الفصل السادس و العشرين

652 36 15
                                    

مرت ثلاثون يوما كان سفيان يعمل فيها على قدمٍ و ساق، حتى ينتهى من اعداد الشقة الجديدة قبل موعد الزفاف المحدد، كانت مقابلاته مع ملك قليلة نظرا لشدة انشغاله ما بين الشقة و مسؤليته الشاقة فى الشركة، و فى أغلب الأحيان يكتفى بالتحدث معها عبر الهاتف.
أما ملك فقد كانت منشغلة أيضا بتجهيز متطلبات الشقة و بقية أغراضها من الملابس و المفروشات و غيرها، و قد ساعدتها سلمى كثيرا فى ذلك.
ما زالت شكواها من الصداع مستمرة و لكنها أبت أن تخبر أى من أبيها أو سفيان حتى لا تُثير قلقهما، و اكتفت بتناول الأقراص المسكنة كلما داهمها هذا الصداع اللعين.
اليوم هو يوم الزفاف المنتظر المقام فى أحد أشهر القاعات النيلية بمدينة المنصورة، أجواء من السعادة العارمة أحاطت بالعروسين، بدا سفيان و كأنه عريسا للمرة الأولى، و لما لا فهو لم يتخطى بعد التاسعة و العشرين من عمره، فقد تزوج من داليا فى سن صغيرة عقب تخرجه من الجامعة بأشهر قليلة.
بينما ملك العروس الملائكية غمرتها الفرحة و حملتها على أجنحة الحب محلقة بها فى سماء حبيبها و زوجها الذى انتظرت اقتران اسمه بإسمها طويلا، و ها قد آن الأوان.
استمر الحفل إلى قبيل منتصف الليل تقريبا، حضره أفراد العائلتين عدا داليا و أمها، و جميع موظفي الشركة من أكبر موظف إلى أصغر عامل، استمرت المراسم حتى أحست ملك بقليل من الصداع فطلبت من سفيان انهاء الحفل بحجة أنها مرهقة قليلا من زحام اليوم بما فيه من قضاء فترة طويلة بمركز التجميل و قضاء فترة أخرى فى جلسة التصوير، فرحب بذلك الطلب، فهو ينتظر اللحظة التى سينفرد فيها بها و يُقفل عليهما باب واحد، ليختلى بها و يغرقها معه فى بحور عشقه و يذيقها من حلاوة حبه و حنانه.
و أخيرا وصلا شقتيهما و بعد التهانى و المباركات من شقيقه و والديه، دخلت ملك الشقة أولا تبعها سفيان و أغلق الباب و استند بظهره إليه من الداخل، و أخذ يتطلع إليها بهيام و عدم تصديق فى آن واحد، و البسمة العريضة مرتسمة على ثغره.
ترك مكانه و تقدم منها بخطوات بطيئة بينما هى تقف على بعد خطوات منه و هى مطرقة الرأس فى خجل، و كلما اقترب منها كلما تسارعت نبضات قلبها خجلا و رهبة من الموقف برمته، حتى وقف قبالتها و رفع وجهها براحتى يديه التى حاصرت وجنتيها لتكون بمواجهته، ثم انحنى عليها و قبل ما بين عينيها بحركة بطيئة ثم عاد ينظر لها بتمعن لكل تفصيلة من ملامحها الجميلة و قال لها بهمس مثير:
ــ مبارك عليا أحلى عروسة فى الكون كله.
ابتسمت بخجل و قالت:
ــ مبارك عليا انت يا أطيب و أحن سفيان فى الدنيا.
اتسعت ابتسامته بعشق قائلا:
ــ انتى الطيبة اتخلقت من قلبك و الحنان اتخلق لروحك الحلوة...انتى رفيقة دربي فى الدنيا و حورائى فى الجنة بإذن الله يا ملك.
تنهدت بهيام أمام تيار عشقه الجارف و أخذت تهز رأسها بيأس من نفسها و هى تقول:
ــ أنا فعلا لسانى عاجز عن الرد...مش عارفة أجارى كلامك اللى أشبه بالشِعر، مبعرفش أقول كلام جميل زيك كدا بس قلبى مليان حب ليك يكفينا العمر كله و يفيض.
جذبها برفق بالغ إلى صدره و أخذ يمسد على حجابها الأبيض اللامع و هو يقول مبتسما:
ــ عارف يا ملك...عارف و حاسس بكل اللى فى قلبك لأنه ميزيدش أبدا عن اللى شايلهولك فى قلبى من سنين...ميهمنيش تجارينى فى الكلام لأن كلامى ليكى نابع من صميم قلبى و بعبرلك بيه عن حبى و مش مستنى منك أى رد...أنا أقول و انتى تسمعى...مش عايز منك أكتر من كدا...ابتسامتك الجميلة دى بتوصلى كل الردود اللى بيكون نفسك تقوليها...روحى حاضنة روحك و بتحس بيها أوى يا أغلى من روحى.
تنهدت ملك بعمق و رأسها مستقر على صدره و راحت تشدد من تشبثها بسترة حلته من الخلف كرد فعلى طبيعى بعد استماعها إلى كلماته المُسكرة، فاتسعت ابتسامته أكثر بعد فعلتها و استند بذقنه إلى رأسها و قال بحنو:
ــ تعالى يلا نغير هدومنا دى علشان نتوضا و نصلى و نبدأ حياتنا بالدعاء علشان ربنا يباركلنا فى أيامنا.
تركت سترته و ابتعدت عنه قليلا و تطلعت إليه بابتسامة مشرقة و قالت:
ــ ماشى يلا....بس...احم..ممكن تساعدنى فى فك الحجاب؟!...أصله مليان دبابيس كتير أوى.
ــ بس كدا!!..انتى تؤمرينى يا نور عيني.
قبض على كفها و سارا إلى غرفة النوم و أجلسها أمام المرآة و بدأ فى استخراج الدبابيس واحدا تلو الآخر، إلى أن أزال الحجاب تماما، ثم قام بفك عقدة شعرها لينسدل أمامه على ظهرها، متطلعا إليه بإعجاب واضح، فأمسك رأسها بين يديه و انحنى ليقبل شعرها و قال بابتسامة معجبة:
ــ ها كدا مهمتى خلصت و لا لسة عايزة مساعدة تانية؟!
أخذت تفرك كفيها بتوتر و هى تقول بتردد شديد:
ــ ها..اممم...اه.
ضيق جفنيه بترقب قائلا:
ــ عايزانى أفتحلك السوستة بس مكسوفه...مش كدا؟!
هزت رأسها بموافقة دون أن ترد و هى فى قمة خجلها، فابتسم بسخرية من خجلها و شرع فى فتح سحاب الفستان و ظل يعبث به و يحركه صعودا و هبوطا فى بادئ الأمر و كأنه معطل، ليُثير خجلها أكثر و يرى توترها مستمتعا بذلك الأمر، فقالت له بحدة طفيفة و وجنتيها تشتعلان من الخجل:
ــ سفيان انت بتعمل ايه؟!
أجابها ببراءة مصطنعة و بنبرة ماكرة:
ــ مش عارف... السوستة معلقة مش راضية تفتح.
تأففت بتذمر و لكنها صدقته و جلست مستسلمة له تمام و هو يبتسم بمكر محاولا كبت ضحكته بصعوبة، إلى أن رأف بحالها و فتحها بالفعل و بدأ يظهر أمامه ظهرها العارى، حيث كان الفستان من النوع المغلق و بأكمام طويلة، انحبست أنفاسه ما إن رأى بشرتها الناعمة، و بمجرد أن شعرت بأنفاسه تلفح بشرة ظهرها قامت منتفضة من المقعد و استدارت له و هى تقبض على مقدمة الفستان من الأمام حتى لا يسقط أمامه و قالت بتوتر و خجل:
ــ خلاص.. كدا كفاية...أنا.. أنا هعرف أكمل لوحدى.
طالعها بابتسامة ماكرة و لم يتحرك قيد أنملة، بل نزع عنه سترة حلته ثم فك أزرار كمه و قام بثنيه عدة ثنيات ثم بدأ فى نزع رابطة العنق تلاها فك أزرار قميصه واحدا تلو الآخر، كل ذلك تتابعه بعينين متسعتين من الصدمة، و عند قرب انتهائه من فك ازرار القميص تركت فستانها متناسية إمكانية سقوطه و أشارت بكفها أمام وجهه و هى تقول بهلع:
ــ انت...انت بتعمل ايه؟!..انت قولت هنصلى الأول.
هز كتفيه لأعلى بعدم اكتراث و زم شفتيه قائلا بلامبالاة:
ــ عادى..
احتدت نبرتها بانفعال صارخة به:
ــ هو ايه اللى عادى...نسيت كلامك برا و انت بتقول نبدأ حياتنا بالدعاء و الصلاة علشان ربنا يباركلنا؟!
لوى شفتيه لجانب فمه بابتسامة ساخرة ثم قال ببرود:
ــ و أنا لسة عند كلامى..
قطبت جبينها باستغراب من تناقض كلامه مع فعله، فابتسم على مظهرها ثم قال بمكر:
ــ أنا بخلع الجاكيت و بشمر كمى علشان أعرف اتوضى...مش معقول يعنى هتوضى بجاكيت البدلة...و لا انتى دماغك راحت لفين.
ارتخت ملامحها قليلا بارتياح ثم أردف بجدية:
ــ أنا خارج أتوضى فى الحمام على ما تكونى غيرتى هدومك...و بعدين هبقى اغير انا و نصلى جماعة ان شاء الله.
غمزها بعين واحدة و تركها بصدمتها و خرج إلى المرحاض، فنظرت إلى أثره بابتسامة خجلى و وقفت أمام المرآة و راحت تضرب رأسها و هى تلوم و توبخ حالها قائلة:
ــ يخربيتك يا ملك انتى مخك راح فين..
صفى النية..ها...صفى النية.
ثم شرعت فى تبديل الفستان مرتدية بيجامة حريرية محتشمة إلى حد ما، و خرجت إلى المرحاض لكى تتوضأ، فخرجت من الغرفة فى نفس لحظة خروج سفيان من المرحاض، فابتسم لها بحب و اعجاب ثم قال:
ــ هغير و أجيلك.
أومأت له بموافقة دون رد و بعد دقائق كان يؤمها مصليا بها صلاة العشاء ثم صليا ركعتين شكر لله و بعدما انتهيا وضع يده على رأسها مرددا دعاء الزواج: "اللهم انى أسألك خيرها و خير ما جُبلت عليه، و أعوذ بك من شرها و شر ما جُبلت عليه" ثم استرسل دعواته بدوام الصحة لها و السعادة و البركة لهما و أن يرزقهما الله بالذرية الصالحة.
نهض من جلسته و أنهضها معه، ثم قام بفك حجاب إسدالها و جسدها يرتجف من فرط الرهبة، فأحس باهتزاز جسدها أمامه، فقبض على كفيها و قال لها بعتاب:
ــ فى واحدة تخاف من حبيبها اللى بيعشقها و مستعد يفديها بروحه؟!
ازدردت لعابها بصعوبة ثم قالت بتوتر:
ــ سفيان..أنا..أنا...مش عارفه أشرحلك ازاى...بس أنا مكسوفة أوى.
ابتسم بحنو قائلا:
ــ طاب ما أنا عارف إنك بتتكسفى...
احتضنها باشتياق و حب ثم قال و هى بين ذراعيه:
ــ أنا كفاية عليا أوى انك بقيتى ملكى و من حقى ألمسك و أخدك فى حضنى و أنام...يكفينى إن عينى تشوفك ليل و نهار و فى أى وقت....إنك اتكتبتى على اسمى و هتقضى معايا اللى باقى من عمرى...مش عايز أكتر من كدا يا ملك صدقينى...عمر ما كان حبى ليكى حب رغبة أو حب شكل او جسم...لا لا...دا عشق روح لـ روح...قلب لـ قلب...عشق سفيان لـ ملك.
تنهدت بارتياح و هى تبتسم بسعادة ثم ابتعدت عنه قليلا لتنظر فى عينيه بعمق قائلة بعشق جارف:
ــ أنا كل لحظة بتعدى عليا بحبك أكتر و أكتر و أكتر.
جذبها مرة أخرى إلى صدره و شدد من احتضانها ثم ابعدها قليلا و قال بنبرة مرحة:
ــ مش هتقلعى الإسدال دا بقى..؟!
أومأت و هى تبتسم بخجل ثم قامت بنزعه و ألقته على أقرب كرسى لها، فباغتها بحملها بين يديه فى حركة سريعة منه، و هى تصرخ من فرط الفزع من فعلته المفاجئة، ثم خبأت وجهها فى عنقه و هى تلف ذراعيها حوله، بينما هو يضحك بسعادة عارمة و سار بها إلى غرفة النوم.....

ما لىَ لا أنساكِ (لـ/دعاء فؤاد) حيث تعيش القصص. اكتشف الآن