الفصل الرابع عشر

650 40 15
                                    

فى مساء اليوم التالى شعر ريان بالضيق و الإختناق من أفعال زوجته الهوجاء، فمنذ أن أتت معه و هى قابعة بالشقة و لا تريد مساعدة والدته فى اعداد الطعام و لا حتى الجلوس معهم و كأنهم ميكروبات تخشى عدواهم، و مهما يوبخها أيضاً لا تستجيب، إلى أن نفذ صبره و ترك لها المنزل بأكمله و هبط للأسفل، سار فى الطريق بلاهدف أو وجهة محددة، إلى أن وجد حاله قريب من المشفى و اصطدم بـ سلمى التى كانت عائدة لتوها من مناوبة الظهيرة، فسار بإتجاهها حتى وقف بمواجهتها قائلا بحدة:
ــ انتى راجعة بالليل لواحدك ليه؟!
هزت كتفيها بعدم اكتراث مجيبة:
ــ عادى أنا متعودة على كدا..
رد بجدية:
ــ طاب امشى معايا هوصلك.
هزت رأسها بنفى قائلة برفص قاطع:
ــ لا شكرا.. مش محتاجة حد يوصلنى... أنا عارفة طريقى كويس..
نظر لها بعينين متسعتين من الغضب و قال بغضب مكتوم:
ــ امشى معايا بالذوق بدل ما أعلى صوتى و الناس كلها تتفرج علينا...
تأففت بضيق و سارت معه باستسلام، فهى تعرف أنه عنيد و لا يأبه لشيئ...
خيّم عليهم الصمت لحوالى خمس دقائق، إلى أن باغتها قائلا و هو ينظر للطريق أمامه:
ــ وحشتيني..
ازدردت لعابها و لم ترد فاسترسل حديثه قائلا بوجع:
ــ ليه عملتى فينا كدا.؟!..ايه هو السر الخطير اللى انتى مخبياه و خلاكى تسيبني؟!
لم تنظر له و لم ترد عليه، فقط كلماته تُمزق بقلبها و تُحرك الحزن الكامن بصدرها.
استرسل بمزيد من اللوم و العتاب:
ــ كان زمانا متجوزين من أربع سنين فاتو... كان زمان چود و چاد ولادنا أنا و انتى..
عند هذا الحد و خارت قواها و انهارت أعصابها و صرخت به بصوت مرتفع:
ــ لو كنا اتجوزنا من اربع سنين استحالة هيكون فى چود و چاد و لو عيشنا مع بعض ميت سنة...ارحمنى بقى و ابعد عنى...
ثم تركته بذهوله و تحركت بخطى سريعة أشبه بالركض، و العبرات تنهمر من مآقيها بحسرة، و هو محدق بأثرها بأنفاس متلاحقة و قلبه يكاد يهرع من صدرعه من فرط الصدمة، يحاول استيعاب معنى كلماتها و هو يهز رأسه بعدم تصديق، فلحق بها سريعا إلى منزلها و لكنها سبقته و دخلته قبل أن يلحق بها، طرق الباب ففتحت له فاطمة و تعجبت من ملامحه المنفعلة و وجهه المحمر، و أجزمت أنه سبب بكاء ابنتها التى عادت من عملها للتو.
دلف ريان و أغلق الباب تحت نظرات فاطمة المترقبة و قال لها بانفعال:
ــ أنا عايز أعرف كل حاجة...أنا مش متحرك من هنا غير لما اعرف السبب اللى خلاها تسيبنى من خمس سنين..
ازدردت فاطمة لعابها بتوتر ثم قالت:
ــ اهدى بس يابنى كدا و صلى على النبى...خلاص بقى يا ريان اللى فات مات و انت دلوقتي بقيت راجل متجوز و معاك ولادك ربنا يخليهملك..
استرسل بنفس الحدة:
ــ بقولك أنا مش ماشى من هنا غير لما أعرف الحقيقة...بنتك بتقولى لو كنا اتجوزنا مكانش هيبقى فى ولاد...أنا عايز أفهم دا معناه ايه؟!
أطرقت فاطمة رأسها بحزن بالغ و لم تقوى على الرد، الشيئ الذى أثار غضبه أكثر و هدر بانفعال:
ــ حد يرد عليا و يفهمني...
بينما سلمى تستمع له من غرفتها و هى تبكى بنحيب، فاضطرت فاطمة أن تخبره ببعض الحقيقة فقالت له بنبرة حزينة:
ــ أنا هقولك علشان قلبك يرتاح و تفهم كل حاجة...
نظر لها بترقب و خوف فى آن واحد إلى أن أردفت بوجع:
ــ بعد ما انت سافرت البعثة بـ ٦ شهور، سلمى عملت حادثة و هى راحة الشغل بالليل و الحادثة عملتلها نزيف شديد من الرحم و لما اتنقلت المستشفى الدكاترة عملولها استئصال للرحم علشان ينقذوها من النزيف و الدكتور حسام هو اللى عملهالها و كان عارف ظروفها، و بعد ما فاقت قعدت تعيط و صممت إن محدش يعرفك و إنها هتفسخ الخطوبة بأى حجة علشان متحطكش فى اختيار صعب، و لا تحس بكسرة النفس لو انت سيبتها للسبب دا، و لا تحس بالذنب لو كملت معاك و تحرمك من الخلفة...و كلنا وعدناها ان محدش هيقولك و الباقى انت عارفه.
صدمة...صدمة موجعة ضربت رأسه بلا رحمة، يشعر أن الدنيا تهيم به و تصفعه بقسوة، حتى اغرورقت عيناه بالعبرات و قال بصوت متحشرج:
ــ كل دا يحصلها و أنا نايم هناك على ودانى...لا و كمان ظلمتها و سمعتها أسوأ كلام ممكن تسمعه، و اتجوزت غيرها و عيشت حياتى و هى موجوعة و أنا مش حاسس!!...طاب ليه تخبى عليا!!.ليه مسابتليش فرصة أختار...ليه اختارت هي بالنيابة عنى...لييييه!!
خرجت سلمى و ردت عليه ببكاء:
ــ و أديك عرفت أهو يا ريان...و الحمد لله ربنا رزقك بأولاد و عرفت معنى انك تكون أب و حسيت بالنعمة دى...ممكن تقولى بقى لو كنا اتجوزنا و قبلت بوضعى دا كان هيبقى احساسك ايه و انت عارف انك مستحيل هتكون أب؟!
ألجم ذلك السؤال لسانه و لم يقوى على الرد أو بالأحرى شُلَّ تفكيره و لم يجد ردا مناسبا، فلاحت منها ابتسامة ساخرة ممزوجة بالوجع و قالت:
ــ شوفت؟!..مش عارف ترد....علشان تعرف ان عاجلا أو آجلا كنا هننفصل بس أنا اختصرت علينا الطريق...و مع ذلك متعرفش أنا مبسوطة قد ايه ان ربنا رزقك بالذرية، و حاسة كأنهم ولادى أنا، و بحبهم على قد محبتى ليك... للمرة المليون بقولك انسانى بقى يا ريان و طلعنى من دماغك و انتبه لولادك و بيتك، و يا ريت دا يكون آخر كلام بينا و تلتزم بيه زى ما أنا نفذت طلبك من سنتين و موريتش وشى ليك فى أى زيارة منك لعيلتك...
ألقت بعبارتها الأخيرة و عادت إلى غرفتها و أغلقتها و تركته ينظر فى أثرها بحزن و إشفاق بالغين، ثم اولاها ظهره و غادر المنزل دون أن يُزد حرفا واحدا و هو فى حالة يرثى لها، فقد ازدادت محبته لها أضعافا، فأى حبٍ هذا الذى يجعلها تضحى بسعادتها و هنائها بحبيبها من أجله و من أجل عدم حرمانه من الأبوة، حقا لقد علت فى نظره علو السماء و أصبحت له كالنجمة اللامعة التى تزين سماء عشقه، و لكن وااأسفاه من طول المسافة بينهما، فمن يستطيع الإمساك بنجمة لامعة بين الغيامات.

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن