الفصل الواحد و العشرون

734 44 28
                                    

مازلنا بحفل افتتاح الشركة حيث الأجواء المفعمة بالحماس و السعادة، و كانت ملك من أبرز السعداء بعدما انتزعت داليا عنها الشعور بالذنب، و أثارت حبها الكامن لـ سفيان، فبعد أن تركتها ظلت تنظر له بشغف بعدما كانت تتجنبه للغاية و كأنه ليس من حقها الاقتراب منه، عقابا لنفسها على ذنب لم تقترفه.
و على الجهة الأخرى لاحظ سفيان نظراتها الشغوف له، فأصابته الدهشة البالغة من التحول المباغت فى تصرفاتها تجاهه، و لكنه تظاهر باللامبالاة التزاما بقناع الصرامة و البرود الذى تَقنَّع به فى الفترة الأخيرة.
بعد تفكير طويل و حيرة بالغة قررت ملك الذهاب إليه و تلطيف الأجواء بينهما بعد ستة أشهر من الجفاء، و لم تكد تخطو باتجاهه خطوة واحدة حتى استوقفها الأستاذ قاسم قائلا بابتسامة معجبة:
ــ ملك.
ناظرته بجدية قائلة:
ــ أيوة يا أستاذ قاسم...أى خدمة!!
اتسعت ابتسامته أكثر عندما تطلعت إليه بعينيها الخلابتين و هام بهما و بفرط جمالهما حتى تاهت منه الكلمات، الأمر الذى أثار دهشتها بالتزامن مع ضيقها من تأمله لها، فأردفت بتذمر:
ــ كنت عايز حاجة يا أستاذ قاسم؟!
تدارك حالة التيه التى أصابته و أجابها بنبرة رقيقة نوعا ما:
ــ ألف مبروك علينا افتتاح الشركة.
اغتصبت ابتسامة على ثغرها مجيبة:
ــ الله يبارك فى حضرتك يا أستاذ قاسم.
انكمشت ملامحه بضيق قائلا بتقطيبة بسيطة:
ــ ما بلاش أستاذ دى...أنا مش كبير اوى على فكرة...يعنى من سن ريان تقريبا...و بتهيألى يعنى انك بتناديله من غير ألقاب.
جزت على أسنانها بحنق ثم قالت من بين أسنانها:
ــ بس ريان ابن عمى و زى أخويا بالظبط....ميصحش منى أناديلك كدا من غير ألقاب.
و فى خضم حوارهما كان سفيان يراقبهما بعينين تقدحان شررا، و سريرة تشتعل غيرة و غضبا، لم يتحمل النظر لهما اكثر من ذلك فتوجه بالحديث لـ ريان قائلا بحدة طفيفة:
ــ شايف اللى اسمه قاسم دا بيعمل ايه؟!..يعنى أروح دلوقتى أديله بوكسين فى وشه عشان يحترم نفسه شوية.
وجه ريان نظره ناحيته فلاحظ اندماجه فى الحديث مع ملك، فلاحت منه ابتسامة ساخرة ثم نظر لـ سفيان الساخط قائلا بنبرة متهكمة:
ــ يعنى انت واخد بالك أوى من قاسم اللى بيكلم ملك اللى هى أصلا متخصكش، و مش واخد بالك من عماد اللى مش مبطل ضحك و هزار مع مراتك يا أستاذ سفيان؟!
حول نظره ناحية داليا و عماد، فلم يثير مظهرهما أى شعور بالغيرة او الضيق و كأنه أمرا عاديا بالنسبة له، ثم عاد لـ ريان و قال بعدم اكتراث:
ــ داليا دلوقتي بقت حرة نفسها و ماليش أى حكم عليها، و اللى بيربطنى بيها ملك بنتى و بس.
رفع ريان حاجبيه باندهاش قائلا بسخرية:
ــ على أساس ان ملك تخصك و ليك حكم عليها؟!
رد عليه بحدة و اندفاع:
ــ ملك تخصنى من اليوم اللى حبيتها فيه، من و هى لسة فى أولى ثانوى لما كنت بذاكرلها و بديها دروس....و قريب أوى هتبقى مراتى.
أردف ريان باستنكار:
ــ مكانش دا كلامك يعنى من يوم ما طلقت داليا...ايه اللى خلاك تغير رأيك فجأة كدا؟!
سلط نظره عليها و هى تتحدث مع قاسم ثم قال بشجن واضح فى نبرة صوته:
ــ دا كان مجرد موقف أخدته منها بس علشان أحفظ كرامتى قدامها...انما أنا مستحيل هتنازل عنها...و بعدين أنا خايف افضل أكابر قصادها لحد ما اللى اسمه قاسم دا يحوم حواليها و يخطفها منى و هو شكله كدا واد نحنوح و بياع كلام.
انفلتت من ريان ضحكة مدوية رُغما عنه و قال من بين ضحكاته المتلاحقة:
ــ ما تتنحنح ياخويا زيه...بدل ما يشقطها منك.
اتسعت عيناه بشر قائلا بغيظ:
ــ دا أنا كنت شقطت رقبته....
عاد بنظره لها مرة أخرى و أخذ يتمتم بوعيد:
ـ"ماشى يا ملك...أنا هعرفك ازاى تتكلمى و تبتسمى مع حد غيرى"
و عندما نفذ صبره و فاق الأمر إحتماله، تقدم منهما حتى وقف بمحاذاة قاسم و قال له بابتسامة حانقة:
ــ منور المكان يا أستاذ قاسم...
ثم رمق ملك بنظرات متوعدة، فابتسمت رغما عنها على مظهره المستشيط، الأمر الذى زاد من حنقه أكثر بينما الآخر لم يفهم حرب النظرات المشتعلة بينهما، و استمر فى التحديق الأبله بها.
أخذ سفيان يمرر أصابعه بين خصلات شعره بعصبية، يريد ان يصفع ذلك الأبله حتى يستفيق، فاضطر إلى أن يقبض على رسغها و يجرها خلفه و هو يقول بابتسامة سمجة:
ــ عن اذنك أصل عمى عايزها...
ثم نظر لها بشر قائلا:
ــ تعالي ورايا..
سارت معه باستسلام إلى أن ابتعدا قليلا عن مرئى أعين الناس، إلى حيث المصعد، فنزعت رسغها من قبضته قائلة بحدة:
ــ و بعدين معاك يا سفيان!!..أنا حذرتك ميت مرة من إنك تمسك ايدى كدا.
رد عليها بغضب و انفعال:
ــ و بالنسبة لوقفتك مع الأستاذ الرخم دا و ضحكك معاه، دا عادى؟!
هزت كتفيها لأعلى بعشوائية قائلة:
ــ أنا مكنتش بضحك معاه...احنا كنا بنتكلم عن الشركة و الشغل.
هز رأسه عدة مرات بسخريه قائلا:
ــ امممم......واضح جدا من نظراته إنكم كنتوا بتتكلموا فى الشغل....انتى مكنتيش شايفة كان بيبصلك ازاى؟!
اصتكت فكيها بغيظ من تحكمه الزائد بها ثم صاحت بانفعال:
ــ و انت مالك...انت بتدخل ليه أصلا...ما يمكن يكون فى بينا استلطاف و مين عالم يمكن الاستلطاف يتحول لجواز.
عند هذا الحد و لم يستطع السيطرة على غضبه الجامح، فأسرع من الخطى نحوها فعادت بظهرها إلى الخلف حتى التصقت بالجدار خلفها، ثم اقترب منها للغاية و صرخ بها دون أن يلمسها:
ــ جواز ايه اللى انتى بتتكلمى عنه!!....انتى ملكى أنا يا ملك...مش هسيبك تروحى لغيرى...انتى فاهمة!!
تمعن النظر فى عينيها قليلا و هى تناظره بملامح مشدوهة ثم قلل من حدة نبرته قائلا بخفوت:
ــ مينفعش العيون الجميلة دى تسحر حد غيرى...الملامح البريئة دى يتغزل فيها غيرى...روحك الحلوة دى متسكنش غير روحى..
قلبك الطيب ميحبش غير قلبي..انتى كلك على بعضك ملكية خاصة بيا أنا و بس.
ضغط على حروف كلماته الأخيرة و كأنه يُلقنها لها حتى تترسخ بذهنها و تضعها نُصب عينيها.
بينما هى ارتخت ملامحها، و البسمة شقت وجهها دون أن تشعر، فقد أذابتها كلماته حتى غرقت بنهر عشقه العذب، و جعلتها تحلق بسماء هيامه الصافية، و تَيّمَتها فيه عشقا و غراما فى غضون ثوانٍ قليلة، فتراقصت نبضات قلبها بين أضلعها معلنة هيمنته الكاملة عليه دون منازع.
ظل محدقا بها ينتظر منها ردا، و لكنه لم يجد منها سوى التيه و الشرود جوابا، فابتسم حتى ظهرت غمازتيه، فانحبست أنفاسها أكثر، و ازدردت لعابها بصعوبة اعجابا بجاذبية بسمته التى أهلكتها، و تداركت حالتها سريعا فدفعته من صدره بعيدا عنها ثم مرت بجانبه دون أن تنبس ببنت شفه، و قبل ان تبتعد قبض على معصمها، فوقفت و هى تنظر ليده بحنق و لكنه تجاهل حنقها مردفا بذات الابتسامة:
ــ قولى لعمى إنى هجيلكم الليلادى أطلب ايدك منه.
ازداد ارتباكها و خجلها أكثر، فترك يدها ثم فرّت بخطى متعجلة و وجنتيها متوهجتان بحُمرة الخجل.
بينما سفيان استند بجسمه إلى الحائط مكانها تماما و شرد فى طيفها و ما زالت الابتسامة الهائمة مسيطرة على ثغره، و اخذ يتمتم بهمس:
ــ أخيرا يا ملك!!...أخيرا حلم عمرى هيتحقق.
و على الجهة الأخرى كان ريان واقفا مع سلمى يتحدثان عن الشركة و مستقبلها و السعادة تغمرهما، فتجهمت ملامحها على حينِ غُرة، الامر الذي أصاب ريان بالدهشة و سألها بترقب:
ــ مالك يا سلمى!...وشك اتغير فجأة كدا ليه.؟!.
و قبل ان ترد عليه، وصله صوت أنثوي ناعم يقول بميوعة:
ــ هاى ريان بيك.
بالطبع هو يعرف صاحبة هذا الصوت تمام المعرفة، و علم حينها سر تجهم سلمى، فتأفف بضجر ثم التفت إليها قائلا بغضب مكبوت:
ــ انتى ايه اللى جابك؟!..أنا مش حذرتك قبل كدا من إنك تورينى وشك تانى؟!
رسمت ابتسامة سمجة على ثغرها و راحت تنقل بصرها بينه و بين سلمى ثم قالت بدلال:
ــ جاية أبارك لأبو أولادى على الشركة الجديدة...إيه فيها حاجة دى؟!
شدد من قبضة يده بعصبية و هو يجز على أسنانه ثم قال:
ــ الله يبارك فيكى يا ستى...شاكرين أفضالك..مع السلامة بقى.
زمت شفتيها بغضب مصطنع قائلة بنبرة عاتبة:
ــ اخس عليك يا ريان...انت بتطردنى؟!...دا بدل ما تقولى مكانك موجود فى الشركة يا سيري..
طالعها بجحوظ قائلا بسخرية:
ــ نعم يا روح بابا؟!
هزت رأسها ببراءة مصطنعه مسترسلة بنفس الغنج:
ــ امم...بتهيالى مش هتلاقى حد أحسن منى يدير معاك الشركة...و لا انت ناسى إن احنا زمايل بعثة واحدة و واخدين نفس الشهادة؟!
صاح بها بغضب مكتوم حتى لا يسمع الحضور صياحه:
ــ لاااا...دا انتى كدا زودتيها أوى...هو أنا اتجننت أشغل واحدة زيك معايا.
سلطت نظرها على سلمى التى تراقب الموقف بانتباه شديد ثم قالت بنبرة ذات مغذى و هى تشير برأسها إليها:
ــ يعنى دا آخر كلام عندك؟!
احمر وجهه غضبا من تلميحاتها السخيفة ثم التفت لـ سلمى قائلا بهمس:
ــ سلمى لو سمحتى بصى على الولاد كدا...مش شايفهم و قلقان عليهم.
اومأت سلمى بضيق، فهى قد فهمت أنه يريدها ألا تسمع أكثر من ذلك و لكنها استجابت له على مضض عازمة على استجوابه لاحقا....
بعدما تأكد من تمام ابتعادها عنهما وجه حديثا لاذعا لـ سيرين قائلا بخفوت حاد:
ــ اسمعى يا مدام سيرين...اذا كنتى فاكرة إنك هتقدرى تبتذينى بجريمتك انتى و أبوكى، يبقى انتى متعرفينيش، و متعرفيش ريان لما بيقلب بيبقى شكله إيه...و أحسنلك بلاش تعملى نفسك ذكية عليا أنا بالذات لأنك هتندمى و هتخسرى كتير أوى.
رفعت حاجبيها قائلة بسخرية و استهزاء:
ــ و يا ترى بقى شكل سيادتك التانر عامل ازاى؟!
ضيق عينيه قائلا بتوعد:
ــ تمام طالما مصرة تشوفيه اسمعى بقى و ركزى كويس...لو مبعدتيش عن طريقى و طلعتينى من دماغك، أنا اللى هحطك فى دماغى و هعيشك فى جحيم...انا عارف عنك كل حاجة و أولهم شقتى اللى انتى حولتيها لشقة دعارة انتى و فدوى صاحبتك، و اللى انتى متعرفهوش إنى مركب كاميرات فى قوضة النوم، و فيديوهاتكم القذرة معايا...كنت عامل نفسى مش عارف و ساكت و عامل حساب لأم اولادى و مش عايز أفضحها، علشان متكونيش وصمة عار فى حياتهم...بس انتى كدا جبتى آخرك معايا و مش هيهمنى أى حاجة بعد كدا...أصلا الولاد مش عارفينك و ميشرفهمش إن يكون ليهم أم زيك...ها أقول على البلاوى التانية و لا كفاية عليكى كدا النهاردة!!
توترت اوداجها و جحظت عيناها و شحب وجهها من فرط الرهبة و الصدمة، فقد كانت تظن أن ما تفعله من اعمال مخلة للآداب لن يصل إليه، و لكن حدث ما كانت تخشاه، فازدردت لعابها بصعوبة ثم أردفت بتوتر و هى تتلعثم فى حروفها:
ــ طـ طيب..يا..ريان..أنا...أنا كنت مفلسة..و..و كنت عايزة..فـ فلوس بأى طريقة..و..و..
استوقفها باشارة من كفه ثم أردف باحتقار:
ــ بس...مش عايز أسمع منك أى مبررات...لأنك ببساطة لا تعنينى بأى شيئ..انتى اللى هتشيلى شيلتك...و يلا من هنا و مش عايز أسمع صوتك النشاذ دا تانى و لا أشوف السحنة الزبالة دى هنا..فاهمة!!
أطرقت رأسها بانكسار ثم استدارت لتغادر المبنى بأكمله و هى فى حالة من الذل و المهانة ترثى لها.
بينما ريان ظل يراقبها بابتسامة انتصار إلى أن خرجت من المبنى تماما، و حينها زفر بعنف متنفسا بارتياح و كأنه أزاح عن كاهله جبالا من الهموم.
أقبلت عليه سلمى و بيديها الولدان و نظرت له بغموض تحاول أن تستشف سر الفرحة البادية على وجهه، و ما اذا كانت متعلقة بغريمتها أم لا، و لكنه التقط منها الولدان بابتسامة واسعة و أخذ يُقبلهما و يحتضنهما ثم قال لهما و كأنه يختبرهما:
ــ حبايب قلبى بتحبوا مامى قد إيه؟!
بتلقائية و ببراءة طفولية اتجهت انظارهما إلى سلمى و هما يبتسمان، فـ ردت چود برقة بالغة و نظرها مسلط عليها:
ــ أنا بحب مامى قد البحر و قد السما و قد الدنيا و قد...
قاطعها ريان و هو يضحك بسعادة:
ــ ايه دا كله...أومال خليتيلى أنا ايه؟!
نظرت له بعدم فهم فاسترسل قائلا:
ــ طاب بتحبى بابى قد ايه؟!
ضيقت عينيها بتفكير ثم قالت ببراءة و هى تشير بكلتا سبابتيها إلى عينيها:
ــ قد عينيا الاتنين دول يا بابى...
ضمها إلى صدره بحب خالص و هو يقول بعاطفة جياشة:
ــ انتى عيون بابى و روحه و قلبه كمان.
شعر چاد بغيرة طفولية فأدار وجه أبيه إليه قائلا:
ــ و انا تمان(كمان) يا بابى بحبت(بحبك) قاااااد تدا(كدا)... و فرد ذراعيه على امتدادهما.
فضحك كل من سلمى و ريان ثم التقطت چاد من على ذراع أبيه و اخذت توزع قبلاتها على وجهه ثم سألته بترقب:
ــ طاب و مامى بتحبها قد ايه؟!
قلد شقيقته فى حركة عينيها بتفكير ثم قال ببراءة و هو ينظر لذراعيه بحيرة:
ــ امممم...بحبت(بحبك)...قاااااد تدا(كدا)..
ثم فرد ذراعيه اكثر من ذى قبل...
زم ريان شفتيه بغيرة مصطنعة ثم قال:
ــ بقى كدا يا چاد!!...بتحب مامى أكتر منى!!
احتضن چاد سلمى بأقصى قوته و هو يقول:
ــ أنا بحب مامى تتير(كتير) تتير(كتير).
اتسعت ابتسامة ريان و تنهد براحة، فقد أثبت ولداه ولائهما التام لـ سلمى، الأمر الذى جعله يشعر بسعادة غامرة و أزاح عن كاهله الشعور بالذنب و التقصير معهما كونه قد حرمهما من أمهما الحقيقية.
انتهى الحفل قبيل العصر بقليل و نبه ريان على الموظفين الجدد ضرورة الالتزام بمواعيد العمل، على أن يتم البدء فى الصباح الباكر.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن