الفصل الخامس و العشرين

610 36 5
                                    

فى لحظة توقف عندها الزمن، فى ذكرى خالدة فى ذهنيهما لن ينسياها ما حييا، فى سجدة شكر لله عبرت عما بدواخلهما من ثناء و حمد لله على اتمام النعمة، بث كل منهما مشاعر الشكر و السعادة و الفرح بتمام لم الشمل، بكيا و الجبين ساجد و القلب خاشع و الجوارح محلقة فى سماء العشق، شكرا الله و أقرّا بفضله و هما يبكيان من فرط السرور و عدم التصديق، مشهد مهيب تقشعر له الأبدان، شعور جميل لن يعرفه إلا من نال مبتغاه بعد صبر و عناء....و ماذا يريدان بعد ذلك، فهما الآن قد حيذت لهما الدنيا بما فيها.
نهض سفيان من سجوده فنهضت ملك تباعا له و وقفا قبالة بعضهما يتطلع كل منهما للآخر بعينين دامعتين و ابتسامة عاشقة، فقام سفيان بمسح دموعها التى أغرقت وجنتيها بابهاميه و هو يقول مبتسما:
ــ و بعدين!!.. هنخرج ازاى للناس اللى برا دى و انتى معيطة كدا و عينيكى حمرا من كتر العياط، و لا خدودك المقلبظة دى حُمر كدا و عايزين يتاكلوا أكل، و أنا بصريح العبارة بغير أوى..
ضحكت بخفوت ثم قالت:
ــ مش بعيد يفتكروا ان انت ضاربنى بالقلم مثلا.
ضحك بصخب ثم قال من بين ضحكاته:
ــ لا احنا لازم نغسل وشنا قبل ما يشوفونا...لأن شكلنا كدا يدعو للريبة و الشك.
قبضت على كفه و هى تشير باتجاه الباب قائلة بجدية:
ــ طاب تعالى يلا..الحمام جنب القوضة علطول و محدش هياخد باله مننا و احنا بنغسل وشنا...
سارت خطوتين باتجاه الباب بينما هو جذبها ناحيته مرة أخرى و جعلها بمواجهته تماما، ثم اقترب منها و انحنى برأسه على رأسها، مستندا بجبينه إلى جبينها و قال بهمس مثير أثار قشعريرة محببة فى أوصالها:
ــ عايز أقولك أخر كلمتين بس فى الليلة الجميلة دى و اللى ان شاء الله مش هتكون أول و لا آخر ليلة حلوة تجمعنا و ليالينا كلها هتكون أحلى و أحلى.
أومأت بايجاب و هى تبتسم بهيام قائلة:
ــ قول يا حبيبي سمعاك.
استرسل بنفس نبرته الهائمة:
ــ عايز أقولك إن أنا عديت معاكى كل مراحل الحب.. و العشق.. و الغرام.. و الهيام.. و التيم... و أنا دلوقتي فى مرحلة الهوس...ملك...لو فى قيس مجنون ليلى...
فـ "أنا سفيان مجنون ملك".
أغمضت عينيها من فرط النشوة بكلماته الثقيلة فى وزنها، و العميقة فى معناها، و السامية فى مغذاها و تنهدت بعشق خالص قائلة و هى مازالت مطبقة الجفنين:
ــ حرام عليك يا سفيان...قلبى هيقف من كلامك اللى مش قادرة أجاريه أبدا...
فتحت عينيها ثم أردفت بنبرة هائمة:
ــ انت لبق أوى فى حبك ليا و مخلينى عاجزة عن الرد على كلامك اللى دوبنى و توهنى و خلانى أحس إنى ملكة فريدة من نوعي..و كأن مفيش بنت غيرى فى الدنيا دى كلها.
تحسس وجنتيها بأنامله و هو يقول بهمسه المثير:
ــ طاب ما انتى فعلا ملكة...انتى ملكة على عرش قلبى يا ملاكى...
قبّل جبينها ثم ابتعد عنها مقدار خطوة واحدة و قلب ملامحه للجدية قائلا:
ــ يلا نخرج بقى...احنا اتأخرنا أوى و زمانهم برا فاكرين إن إحنا مقطعين السمكة و ديلها.
انفلتت منها ضحكة مدوية ثم قالت و هى مازالت تضحك:
ــ أيوة صح معاك حق..
احتضن كفها الأيسر بكفه الأيمن و سار بها إلى الباب، و عندما هم بفتح الباب، سحبت يدها سريعا من كفه لتسند بها موضع ألم رأسها الذى داهمها بغتة و بدون سابق انذار، مُصدرة أنينا خافتا، الأمر الذى أصابه بالقلق البالغ، فأمسك برأسها و أسندها على صدره و هو يقول بقلق:
ــ مالك يا حبيبتى...ماسكة راسك ليه؟!
زادت وتيرة تنفسها من فرط الألم، فأحس بحركة صدرها المتسارعة صعودا و هبوطا، فازداد قلقه و خوفه أكثر و ضغط على رأسها برفق و هو يعيد سؤاله:
ــ ملك متقلقينيش عليكى...قوليلى مالك و حاسة بإيه.
أجابته بصوت خفيض بالكاد خرج منها:
ــ متخافش يا حبيبي دا صداع خفيف كدا...تقريبا من كتر العياط.
حاصر رأسها بين كفيه و أبعدها قليلا عن صدره ثم قال بخوف:
ــ خفيف ايه بس يا ملك...دا انتى مش قادرة تتكلمى و بتاخدى نفسك بالعافية.
أخذت نفسا عميقا لعله ينظم أنفاسها المتلاحقة قليلا ثم أجابته بابتسامة باهتة:
ــ حبيبي مفيش حاجة صدقنى...بص أنا هاخد قرص مسكن و ان شاء الله هبقى زى الفل.
تنهد بقلة حيلة ثم قال بنبرة حزينة قلقة:
ــ ماشى يا ملك ربنا يستر...أنا هستناكى برا و متتأخريش عليا عشان مقلقش عليكى.
هزت رأسها بإيجاب و هى تجاهد لتبقى على جفنيها منفتحين، فقد فاق الألم احتمالها و جعل من تفتح عينيها أمرا عسيرا، و قالت بذات الإبتسامة الباهتة:
ــ حاضر يا حبيبي متقلقش...اخرج انت للمعازيم زمانهم بيسألوا عليك.
هز رأسه بموافقة ثم قبل مقدمة رأسها و خرج من الغرفة و عينيه متعلقتين بها، و القلق بداخله ينمو و ينهش بصدره بضراوة.
بعد عشر دقائق خرجت ملك بعدما قل ألم رأسها نوعا ما و غسلت وجهها و عدلت من هندام ملابسها، خرجت و اندمجت وسط المعازيم و هى تتظاهر بأنها على خير ما يرام، بينما سفيان نظره مسلط عليها، يرمقها بين الحين و الآخر بنظرات قلقه، يشعر بمحاولاتاها المستميتة لكى تظهر أمام الجميع بأنها بخير و لكن قلبه يشعر بألمها التى تحاول إخفائه، فأحس بوخز حاد بصدره خوفا من تكرار الماضى الأليم مرة أخرى، خاصة و أن الطبيب قد سبق و أخبره بأنها حتى و أن شُفيت من المرض، فإحتمالية إصابتها به مرة أخرى عالية.
انتهت الليلة على خير و قامت ملك بتوديع سفيان و أوصلته إلى الباب، فاستغل الفرصة و قبل ان يغادر قال لها بهمس:
ــ ملك لو تعبانة متجيش الشركة بكرة.
ــ لا يا سفيان أنا كويسة...مش كفاية مروحتش النهاردة.
ــ مش مهم...المهم صحتك..و أنا اللى بقولك متجيش.
أومأت بايجاب لكى تنهى الحوار فى هذا الموضوع قائلة:
ــ خلاص يا حبيبي لو صحيت و لقيت نفسى تعبانة مش جاية.
ابتسم لها بود و راح يتفقد المكان خلفها بعينيه و عندما لم يجد من يراه، قام بتقبيل جبينها ثم فتح الباب و هم بالخروج و لكنه عاد لها مرة أخرى و هى مازالت واقفة خلف الباب تائهة من أثر فعلته المباغتة، فابتسم بمكر ثم جذبها من معصمها حتى ارتطمت بصدره و باغتها بتقبيلها من وجنتها ثم تركها و كأنه لم يفعل شيئا و انصرف سريعا قبل أن توبخه، بينما هى تاهت أكثر و وضعت يدها على وجنتها بصدمة فاغرة الفاه، و بعد دقيقة من الشرود تداركت حالها و ضحكت بخفوت ثم عادت إلى غرفتها و هى تكاد تطير من السعادة.
بينما سفيان عاد إلى شقته و هو مقسوم لشِطرين، شِطر منه لا يصدق نفسه من السعادة و شطر آخر يكاد يقتله الخوف و القلق عليها،
و بمجرد أن اغتسل و بدل ملابسه، عاد ليتوضأ و صلى صلاة القيام و تضرع إلى الله و هو يبكى أن يحفظ له زوجته و حبيبته و أن يكفيها شر هذا المرض اللعين و أن يكمل فرحتهما على خير، ثم انتهى من صلاته و خلد إلى النوم الذى كان نوما متقطعا، أرقته الأحلام المزعجة و أحاديث النفس المقلقة إلى أن حل الصباح و استيقظ و هو فى قمة الإرهاق و التعب.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن