ارتياع مُبكٌر . 2

108 6 0
                                    


.

في مقاطعة ( ستيريا ) - أو قلب النمسا الأخضر ؛ كما سمي ، نقطن في قلعة برغم أننا لسنا متر الحال على الإطلاق ، بيد أن أقل دخل في هذه الرقعة من الأرض يحقق لك الرخاء وأن ثمانمائة أو تسعمائة جنيه في العام كفيلة بتحقيق العجائب . والدي بريطاني الأصل والمولد وأنا ايضا أحمل اسما بريطانيا على الرغم من أنني ما خلت إنجلترا قط ، لكنني لم يخيل لي إطلاقا كيف يمكن المزيد من المال أن يزيد من رفاهيتنا في هذه الرقعة المنعزلة والبسيطة من العالم . كان والدي يعمل لدى الحكومة النمساوية ثم تقاعد وابتاع هذه الإقطاعية بما فيها من عقارات ، لقد كانت صفقة حقيقية . لم يكن هناك شيء أكثر جمالا وعزلة من أرضنا حيث أنها تقف على رقعة مرتفعة من الأدغال كما أن الطريق عتيق وضيق ، يمر من أمام جسر متحرك يقع تحته خندق مائي يسبح فيه البجع ويطفوا على سطحه الشوسن الأبيض . الى جانب جميع ماسبق ، تبدو القلعة و ذات النوافذ المتعددة والأبراج القوطية مطلة على باحة مفتوحة أسرة من الغابة وينحدر على اليمين منها جس قوطي متجها نحو الأحراش . لقد سبق أن قلت لك أن هذا مكان يباب عليك أن تصدقني لأنك لو أشت بناظريك إلى الطريق لوجدت أن الغابة تمتد خمسة عشر ميلا نحو اليمين واثني عشر ميلا نحو الشمال . إن أقرب قرية مأهولة تقع على بعد سبعة أميال إلى الشمال وأقرب قلعة ذات أهمية تأريخية هي قلعة الجنرال ( شبيلزدورف ) التي تبعد عشرين ميلا إلى اليمين . لقد قلت ( أقرب قرية مأهولة ) ؛ لأن هناك قرية خاوية ومتهدمة تبعد ثلاثة أميال نحو الغرب ، يوجد فيها كنيسة صغيرة بلا سقف كما تحوي الحود ( آل كارنشتاين ) المتحللة الذين اندرس أثرهم والذين كانوا يملكون القصر الخرب الذي يطل على البلدة من بين الأدغال . أما فيما يتعلق بسبب هجر هذه البقعة التعسة فهناك خرافة سوف أسردها لك في مرة أخرى . لا بد لي الآن أن أحكي لك عمن يسكن معنا قلعتنا بيد أني لن أحصي الخدم ولا التابعين الذين يعيشون في ملحقات القلعة لذا أنصت واستشعر الدهشة لقد مرت ثمانية أعوام مذ حدثت قصتي ، حيث كنت في سن التاسعة آنذاك . أعيش مع أبي ، وهو أطيب إنسان على وجه الأرض لكنه قد أمسى کھلا حيث تمثل مقا كل ساكني القلعة . أمي نمساوية الأصل وقد أسلمت الروح عندما كنت طفلة في عمر الزهور وترعرع في ظل " مربية طيبة تولت أمري طيل فترة طفولتي . حيث إني لا أذكر أن وجهها الشفوق قد جاء مخيلتي يوما ، كان اسمها ( السيدة بيرودون ) من مواليد ( برن ) وقد عوضني حنانها ورقة قلبها عن فقد أمي التي لا أذكرها . كانت السيدة ( بيرودون ) هي الشخص الثالث على مائدة عشاءنا ؛ ومعها آنسة أخرى تدعى ( دي الافونتين ) وهي ما يطلق عليها مساعدة مربية وكانت تتحدث الفرنسية والألمانية بطلاقة بينما كنا أنا ووالدي نتحدث الإنجليزية بين الفينة والأخرى كي لا ننساها مما أنتج ما يسمى ب ( برج بابل ) والذي اعتاد الغرباء أن يضحكوا منه . كانت هناك ثلاث آنسات في مثل ستي يزرننا تارة وأرد لهن الزيارة تارة أخرى لكني أستطيع أن أجزم بأنني كنت وحيدة تماما . كانت مربيتاي تهيمنان علي دوما كما يمكنك أن تخمن معاملتهما لفتاة مدللة يتيح لها والدها عمل جل ما ترغب به . أول حادثة مرت علي في حياتي خلقت تأثيرا ذا رهبة في خوالج نفسي بحيث أنها كانت خارج حدود الشلوان ، من الممكن أن تكون حادثة لا يؤبه لها لكنك ستفهم مدى أهميتها شيئا فشيئا . كانت غرفة الحضانة ( كما كانوا يسمونها ) ؛ غرفة كبيرة على أن أحتلها بمفردي ، تقع في الطابق العلوي من القلعة ولها سقف معقوف من خشب البلوط ، لابد أنني كنت في السادسة من عمري عندما استيقظت ذات أصيل وأشح بلحاظي حول الغرفة ولم أر المربية صوبي ، ما كنت أتوجس خيفة لأنه ولحسن حظي لم أسمع عن قصص الأشباح وكل تلك
.

الأقاصيص التي تجعلنا نطمر رؤوسنا تحت أغطية الفراش عندما يصدر الباب صريرا أو يتراقص سنا شمعة ليبدو عمود السرير وكأنه يتحرك ، لكنني تضايقت بسبب شعوري بالإهمال وبدأت بالنحيب من فرط الدهشة عندما رأيت وجها مليحا وضح احيا ينظر الى من جانب الفراش . كان وجه شابة تجثو ويداها تحت غطاء السرير ، داعبت خصلات شعري ثم رقدت جواري وشدتني نحوها وهي تبتسم الدرجة أني شعرت بالراحة بغتة وعدت للنوم ، إلا أنني صحوت وأطلقت صرخة مدوية عندما شعرت الوهلة وكأن هناك إبرتين اخترقتا صدري في ذات اللحظة مما جعل تلك الشابة تتراجع ببطء من غير أن تشيح عيناها عني ثم توارت تحت السرير . لقد شعرت بالخوف لأول مرة وصرخت بكل قوتي فاندفعت المربية ومدبرة المنزل والآنسة ( دي لافونتين ) فقصصت عليهن ما حدث معي لكنهن أستخففن بها وشرعن بيهدئ من روعي . على الرغم من أنني كنت لا أعدو كوني طفلة صغيرة لكنني لاحظت شحوب وجوههن من فرط القلق ورأيتهن ليسترقن النظر تحت فراشي ويفتشن الغرفة وخزائن الثياب ، ثم أردفت مدبرة المنزل قائلة : ( تحسسي الفراش ، إنه لا يزال دافئا مما يعني أن أحدهم قد رقدها هنا ) .. أتذكر أن السيدة ( بيرودون ) قد ربتت على كتفي وتفحصن ثلاثتهن صدري وأعقبن بأنه لا توجد أي علامة تدل على صدق ما رويته له . وبالرغم من كل ما حدث فقد ظلت النسوة الثلاث هاجدات إلى جواري طيلة اليوم ومنذ تلك الحادثة أصبحن يتناوبن على السهر معي في مهجعي حتى بلغت سن الرابعة عشر . جعلني ما حدث عصبية للغاية لدرجة حاجتي الرؤية طبيب ، أذكر جيدا وجهه الكئيب الذي شوهه الجدري نوعا ما حيث أنه كان يأتي لي يوما بعد يوم اليعطيني الدواء رغما عني . أذكر تماما حين جاء أبي ووقف إلى جوار فراشي وأخذ يربت على كتفي ويتحدث مع الممرضة في مرح وهو يضحك ثم أعقب قائلا : ( لا تخاي ، ما هو إلا حلم لا يمكنه ايذائك ) .. لم أستطع الشعور بالراحة لأنني كنت على يقين من أن تلك الشابة لم تكن حلما
.

قالت لي الآنسة ( دي لافونتين ) إنها هي من جاءت تلك الليلة ونامت صوبي وأنني لم أستطع تمييز تقاطيع وجهها لأنني كنت أغط في نوم عميق ولكن ما قالته لم يرق لي البتة . ثم جاء بعد ذلك شيخ جليل يرتدي ثياب قس وراح يتكلم مع المربيتين بوجه نظر وسمح المحيا وطلب مني أن أمسك بيده لنصلي وأردد معه : ( رب اسمع كل صلواتنا من أجل يسوع ) ، أعتقد أن هذا ما قاله حينها لأني ظللت أردده مرارا وتكرارا لسنوات عديدة كما طلبت مني مربيتي ؛ ثم ركع ومعه النسوة الثلاث وصلوا بصوت عال . لقد سهوت عن كثير من الذكريات بعدها لكن ما حدث سيظل خالدا في مخيلتي ما حييت .

....

ايات
وقت النشر
2021/jul/24
5:25 am

كَارمِيلٌا / للكاتب شيريدان لو فانو . «كاملة»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن