الفصل الثالث عشر

665 40 25
                                    

فى منزل اسماعيل...
بعدما عادت ملك إلى منزلها انتابتها حالة من التيه و الشرود، فقد احتل سفيان جُل تفكيرها، تسأل نفسها لما كان يتطلع إليها بشغف هكذا دون الآخرين، لماذا هو بالذات قال لها(انتى بجد مش فكرانى)، ترى كيف كانت علاقته بها فى الماضى، تعلم أمر كذب أبيها عليهم و من المؤكد أن تلك الكذبة قد أثرت على مجرى حياة من تعلق قلبه بها و تعلق قلبها به...أيعقل أن يكون هو حبيبها فى الماضى أثناء مرضها؟!...و عند هذا الحد و بدأ قلبها ينبض بعنف و كأنه سيهرب من مخضعه..بدأت عيناها تغرورق بالدموع...فها قد وجدت ضالتها و ليتها ما وجدتها...فالحبيب الذى لطالما حلمت به و انتظرت لحظة لقائه متزوج و لديه طفلة...
دلف إليها أبوها الغرفة لكى يطمئن عليها، فرآها بحالة ترثى لها، فتقدم منها و جلس بجوارها و أحاط كتفيها بذراعه و هو يقول بحنو:
ــ مالك يا حبيبتى؟!
نظرت له بملامح متجهمة و عينين دامعتين و سألته بلوم جارح:
ــ ليه يا بابا؟!..ليه تكدب عليهم الكدبة دى و تفرق بينى و بين سفيان.
جحظت عيناه صدمة من حديثها و سألها بترقب:
ــ ملك..انتى افتكرتى.!!..الذاكرة رجعتلك؟!
أجابته بحدة طفيفة:
ــ لا يا بابا مش فاكرة...بس قلبى اللى فاكر..قلبى اللى كان بيقولى دايما أنا مش فيكى...أنا ف مكان تانى...و النهاردة بس عرفت قلبى كان فين....
أجهشت فى بكاء مرير جعله يشعر بتأنيب الضمير و قالت من بين شهقاتها العالية:
ــ ليه تعمل فينا كدا...مين قالك انى طالما فقدت الذاكرة إنى هنساه هو كمان...طاب مفكرتش فيه هو؟!..كل اللى فكرت فيه الشقة الحلوة و الشغلة المرتاحة و الدنيا اللى بدأت تضحكلنا فى الغربة؟!..انت دمرتنا...دمرتنا و قلبتلنا حياتنا اللى كنا بنتمتى نعيشها مع بعض و فى بيت واحد....أنا متأكدة إن كان فى بينا وعد بكدا...و متأكدة كمان ان كلكم عارفين حكايتنا حتى مراته اللى كانت بتبصيلى طول الوقت بغيرة.
أطرق اسماعيل رأسه بخذى و ندم ثم قال:
ــ انا سبق و حكيتلك اللى حصل كله من ساعة ما سافرنا ألمانيا لحد ما رجعنا تانى و عديتى الموضوع عادى و مكانش مهم اوى بالنسبالك...ايه اللى غير رأيك دلوقتي؟
هزت رأسها بعدم تصديق و هى تقول:
ــ انت مقولتليش انى سايبة هنا روح و قلب متعلقين بيا و متعلقة بيهم...كنت فاكرة ان ماليش فى الدنيا غيرك..قولت كفاية عليك شيل الهم و البهدلة اللى شوفتها معايا و التمستلك العذر...بس دلوقتي و بعد ما شوفت سفيان حاسة ان سكاكين بتقطع فى قلبى...
قالت عبارتها الأخيرة بصراخ مزق نياط قلبه و جذبها إلى حضنه و هو يبكى و يقول:
ــ سامحيني يا بنتى حقك عليا... أنا كنت عايزك تنسى الماضى باللى فيه و تعيشى حياة جديدة و الفرصة جاتلى هناك على طبق من دهب... مالكيش نصيب فيه يا حبيبتى... صدقينى مالكيش فيه نصيب..
هزت رأسها بإيجاب و هى ما زالت تبكى قائلة:
ــ أيوة... نصيب.. النصيب..

عندما هبط سفيان إلى شقته و دلفها وجد داليا تجلس فى الصالة بإنتظاره و يبدو على ملامحها القلق و الغضب فى آن واحد، ألقى عليها السلام ثم سألها:
ــ فين ملك؟!
أجابته بوجوم:
ــ نامت.
هز رأسه بموافقة ثم تخطاها و دلف غرفة نومه دون أن يُزد حرفا واحدا، الأمر الذى أشعل فتيل حنقها و غيرتها الثائرة، و هبت من مجلسها و دلفت خلفه بخطى غاضبة، فوجدته يبدل ملابسه إلى ملابس النوم فقالت له بحدة:
ــ انت هتعمل ايه؟!
أجابها ببرود:
ــ زى ما انتى شايفة كدا...بغير هدومى علشان أنام..
جزت على أسنانها بحنق قائلة:
ــ هتنام دلوقتي؟!...دى الساعة لسة ٩.
زفر بملل ثم قال بحدة:
ــ داليا لو سمحتى سيبينى دلوقتي.
اقتربت منه حتى وقفت قبالته و قالت بعصبية:
ــ لا يا سفيان...مش هسيبك تنام قبل ما تقولى ناوى على ايه بعد رجوعها و موقفك ايه منها.
استكمل ارتداء ملابسه بملامح شاردة و لم يرد عليها، فاغتاظت منه أكثر و قالت بحدة:
ــ رد عليا يا سفيان...أنا لازم أعرف راسى من رجليا و الليلادى.
جلس بحافة الفراش و دفن رأسه بين كفيه بتفكير و لم يرد أيضاً، طال انتظارها لرده، فلكزته من كتفه و احتدت نبرتها بانفعال:
ــ انت ساكت ليه؟!..أفهم ايه أنا من سكوتك دا؟!
هب من جلسته بانفعال قائلا بعصبية:
ــ معرفش...معرفش..
صُدِمت داليا من رده، فهى كانت لا تريد منه هذه الإجابة، بل كانت تنتظر إجابة حاسمة بإختياره لها و لإبنته، تنتظر أن يحتويها بين أحضانه و يختارها هى بدون أدنى تفكير أو حيرة، و لكن إجابته تلك جعلت آمالها و توقعاتها تتهاوى إلى القاع، إذن هناك احتمال و لو صغير بإمكانية عودته لها....بعد مدة من الصمت و الذهول قالت بنبرة خاوية:
ــ لما تعرف ابقى تعالى قولى...أنا لا يمكن أقعد معاك لحظة واحدة بعد الرد دا.
ثم اتجهت إلى خزانة ملابسها و استخرجت منها حقيبة صغيرة ضبت بها بعض الملابس تحت نظراته الخاوية، حتى إنه لم يحاول إثنائها عن فعلتها أو يسترضيها و يعتذر لها، مما زادها ذلك الأمر قهرا و حنقا، خرجت من غرفتها و سارت لغرفة صغيرتها و أخذت لها بعض الملابس و حملتها على كتف و الحقيببة على الكتف الآخر و تركت الشقة و العبرات تنزل من عينيها فى قهر صامت..
بينما سفيان بعدما سمع صوت الباب يُقفل، هب إلى الخزانة و أخذ يضرب رأسه بها و هو يصرخ بعصبية:
ـُ فوق...فوق يا سفيان بيتك بينهار...فوووق.
ابتعد قليلا عن الخزانة ثم أخذ ينظم أنفاسه المتلاحقة و يسيطر على أعصابه التالفة و هو يستغفر ربه بخفوت و يستعيذ بالله من الشيطان الرچيم، ثم خرج إلى شرفة غرفته يراقب زوجته و ابنته التى ابتعدت كثيرا عن مرئى عينيه و اقتربت من منزل والدتها، فى ذات اللحظة خرجت ملك إلى شرفتها فرأته ينظر إلى نقطة ما، فنظرت بنفس الإتجاه و صُعقت من المشهد الذى رأته، فيبدو أنها قد عادت و جلبت معها الوقيعة بين هذين الزوجين، الأمر الذى أثار شعورها بالذنب و الضيق البالغ من نفسها، فنظرت له بعتاب و قد فهم نظراتها، فالمسافة التى تفصلهما قصيرة لا تزيد عن ثمانية أمتار، و لكنه لم يبالى بنظراتها، و إنما فقط يشعر باشتياق بالغ لها، و عطش لملامحها أجحف عينيه، يريد أن يرويها حتى تكتفى و هو يعلم أنه لن يكتفى أبدا منها، لقد نسى العالم بما فيه و نسى حياته التى انقلبت رأسا على عقب، و زوجته الغاضبة المقهورة، فقط من مجرد طلة منها من شرفتها، ماذا إذن لو رافقته لبقية حياته، حتما سيتحول عالمه إلى جنة معها و ماذا يريد أكثر من ذلك.
ابتسم لها رغما عنه بينما هى طالعته بغضب و حاولت قدر الإمكان أن تتظاهر بعدم الإهتمام لأمره حتى تُثنيه عن هيامه بها و لا تكون سببا فى هدم عُشه الزوجى، و دلفت سريعا إلى غرفتها و قلبها يكاد ينخلع من مكانه من فرط الحسرة على حبيب امتلكته أخرى و أصبح لا يحق لها.
بينما سفيان خيَّم عليه حزنا أكبر من تجاهلها له، و شعر بالإحباط و لم يصدق أن ملك حبيبته لا تتذكره و تتعامل معه و كأنها لا تعرفه و لم تره من قبل.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن