الفصل السابع و العشرين و الأخير

1.1K 52 32
                                    

بقلب خفّاق و جسد مرتجف و ملامح مترقبة و جبين متعرق، تجلس ملك قُبالة الطبيب ناجي الذى انتهى لتوه من إجراء كشفٍ شامل عليها، و ها هو يفكر من أين يبدأ لها سرد توقعاته المؤسفة حول شكواها المستمرّة من الصداع، و لكنه أمر لا بد منه، فبعد قليل من الحيرة أردف بأسف:
ــ للأسف يا ملك احتمال كبير جدا يكون الصداع دا نتيجة خلايا سرطانية بتهاجم المخ، بس اللى هيطمنا هى الأشعة...هتعمليلى أشعة رنين مغناطيسي على المخ حالا، علشان لو لا قدر الله طلعت توقعاتى صحيحة نبدأ فورا فى العلاج لأن أى تأخير مش فى مصلحتك.
اغرورقت عيناها بالدموع و تحشرجت نبرتها بالبكاء، و لكنها حاولت قدر الإمكان أن تتماسك و تصمد أمام تلك الحقيقة المريرة، فابتلعت غصة أليمة توقفت بحلقها و قالت بأسى:
ــ يعني هاخد علاج كيماوى تانى يا دكتور؟!
زم شفتيه بأسف و هو يوميئ برأسه قائلا:
ــ مفيش قدامنا حل تانى....أتمنى بس إنه لو كانسر يكون فى مراحله الأولى علشان نقدر نسيطر عليه.
أغمضت ملك عينيها بألم و حسرة، فقد كاد قلبها أن يتوقف من فرط الصدمة رغم سابق توقعها، و لكنها كانت تُمنى نفسها بأنها ربما تكون مخطئة، بينما سلمى ترمقها بعينين دامعتين حزنا عليها و تألما لأجلها، و قالت لها بنبرة حزينه:
ــ مستنية ايه يا ملك؟!... قومى بسرعة نروح نعمل الأشعة.
بادلتها ملك بنظرة يائسة و ملامح بائسة و كأنها تقول لها"و ما الجدوى....لقد انتهيت و هوت أحلامى لسابع أرض".
فهمت سلمى نظرتها الخاوية فنهضت من مكانها و جذبتها من معصمها و هى تصرخ بها بإصرار:
ــ قومى يلا يا ملك...متستسلميش لليأس و تخليه يتمكن منك..."لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون".
دعم كلامها الدكتور ناجى قائلا بنصح:
ــ مدام سلمى معاها حق يا ملك...الوقت لسة فى ايدينا و ان شاء الله خير...
وقفت ملك و قالت و هى تشهق ببكاء:
ــ استغفر الله العظيم...رب لا أسألك رد القضاء و لكنى أسألك اللطف فيه.
ربتت سلمى على كفها قائلة بحنو:
ــ أيوة كدا يا ملك...هو دا اللي المفروض نقوله فى شدة زى دى...ربنا يفرج كربك يا حبيبتى و يهون عليكي مصابك...و مين عارف يمكن ميكونش فيه حاجة..
هزت ملك رأسها بإيجاب ثم نظرت للطبيب قائلة بامتنان:
ــ شكرا يا دكتور...ان شاء الله هعمل الأشعة و أرجع لحضرتك تانى..
أومأ الطبيب قائلا بجدية:
ــ تمام و أنا فى انتظارك...بس اوعى تأجلى الأشعة يا ملك.
أجابته بنبرة ضعيفة خافتة:
ــ هعملها حالا ان شاء الله.
استدارت الفتاتان باتجاه الباب لتغادرا، و لكن ملك توقفت فجأة حين تذكرت تلك المضغة العالقة بأحشائها، و هتفت بذعر:
ــ الحمل!...الحمل يا سلمى.
كممت سلمى فمها بيدها و شهقت بصدمة، فعادت ملك مرة أخرى للطبيب تسأله بهلع:
ــ دكتور ناجى انا نسيت أقول لحضرتك إنى حامل.
اتسعت عيناه على آخرهما ثم سألها بترقب:
ــ حامل فى الشهر الكام؟!
ردت سلمى بدلا عنها:
ــ هى لسة عارفة النهاردة يا دكتور..يعنى تقريبا كدا فى بداية الشهر التانى.
تجهمت ملامح الطبيب بحزن بالغ ثم قال لها:
ــ اتفضلوا اقعدوا تانى.
جلستا كل بمقعدها مرة أخرى فى انتظار ما سيقوله الطبيب، الذى سكت مليا ثم قال بجدية:
ــ دلوقتي الاختيار فى ايدك انتى...أولا الأشعة مش هينفع تعمليها و انتى حامل، و فى نفس الوقت الأشعة دى هى الفيصل اللى هيخلينا نشخص حالتك صح، ثانيا لو ثبت فعلا إن الكانسر رجع تانى بردو مش هينفع تاخدى العلاج الكيماوى مع الحمل، يعنى فى كلتا الحالتين الحمل فى خطر و غالبا لازم تنزليه قبل ما نبدأ فى أى خطوة.
انكمشت ملامح ملك بألم بالغ و حسرة قاتلة و الدموع تنحدر من مقلتيها و هى لا تشعر بها، ارتجفت شفتاها و تعلقت غصة أليمة بحلقها ابتلعتها بصعوبة ثم قالت بتحسر:
ــ و لو عايزة أكمل الحمل و بعدين أبقى أكشف و أتعالج ايه اللى هيجرى؟!
رد الطبيب بنبرة حازمة:
ــ يبقى انتى كدا بتحكمى على نفسك بالموت.
أجابته بحدة طفيفة جراء جرحها الوَعِر:
ــ بس احنا مش متأكدين ان دا كانسر...ما يمكن يكون فى سبب تانى...أضحى بابنى علشان شوية احتمالات يا تطلع صح يا تطلع غلط؟!
رمقتها سلمى باندهاش من حدتها التى لم تعهدها فيها من قبل و همست لها قائلة:
ــ ملك اهدى شوية...الدكتور عايز مصلحتك.
طالعها باشفاق بينما استرسل بنبرة يشوبها الجدية و الترهيب:
ــ ملك الأعراض اللى انتى بتقوليها دى بتأكدلى إن دا كانسر بنسبة ٥٠٪، و متستهونيش بالنسبة دى، بس فى كل الأحوال مينفعش أشخص بدون أشعة.
دفنت ملك وجهها بين كفيها و أجهشت فى بكاء مرير مزق نياط قلوبهم، فجسدها بأكمله يرتجف، و شهقاتها تعلو و تأِن من الحزن و الألم، فبكت سلمى على حالها و انفطر قلبها لأجلها و نهضت لتأخذها بين أحضانها و ربتت على ظهرها بمواساة و هى تقول:
ــ ملك متخافيش احنا جنبك و معاكى مش هنسيبك، و بكرة لما تخفى ان شاء الله ربنا هيعوض عليكى بالذرية الصالحة..أهم حاجة صحتك دلوقتي...سفيان مش حمل فراق تانى يا ملك...المرادى ممكن يروح فيها بجد.
علت شهقاتها أكثر على ذكر سفيان و ازداد ارتعاش جسدها، فنظرت سلمى للطبيب و قالت بحرج:
ــ احنا آسفين يا دكتور ان احنا معطلينك.
أماء لها برأسه قائلا بسعة صدر:
ــ و لا يهمك يا مدام سلمى...أنا مقدر طبعا الحالة اللى هى فيها.
نهضت ملك باندفاع و خرجت من غرفة الكشف بخطوات متعجلة، فلحقت بها سلمى إلى أن غادرتا العقار بالكامل و ركبتا تاكسى عائدتان إلى المنزل.
عند بوابة المنزل استوقفتها سلمى و هتفت بها بجدية:
ــ ناوية على ايه يا ملك..
أجابتها بنبرة باكية:
ــ مضطرة أحكى لسفيان كل اللى حصل عند الدكتور...لازم ياخد قرار معايا...لان اللى فى بطنى دا يبقى ابنه زى ما هو ابنى و من حقه يقرر اذا كان عايزه و لا لأ..
لم تنتظر رد سلمى و صعدت مباشرة إلى شقتها، بينما سلمى تنظر فى أثرها بحزن بالغ و هى تهز رأسها بأسى، ثم صعدت هى الأخرى إلى شقتها.
بمجرد أن فتحت ملك باب شقتها و ولجت إلى الداخل، خرج لها سفيان من غرفة مكتبته، و ما إن رأته حتى خارت قواها و هوى ثباتها الزائف و هرولت إليه ترتمى بين أحضانه، ثم انفجرت فى بكاء و نحيب و جسدها يهتز بشدة بين ذراعيه، الأمر الذى أصابه بالذعر، و بث الرعب فى أوصاله، فشدد من احتضانها و هو يقول بقلق بالغ:
ــ مالك يا ملك... فى ايه.؟!.. ايه بس اللى حصل...؟! بطلى عياط و فهمينى الله يخليكى هموت من القلق.
لم ترد و انما تركت عينيها الذارفتان بغزارة ترد بدلا عنها، مما زاده قلقا و ذُعرا، فأخذ يجذبها بعيدا عن حضنه لكى يحدثها، إلا أنها أبت أن تتجاوب معه، و تشبثت به أكثر و هى تدفن وجهها الباكى فى عنقه و ما زالت مستمرة بالبكاء و النحيب، فلم يجد بدا من حملها على ذراعيه بحركة سريعة باغتتها، و لكنها استسلمت له، و أخذها و سار بها إلى إحدى الأرائك الكيبيرة الكائنة بالصالة و وضع جسدها الممدد عليها برفق بالغ، ثم نزل على الأرض بركبتيه مستندا بذراعيه إلى الأريكة بجوارها، ثم قام بفك حجابها و حرر شعرها من عقدته و قد هدأ بكائها نوعا ما و لكنها مطبقة الجفنين، فأخذ يمسد على شعرها بحنو و هو يقول:
ــ كدا يا ملك تقلقينى عليكى...مالك بس يا حبيبة قلبى...افتحى عينيكى و احكيلى دا أنا حبيبك.
أخذت تجفف دموعها بكُميها، ثم قالت من بين شهقاتها الخافتة و هى تنظر إليه مباشرة:
ــ الصداع اللى كان بيجيلى احتمال كبير يكون كانسر، و الدكتور طلب منى أشعة على المخ، بس أنا لسة عارفة النهاردة إنى حامل و الدكتور قالى اختارى يا إما الحمل يا إما صحتى و يمكن حياتى...
صدمة...صدمة احتلت جوارحه، مع ذهول و عدم تصديق لِما يسمعه بأُم أذنيه، و لكنه حاول أن يتدارك حاله حتى لا يثير حزنها أكثر، فازدرد لعابه بصعوبة متخطيا غصة أليمة عالقة بحلقه و قال بنبرة حاول أن تبدو هادئة:
ــ ان شاء الله يا حبيبتى هيكون خير و الكانسر مش هيرجعلك تانى و هتكونى كويسة...طول ما انا جنبك اوعى تخافى يا ملك و لا حتى من المرض...
أدمعت عيناه و هو يسترسل حديثه بحسرة قاتلة و ألم بالغ:
ــ و حتى لو كان كانسر ايدى فى ايدك و هنحاربه سوا و انتى اللى هتنتصرى عليه فى الآخر ان شاء الله.
ردت عليه بنبرة متألمة:
ــ و ابننا اللى فى بطنى يا سفيان...هنضحى بيه بالسهولة دى؟!
أجابها و هو يزيل دمعة متمردة من عينه قائلا:
ــ ابننا ربنا هيعوضنا بغيره ان شاء الله، إنما انتى متتعوضيش يا ملك و لا بكل بنات العالم و لا بكل كنوز الدنيا...ملك فراقك المرة دى معناها موتـ...
أسرعت بوضع كفها على فمه تمنعه من إكمال حديثه و قالت بلهفة:
ــ متكملش يا سفيان...ان شاء الله هتعالج و هكون كويسة و هنكمل حياتنا سوا و هنجيب ولاد كتير يملوا علينا الدنيا.
أحاط وجنتيها بين كفيه و قال و هو يبتسم بأمل من بين ملامحه الحزينة و قال:
ــ ان شاء الله يا حبيبتى هيكون ابتلاء و ربنا هيجبر خاطرنا و هيعدى.
اومأت و هى تبادله بسمة الأمل، فنهص و اوقفها معه و قال بجدية:
ــ قومى يلا اغسلى وشك و البسى طرحتك تانى على ما أكون انا لبست علشان نشوف دكتور نسا كويس علشان.....علشان ننزل الجنين.
انكمشت ملامح ملك و همت بالبكاء بعد كلامه الأخير، إلا أن سفيان صاح بها بحدة و حزم:
ــ متعيطيش...مش عايز أشوف دموعك دى تانى...قولتلك انتى أغلى عندى من أى حاجة...و بعدين أكيد الجنين لسة مفيش فيه نبض و هيكون الموضوع سهل ان شاء الله.
هزت رأسها بايجاب عدة مرات ثم تركته و توجهت للمرحاض، بينما هو دلف غرفة نومه بتثاقل و ألقى بجسده على الفراش بعدما هوى قناع صموده و ثباته، اهتز جسده و هو يتأوه بألم و حسرة قائلا و هو يبكى:
ــ اه يا ملك...اتحملتى كتير اوى و لسة بتآسى...يا ريتنى كنت مكانك على الأقل كنت اتحملت عنك شوية...
بعد دقائق معدودة نهض من الفراش و اتجه إلى خزانة ملابسه و هو يتمتم بصوت منخفض ندما على ما تفوه به:
ــ أستغفر الله العظيم...يا رب سامحنى و هون عليها و اشفيها يا رب و متوجعش قلبى عليها تانى...اللهم آمين.
بعد مرور حوالى ساعة كان ملك و سفيان يجلسان أمام طبيب الأمراض النسائية بعدما شرح له حالتها و اوضح ضرورة إجهاض الجنين حفاظا على حياتها، و ها هو يكتب الأدوية الموصوفة ثم ناولها لسفيان و هو يقول:
ــ الحمل لسة فى اوله و ان شاء الله هينزل بالأقراص اللى كتبتها دى و مش هنحتاج لعمليات اجهاض.
أومأ سفيان بموافقة و هو يقول:
ــ تمام...متشكر جدا يا دكتور.
الطبيب:
ــ العفو...لو فى أى حاجة اتصل بيا فورا.
اومأ بامتنان ثم قال:
ــ الف شكر يا دكتور....عن إذنك.
أحاط كتفيها بذراعه و أخذها و نزل من العقار، و قبل أن يستوقف سيارة أجرة، قالت له:
ــ هنروح فين دلوقتي؟!
أجابها بجدية:
ــ هنروح دلوقتى نعمل الأشعة اللى دكتور ناجى طلبها قبل ما تتعبى من الاجهاض و منقدرش نروح...و لو استلمنا تقارير الأشعة الليلادى نطلع بيها على الدكتور ناجي و نبدأ فورا فى العلاج... مفيش داعى للتأجيل.
هزت رأسها باستسلام تام، فقبض على كفها بتملك و هو يناظرها بقلب منفطر ثم استوقف سيارة أجرة و انطلقوا إلى مركز الأشعة.
اقترب الليل على الانتصاف و ها هما ملك و سفيان يجلسان أمام الدكتور ناجي و هو يتفحص الأشعة بتركيز شديد، و ما إن انتهى حتى تطلع إليهما بتجهم قائلا بأسف:
ــ زى ما توقعت يا أستاذ سفيان....فى خلايا سرطانية بتهاجم المخ بس اللى مطمنى إنه الحمد لله مش منتشر و لا متشعب، هو بس متركز فى بؤرة معينة و فى الحالة دى العلاج هنلاقى منه نتيجة سريعة...متقلقيش خالص يا ملك...الحمد لله إن احنا هنبدأ العلاج بدرى فى المرحلة الأولى و دا هيوفر علينا كتير جدا.
ازدرد سفيان لعابه بصعوبة بعدما جف حلقه من فرط الصدمات و سأله بترقب:
ــ و العلاج؟!....هيكون كيماوى بردو يا دكتور؟!
أومأ الطبيب بأسف و هو يقول بشفتين مزمومتين:
ــ أيوة يا أستاذ سفيان.
أغمض عينيه و قلبه يخفق بقوة بين ضلوعه من شدة الألم، حين ورد على ذهنه صورتها الذابلة التى خلَّفتها تلك الأدوية اللعينة، ناهيك عن الألم النفسى و الجسدى، بينما هى لا تعى بعد قسوة هذا النوع من العلاجات، فهى لا تتذكر أيامها السابقة أثناء تلقيها له، ربما تلك رحمة من الله و فضل، فهى بذلك ستعانى و كأنها تعانى للمرة الأولى و ليست الثانية، بل الويل لـ سفيان، فهو من عانى معها مأساتها الاولى، و ها هو يعانى معها مأساتها الثانية.
أعطاها الطبيب مدة ثلاثة أيام لحين نزول الجنين ثم البدء فى بروتوكول العلاج الكيميائيّ.

لقد وصلت إلى نهاية الفصول المنشورة.

⏰ آخر تحديث: Apr 17 ⏰

أضِف هذه القصة لمكتبتك كي يصلك إشعار عن فصولها الجديدة!

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن