الفصل الثامن عشر

823 42 19
                                    

اقتربت ليلة الزفاف، و كلما اقتربت زاد قلق سلمى و خوفها من القادم، بينما العلاقة بين سفيان و داليا قد توترت للغاية منذ ليلة الخطبة و ما حدث بها، و مهما قدم لها من اعتذارات أو وعود لا تستجيب، فهى قد فقدت ثقتها فيه لأقصى حد.
و ها قد حانت الليلة المنتظرة، التى تمناها ريان كثيرا و انتظرها طويلا، كان حفلا جميلا، و الكل مبتهج سعيد، حتى السعادة لم تترك الصغار، فقد ارتدت كل من چود و ملك فساتين زفاف صغيرة، و ارتدى چاد حُلة سوداء تشبه حُلة أبيه تماما.
داليا تناست مشكلاتها مع سفيان و لم تدع شيئا يُعكر صفو هذه الليلة، فرحا بعوض الله على شقيقتها الحبيبة، و ملك لم تجلس بالقاعة أكثر من نصف ساعة ثم غادرت حتى لا يتكرر ما حدث من سفيان بليلة الخطبة و تكون سببا فى مشكلة جديدة بينهما.
استمر الحفل إلى قبيل منتصف الليل، ثم انتهى و أخذ ريان عروسه إلى شقته بمنزل والده، و التى غيّر كل أثاثها خلال الأسبوعين، تاركا ولديه بشقة أبيه بصحبة والدته.
دلف العروسين و بدل كل منهما ملابسه و بدأ ريان ليلته بالصلاة بها، ثم انتظرها بشرفة غرفته إلى أن تبدل اسدال الصلاة، و شرد بذهنه فى ليلة زفافه على سيرين، تلك الليلة المشؤمة التى لم يبدئها حتى بالصلاة، بل بدأها بشرب السجائر المحشوة و غاب فيها عن الوعى و لم يدرِ ما فعله بعد ذلك، بدأ معها بمعصية، و لم تُقوَّمه أو تزجره أو تذكره حتى باستهلال حياتهما الزوجية بطاعة الله حتى يبارك لهما الزواج، فـ شتان بين سيرين و سلمى، فـ الشيطان قد تمثل فى صورة سيرين و الملاك قد تمثل فى صورة سلمى.
ارتدت سلمى قميص حريرى أبيض اللون يعلوه روب طويل و شفاف إلى حد ما ثم وقفت خلف ريان و تنحنحت بخجل و كأنها تخبره بأنها قد انتهت...
استدار لها بترقب و ما إن رآها بهيئتها الملائكية حتى ازدادت ابتسامته اتساعا باعجاب و انبهار، فهو لأول مرة يراها بكامل زينتها و يرى شعرها الأسود الناعم منساب على ظهرها، و ابتسامتها الخجلى تزين محياها.
اقترب منها بخطوات بطيئة مهلكة حتى وقف قبالتها تماما، و هو يدور بعينيه فى ملامحها ينهل من فرط جمالها، ثم قبض بكفيه على كفيها قائلا بصوت أجش:
ــ أخيرا يا سلمى!...أنا و انتى لوحدنا و مقفول علينا باب!..أخيرا بقيتى حلالى!!..خمس سنين محروم منك كأنى كنت مدفون و محروم من الهوا...كأنى كنت غريق و مستنيكى تمدى ليا ايدك تنقذينى...كنت ميت و أنا بتنفس، بس كنت بتنفس عذاب و حزن و كآبة.
بينما هى تناظره بشغف، بعينين تقطران حبا، بوجدان هائما بملامحه الوسيمة، بسمته المشرقة، عينيه التى تحاصر عيناها بعشق خالص، ثم ردت عليه بنبرة هائمة:
ــ أنا كنت بموت فى كل يوم بيعدى عليا و انت فى حضن غيرى، عارفة إن حبك ليا زى ما هو رغم كل الظروف اللى مرينا بيها، زى ما يكون قلبك عارف إنى بحبك و مستحيل إنك تكون واحد عادى بالنسبالى زى ما كنت بقولك، قلبك مكانش مصدق، علشان كدا مقدرتش تكرهنى...
انكمشت ملامحه بألم من أجلها، فلولا هو ما حدثت لها تلك المأساة، و لَما افتعلت تلك الكذبة التى فرقتهما لأكثر من خمس سنوات، اغرورقت عيناه بالعبرات تأثُرا بها و اشفاقا عليها، و أسرع بجذبها من خصرها لتستقر بين ذراعيه و بأحضانه قبل أن ترى دموعه، لف ذراعيه أكثر بتملك حول خصرها و هو يعتصر جفنيه بألم بالغ، و عند هذا الحد و بدأ قلبها يخفق بقوة و زادت و تيرة تنفسها للغاية حتى وصلت لحد الاختناق، شعر ريان بحركة صدرها و هو يعلو و بهبط بطريقة ملحوظة، فأبعدها قليلا عن حضنه و نظر لها و هو مقطب الجبين باستغراب قائلا:
ــ مالك يا حبيبتى؟!..انتى تعبانة و لا ايه؟!
حاصرت رأسها بكفيها و هى تقول بتعب:
ــ مش عارفة مالى؟!.حاسة ان قلبى مقبوض..
أخذها مرة أخرى إلى صدره و هو يربت على ظهرها بحنو قائلا بهمس حانى:
ــ حبيبتى طول ما أنا جنبك متخافيش من حاجة أبداً...انتى مش بس مراتى يا سلمى..انتى بنتى و حتة منى و عمرى ما هقسى عليكى أبدا...
بدأت تنظم أنفاسها المتلاحقة و تحاول السيطرة على أعصابها التالفة ثم بادلته العناق، فابتسم بارتياح و تجرأ أكثر و رفع وجهها له و مال برأسه عليها و لكنها اغمضت عينيها تلقائيا ثم بدأت تداهمها تلك الذكرى الأليمة و شبح ذلك المجرم المُلثم يلوح أمام عينيها المغمضتين، فعادت لها تلك الحالة مرة أخرى و لكن بشكل أشد، الأمر الذى أثار قلق ريان للغاية و بدا له الأمر مريبا و غير طبيعى.
أحس أنها على وشك أن تفقد وعيها، فحملها سريعا و وضعها على الفراش برفق بالغ و هى تتنفس بلهاث و مازالت مغمضة العينين، فأخذ يمسح على شعرها و هو يهمس بقلق:
ــ سلمى حبيبتي افتحى عينيكى...سلمى حاسة بإيه؟!...طاب فتحى عيونك و كلمينى...
بدأت تستجيب له و تفتحهما ببطئ و هى فى حالة من الخوف و الهلع، فانهمرت عبراتها بغزارة و هى تقول:
ــ ريان....كل ما تقرب منى ضربات قلبى بتبقى سريعة و بحس ان الدنيا بتضلم و بشوف خيال شخص ضخم متلتم بيهجم عليا...أنا.. أنا مش عارفة ليه بيحصلى كدا؟!..أنا...أنا خايفة أوى يا ريان...
توترت أوداجه، و انفطر قلبه لأجلها، فالآن فقط فهم سر تلك الرهبة التى أصابتها حين تحرش بها مسبقا تحت تأثير المخدر، و فزعها الآن و هى بين أحضانه، و كأن تلك المأساة أصبحت لعنة تلاحقها كلما اقترب منها، همَّ ليحتضنها مرة أخرى ربما تشعر ببعض الأمان، إلا أنها منعته بإشارة من كفها و هى تصرخ بفزع:
ــ لأ... متقربش منى..
انفطر قلبه لهيئتها المرتعبة، و داهمه شعور قاتل بالذنب، فأومأ بموافقة و هو يقول باشفاق بالغ و حزن دفين:
ــ حاضر... مش هقرب.. بس عايزك تهدى أعصابك خالص و تاخدى نفس عميق علشان تتنفسى براحة...
ازدردت لعابها بصعوبة من فرط الرهبة و استجابت له بلاوعى، و ابتعد إلى حافة الفراش و هو يراقبها بحسرة ثم قال لها بنبرة حانية:
ــ ايه رأيك نعمل فيشار و نقعد نتفرج سوا على فيلم لحد ما النوم يغلبنا و ننام؟!
اغتصبت ابتسامة على شفتيها حتى لا تثير قلقه أكثر من ذلك، فأيا كان ما تشعر به، ليس له ذنب فيه....هى بالأساس لا تدرى ما سر هذه التقلبات المزاجية التى تعانى منها.
نهضت من الفراش بتثاقل و نهض هو الآخر معها، مدّ كفه لها لتتمسك به، ففعلت و خرجا من الغرفة باتجاه المطبخ، و هم ليدلف معها إلا أنها استوقفته قائلة بضيق من نفسها:
ــ ريان أنا آسفة...أنا كان نفسى أول ليلة لينا متكونش بالشكل دا، بس أنا...
وضع سبابته اليمنى على شفتيها و هو يهمس بحنو:
ــ شششش...بس متكمليش...
انتقل بسبابته و ابهامه إلى وجنتها يداعبها بهما مردفا بعشق و شغف:
ــ أنا يكفينى إنك تكونى معايا و قدام عينى طول الوقت...مش عايز أكتر من كدا..صدقينى يا سلمى انتى بالنسبالى حلم جميل أوى و بحمد ربنا إنه اتحقق، و مش عايز حاجة تانية بعد كدا..
عجز لسانها عن الرد أمام تيار عشقه الجارف، فشعر بها و أردف بمرح ليقلل من وطأة حرجها:
ــ بيتهيألى كان فى مشروع فيشار المفروض ننفذه، و لا إنتى رجعتى فى كلامك و لا إيه؟!
ابتسمت براحة مجيبة:
ــ روح انت شغل فيلم على ذوقك و انا هجهز الفيشار.
أومأ لها بابتسامة باهتة، و من ثَمَّ تركها و قام بتشغيل أحد الأفلام الأجنبية ثم جلس بالأريكة فى انتظارها...
جلسا سويا يشاهدان الفيلم و يأكلان الفيشار و قد منع ريان نفسه من الالتصاق بها حتى لا يداهمها ذلك الشعور السخيف مرة أخرى، كانا يشاهدان فى جو من الصمت التام، فقد كان شاردا فى حالها و ما يحدث معها كلما يقترب منها، يرمقها بين الحين و الآخر بحزن دفين و إشفاق بالغ، لا يدرى إلى متى ستستمر تلك الرهبة، و ما مصير حياتهما اذا بقى الوضع على ما هو عليه، و فى خضم تفكيره أحس بثِقَل رأسها على كتفه، فقد نامت دون أن تشعر. ابتسم بتلقائية على مظهرها و أسند رأسها على كفه إلى أن اعتدل و نهض من مجلسه، ثم حملها إلى غرفة النوم و وضعها على الفراش برفق بالغ...
جلس بجوارها و أخذ يتأملها بردائها الأبيض المثير و شعرها منساب بجوارها و جمالها الأخاذ الذى يدعوه لينهل منه كيفما شاء، فابتسم بسخرية مريرة و هو يهز رأسه بأسى، فها هى حوريته أمامه و بين يديه و لكن لا يستطيع لمسها.
أطلق زفرة حارة ثم دثرها بالغطاء و استلقى بجوارها عائدا لشروده و تفكيره مجددا إلى أن غلبه النوم.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن