الفصل الأول

1.8K 56 24
                                    

فى أحد المولات التجارية الشهيرة بمدينة المنصورة، تقبع طفلة صغيرة لا تتجاوز الثالثة من عمرها بأحد أركان المكان، تبكى و تنادى على أمها، فكان مظهرها يمزق نياط القلوب، اقتربت منها فتاة يافعة محجبة ترتدى فستان محتشم يتناسب مع حجابها و انحنت إلى مستواها و قالت لها و هى تمسح على شعرها بحنو:
ــ حبيبتى بتعيطى ليه؟!.. فين ماما؟!
أجابتها الطفلة و هى تبكى و ترتجف من الخوف:
ــ مش عالفة.. ماما.. أنا عايزة ماما..
أخذتها بين أحضانها و قد انفطر قلبها لحالتها المذرية و الذعر الذى أصابها، و اخذت تطمئنها و تهدهدها قائلة:
ــ خلاص يا حبيبتى متعيطيش قطعتى قلبى... طاب قوليلى الأول انتى اسمك ايه؟!
أجابتها من بين شهقاتها:
ــ ملك..
رفعت حاجبيها باستغراب قائلة بذهول و مرح فى آن واحد:
ــ ملك!!.. ايه الصدفة الجميلة دى... انتى عارفة؟!.. أنا كمان اسمى ملك...
لم تبالى الطفلة كثيرا بكلامها، فأكثر ما يشغلها الآن هو شعورها بعدم الأمان فى غياب أمها و دفئ أحضانها و كلماتها التى تقطر حبا و حنانا و ردت ببكاء أشد:
ــ انا عايزة ماماااا..
فجأة وصلها صوت أمها المذعور و هى تنادى بإسمها قائلة:
ــ ملك..
التفتت الملكتان إلى مصدر الصوت، و ركضت الصغيرة على الفور إلى أحضان أمها التى التقفتها بسعادة و قلق فى آن واحد، و أخذت تربت على ظهرها تارة، و تشدد من احتضانها تارة و هى تحمد الله أن دلها عليها سريعا بعدما بحثت عنها لعشر دقائق فقط.
بينما ملك الكبيرة تراقب الموقف من مسافة بعيدة نوعا ما و هى تبتسم على ذلك المشهد الذى ينطق بكل معانى الأمومة.
اقتربت من الأم حتى وقفت قبالتها و قالت بصوتها الرقيق:
ــ حمد الله على سلامتها يا مدام... خلى بالك منها ربنا يخليهالك.
بينما الأم تجمد جسدها ما إن وصلها صوتها و بدأت تدير عينيها نحوها بحذر و ترقب إلى أن جحظتا من الصدمة عندما رأتها بوضوح، تسمر بؤبؤيها عليها، تناظرها بملامح مشدوهة و كأنما أصابها السحر، و قلبها يقرع بمخضعه من فرط الهلع، تحدثها نفسها بتيه و شرود:
ــ "أيعقل أن تكون هى...لا لا مستحيل.. فالموت لا رجعة منه... إذن هى شبيهتها.. نعم شبيهتها"
و بينما هى فى خضم هلعها و التيه الذى أصابها، كانت ملك تحدثها و داليا لا تشعر بها، إلى أن يأست منها و انصرفت، و لم تعد داليا إلى رشدها إلا بعد مغادرة ملك الكبيرة من أمامها.
أخذت نفسا عميقا تملأ به رئتيها اللتان اختنقتا من كثرة الإفتراضات التى داهمتها بمجرد رؤية ملامح تلك الغائبة عنهم لأكثر من خمس سنوات، يكاد يصيبها الجنون من كثرة التفكير، فإن كانت هى ملك المتوفاة و بفرض أنها لم تمت، إذن كيف لم تتعرف عليها، فقد كانت تحدثها برسمية و كأنها لا تعرفها.
عادت سريعا بصحبة الصغيرة إلى زوجها الذى ينتظرها عند المدخل الرئيسى للمول، و بمجرد أن وصلت إليه و وقفت أمامه صاح بها بقلق:
ــ ينفع كدا يا داليا... ايه التأخير دا كله..بقالك اكتر من نص ساعة متصلة بيا و بتقوليلى تعالى خدنا..
ازدردت لعابها بصعوبة من فرط التوتر و أجابته باعتذار و ملامح مذعورة و هى تحاول إخفاء حقيقة ما حدث منذ قليل:
ــ مـ معليش يا سفيان... انت عارف ماشية ملك... بطيئة جدا و هى اللى أخرتنى..
نظر لطفلته بابتسامة حانية و هو يقول:
ــ خلاص كله يهون علشان ملوكة حبيبة بابا..
تعلقت الصغيرة بساقه و احتضنته بقوة فانحنى بدوره و حملها و هو يحدث زوجته:
ــ مفيش حاجة عجبتك بردو؟!
ــ أيوة... و يلا نروح بسرعة بقى أصلى تعبت.
طالعها باستنكار قائلا:
ــ تعبتى ايه... دا انتى مكملتيش نص ساعة فى المول!!
توترت اوداجها و تعثر لسانها و هى تقول:
ــ احم.. أصل... أصل أنا... أنا جالى صداع فجأة و عايزة أروح لماما اريح عندها شوية و ابقى عدى علينا خدنا بالليل..
هز رأسه بقلة حيلة قائلا باستسلام:
ــ ماشى يا داليا اللى يريحك..
أخذهما و استقلا سيارة أجرة إلى مسكن أم زوجته و التى تسكن بنفس الشارع معهما، فتنفست الصعداء ما إن ابتعدت السيارة عن محيط المول و حمدت الله أنه لم يراها و إلا فستخسره للأبد حتى و إن لم تكن هى ملك... و تركهما عندها و انصرف هو إلى منزله.
ما إن تأكدت داليا من تمام مغادرة زوجها حتى جلست بالمقعد المجاور لأمها تحكى لها بهلع:
ــ ماما مش هتصدقى اللى شوفته فى المول؟!
أجابتها بقلق بالغ:
ــ خير يا بنتى شوفتى ايه؟!
ــ ملك...شوفت ملك يا ماما.
نظرت لها الأم باستغراب و وضعت يدها على جبينها تتحسسه ثم قالت باستنكار:
ــ انتى سخنة و لا إيه يا داليا...ماهى ملك كانت معاكى يا بنتى..
هزت رأسها بنفى و هى تقول بتوضيح:
ــ يا ماما مش بتكلم على ملك بنتى...انا اقصد ملك بنت عمو اسماعيل..
فغر فاها و سألتها بتوجس:
ــ انتى قصدك ملك الله يرحمها؟!
هزت رأسها عدة مرات بملامح ممتعضة، فضربت أمها كفا بكف و هى تقول بذهول:
ــ لا حول و لا قوة إلا بالله...انتى شكلك مش طبيعية النهاردة خالص يا داليا..
ــ يا ماما صدقينى...بقولك شوفتها و كلمتنى بس كانت بتكلمنى و كأنها متعرفنيش.
سكتت امها لوهلة تحاول استيعاب كلامها ثم أردفت:
ــ يا بنتى قولى كلام ناس عاقلين...انتى عايزة تفهمينى انك شوفتى ملك اللى ماتت من اكتر من خمس سنين؟!
اومأت بتأكيد و هى تقول:
ــ أيوة يا ماما صدقينى..
اقشعر بدنها عندما تخيلت الأمر و اغمضت عيناها و هى تستعيذ بالله من الشيطان الرچيم ثم ازدردت لعابها بصعوبة و هى تقول بتوتر:
ــ طـ طاب يا بنتى..ااايمكن واحدة شبهها..
أجابتها بحيرة و قد احتل الخوف و القلق جوارحها:
ــ مش عارفة يا ماما...هى فعلا متغيرة شوية...يعنى ملامحها البهتانة و وشها الضعيف بقى مليان و خدودها احمرت حتى لون عنيها الأخضر بقى لون كدا بين الأخضر و البنى زى ما يكون خضار عنيها استوى.
هوى قلبها فى قدميها و اتسعت عيناها على آخرها و كأنها رأت شبحا مخيفا ثم اردفت بتلعثم:
ــ يـ يعنى يعنى إيه يا داليا...معقول تكون لسة عايشة؟!...طاب إزاى؟!
أجابتها بقلق بالغ:
ــ ممكن يا ماما فعلا...إحنا لا شوفنا ليها جثة و لا حضرنا ليها جنازة و لا دفنة...اللى قالقنى إنها لو طلعت هى بجد و رجعت يبقى أنا كدا بيتى هيتخرب...سفيان لسة فاكرها و بيحبها و اكيد ما هيصدق ترجعله تانى...
أجهشت فى بكاء مرير و نصال الحسرة تمزق قلبها إربا و تقول بعويل:
ــ ااااه...البيت اللى بحافظ عليه بكل قوتى و جوزى و حبيبى اللى مبستحملش عليه الهوا، و اليوم اللى بزعله فيه مبيتحسبش من عمرى...انا بحبه اوى يا ماما و هموت لو بعد عنى...خايفة أخسره بعد ما حاربت و عافرت لحد ما وصلتله...اااه قلبى بيوجعنى كل ما اتخيل إنه هيقابلها أو هيشوفها تانى...
تمزقت نياط قلب امها لأجلها و جذبتها إلى أحضانها و هى تربت على ظهرها بحنو قائلة بإشفاق:
ــ متخافيش يا بنتى...انت بتتقى ربنا فيه و مراعياه و مراعية بيته و عمرك ما قصرتى معاه ف أى حاجة...استحالة هيسيبك بالسهولة دى و يروح لغيرك...صدقينى...و بعدين ما يمكن حبه ليها كان من باب الشفقة على حالتها و مرضها..
ابتعدت عن حضن أمها و كفكفت عباراتها و هى تقول برجاء:
ــ يا ريت يا ماما...أنا أكتر حاجة محببانى فيه طيبة قلبه و حنيته..رغم إنى عارفة إنى مكانى ف قلبه ميجيش قد نقطة ف بحر بس رغم كدا بيعاملنى بحب و طيبة و عمره ما جرحنى بكلمة..بيستحمل عيوبى و دايما بيشكر فى مميزاتى..هخسر كتير اوى يا ماما لو ضاع من ايدى..
هزت رأسها بقلة حيلة مردفة بحزن:
ــ ربنا يخليهولك يا حبيبتى و يهدى سركم...متخافيش ان شاء الله مش هيحصل حاجة و بكرة تقولى ماما قالت..
قلبت بؤبؤ عينيها للسماء تدعو الله بحرقة:
ــ يا رب.. يا رب.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن