية ذاك بأن هموم الدنيا كلها صبّت على عاتقه، و ابتلع حلقه ثم نطق بصعوبة:
"و لكنّنا لسنا محقّقين يا سيدي"
وقف اللّواء و بدأ المشي حول مكتبه يتغلغل صوت خطواته داخل النقيب سامي و يقول:
"لطال ما كان ذكاؤك عاملًا مهما في نجاح المهمات التي كنتَ جزءًا منها أيها النقيب! ترى المخابرات أنك قطعة قوية موجودة في الموقع الخطأ، وأنا متأكد بأن فاعليّتك كاملةً تصبّ في التحليل وحل الألغاز، وليس التسجيل والتدقيق؛ أما عن العميل راسم، فأحد الأسباب التي جعلتني أشركه معك في هذه القضية هو أنه أقوى العملاء لدينا الآن! وأيضًا هناك سبب آخر أضمره في نفسي"
وقف اللواء شابكًا يديه مثبةً ناظريه ناحية سامي يجمده ببصره وقال:
"هذه مهمتك! نفذ!"
وقف النقيب باستعداد وقال بحزم بالغ:
"حاضر سيدي! عُلِمَ وينفذ"
وبعد دقائق كان النقيب يقود سيارته تجاه موقع الجريمة يشعر بثقل المهمة على عاتقيه، يقود بتسارع يزداد مع تساؤلاته... هل كان فعلًا ذلك هو السبب الذي جعل المخابرات تختاره للتحقيق في القضية؟ وأيضًا، ما ذلك السبب الذي أضمره اللواء تجاه راسم؟ ولماذا راسم بالذات؟ ليقرر بعد ذلك التركيز فيم عليه فعله الآن ويقبض على المقود بقوة ويشغل صافرة الشرطة في السيارة ويقول بحزم:
"سيتضح كل شيء بعد كشف القاتل"*****
لا تنسى التّصويت للفصل
شكرًا على حسن القراءة
أنت تقرأ
من بيننا: قضية المخابرات الأكبر
Aventureالجزء الاول من سلسلة روايات "من بيننا". تدور أحداث القصة عن عميل مخابرات يقحمه رئيسه في قضية للتحقيق في مقتل زميله. ترى, لماذا يختاره رئيسه للتحقيق وهو ليس بمحقق؟, يبدأ بطلنا بنسج خيوط الحقيقة و تظهر المفاجات الواحدة تلو الأخرى، و تكثر الضغوط عليه...