وتبادلنا الذّكريات . 4

25 4 0
                                    


.

هكذا وقد رصدنا العربة بأعيننا حتى توارت في الغابات التي يغمرها الضباب وتلاشى صوت حوافر الخيل في صمت ذاك الغيهب . لم يتبق شيء يؤكد لنا أن ما حدث لم يكن وهما أو محض توجس لريبة سوى تلك الفتاة التي استطاعت أخيرا أن تستفيق وتفتح عينيها ، نظرت مباشرة إلى الجهة الأخرى فلم أستطع رؤية وجهها بوضوح ثم سمعت صوتا عذب النبرة مستساغا للإسماع يقول : « أين أمي » ؟ أجابتها على الفور السيدة ( بيرودون ) وهدأت من روعها حتى استطاعت أخيرا تذكر ما حدث وسرها أن أحدا لم يصب بأذى ثم أجهشت بالبكاء حالما عرفت أن والدتها رحلت وتركتها هنا وإنها لن تعود ( تازفت خطواتي نحوها حين أمسكت الآنسة ( دي لا فونتين ) ذراعي وقالت : لا تقتربي ، ستصاب بالذعر ؛ يكفيها شخص واحد كل مرة .. في ذلك الحين أرسل والدي خادما وطلب منه أن يمتطي خيلا ليحضر الطبيب الذي يبعد عن قلعتنا ما يقارب الفرسخين بينما حضرت الخادمات جرة تليق بالآنسة الشابة . جلسنا تلك الليلة في غرفة المعيشة نتجاذب أطراف الحديث فيما حدث معنا قبل هنيهة وكانت ضيفتا آنذاك قد غطت في نوم عميق ؛ كانت غرفة المعيشة رحبة جدا ذات أربع نوافذ مطلة على الخندق والجسر المعلق والغابة التي سبق وصفها ، كانت مبطنة بالكامل بخشب البلوط والمقاعد مغطاة بالمخمل القرمزي بينما كانت الجدران مكسوة بنسيج محاط بإطارات ذهبية كبيرة الحجم . تناولنا الشاي حينها لأن والدي كان يؤكد دوما على تناول المشروب الوطني بانتظام مع القهوة والمشروبات الأخرى أضافت السيدة ( بيرودون ) حينذاك قائلة : « ما أجمل تلك الآنسة ، إنها من أجمل ما رأت عيناي وهي في مثل سنك ، ويالها من عندليب ، فهي تمتلك أعذب صوت مر على مسمعي يوما . تساءلت الآنسة ( دي لا فونتين ) : ترى هل رأی أحدكم امرأة لم تبرح مكانها في العربة حتى بعد أن أعادوا تقويمها ؟ لم تبد أي انفعال بل اكتفت بالنظر من خلال النافذة . 6 أجبنا على الفور : لا ، لم نلحظ شيئا كهذا . أعقبت واصفة شكل المرأة : « لقد كانت ذات محیا بشع ، تلبس السواد وتضع على رأسها عمامة ، عيناها واسعتان ذواتا بريق ولم يكفا عن النظر من النافذة .. إنها أشبه أن تكون شيطانا مريدا . أضافت : « هل لاحظتم شكل الخدم المريب إذا ؟ أجاب والدي متجها الى مهجعه : « نعم ، إنهم قبيحو الوجه ولهم سيماء آثم ، أرجوا الآ يؤذوا السيدة المسكينة ، ولكنهم بارعون على أية حال « . ردت بشيء من الأمل : . آمل أن تخبرنا الآنسة الصغيرة بالقصة على أكمل وجه يوم غد أردف أبي وارتسمت على وجهه ابتسامة غامضة وكأنه يخفي أكثر مما يبدي : لا أحسبها فاعلة . بعد فينة من الزمن ، أمسينا أنا وأبي بمفردنا فتساءل عما قالته السيدة له قبل أن تذهب ، فأجابني من فوره : لقد شعرت السيدة المسكينة بشيء من الإحراج إذ ما تركت صغيرتها ها هنا ؛ حيث إن الآنسة الصغيرة ذات شخصية هشة ولكنها تخلو من أي نوبات مريبة ولا ماري أو تتخيل أشياء ليست موجودة . أجبته بشيء من الريبة : « ما أغرب قولها ، لا ضرورة له إطلاقا . قال لي متهكما : أيا كان رأيك فإن ذلك لا ينفي حقيقة قولها ، وأضافت أن ابنتها تتكلم الفرنسية وأنها لن تتفوه بكلمة عن حقيقتهم ؛ أتوسل إلى الله أن لا أكون قد ارتكبت حماقه باستضافتي الها . من يعيش في المدينة لا يمكنه تصور لذة التعرف على شخص جديد وسط هذه العزلة ، كنت أتوق للتحدث مع ضيفتنا حالما يسمح لي الطبيب بذلك . لم يأت الطبيب حتى حلول الواحدة بعد منتصف الليل وكنت أعجز عن الهجود حينها ؛ قال انا ما تطمئن له الأفئدة عن حال الآنسة الشابة وأنها على خير ما يرام وأخبرني بأنه بإمكاني رؤيتها متى ما شئت فطلبت مقابلتها حالا ، خرجت الخادمة وأخبرتني بأن لا مانع لديها . كانت ضيفتنا ترقد في أجمل غرفة في القلعة ؛ على فراش فاخر ، وتحيط بها قطع المخمل وتزين اللوحات شتى أركان المكان ، وتبرجت أرجاء السرير بالشموع وكانت تجلس بأبهى حلة حيث يحيط جمالها ثوب نوم من الحرير الخالص مزين بالأزهار .. بيد أنني سأخبركم ما الذي جعلني أدنو من سريرها وأتراجع في الحال لقد كنت موقنة أنني رأيت ذات الوجه الذي راودني في طفولتي يوم .. والذي ضل في ذاكرتي يلهمني الرعب أعواما ، نفس الوجه ذي السماحة وعليه ذات التعابير المليئة بالشجن لكنها سرعان ما بادرت بابتسامة لطيفة وسط سيادة الصمت على جل المكان . كسرت الآنسة ذاك الهدوء وقالت : يا للمصادفة ! لقد رأيت وجهك في منامي ذات ليلة قبل اثنتي عشرة عاما وبقي يسكن ذاكرتي مذ ذلك ذات الحين «

........

راودني شعور مهيب لكنني تغلبت عليه وأجبتها : , ومنذ اثني عشر عاما رأيت وجهك خ رؤيا حقيقية زادت ابتسامتها لطافة مما أذهب كل الريبة التي اجتاحتني وأعاد لي شعور الاطمئنان فرحبت بها وأخبرتها عن مدى غبطتي بقدومها ، كنت ممسكة بيدها طوال حديثي معها مما جعل عيناها تشع بريقا ووجنتيها تكتسي بلون الخجل ؛ كن خجولة أيضا لكن الموقف جعلني طليقة اللسان بل وزادني جرأة . جلست جوارها فقالت لي : يجب أن أقض عليك رؤياي ، من الغريب أن نرى بعضنا بذلك الوضوح ... لقد كنت في السادسة من عمري حين صحوت ذات يوم لأجد نف نفسي في غرفة تختلف تماما عن خاصتي ؛ بها خزانات ثياب وأدراج ومقاعد وكانت الأسرة تخلو من أحد سواي فنظرت حولي بدهشة ثم زحفت تحت الفراش كي أبلغ النافذة لكنني ما أن خرجت حتى سمعت صوت نحيب أجبرني على النظر لأرى مصدره فرأيتك أنت ، تماما كما أراك الآن ؛ فتاة جميلة بشعر بلون خيوط الشمس وعينين كأنهما بحر صاف شديد الرقة ، طوفتك بذراعي واستغرقنا في نوم عميق .. بعد ذلك سمعت صوت صراخ جعلني أنهض من فوري وأقفز نحو الأرض وخيل لي أنني غبت عن الوعي وحين صحوة ، وجدت نفسي في مهجعي مجددا ، لم يغادر وجهك لفائف دماغي من ذلك الحين .. أجبتها : لا أدري من منا أجدر بالخوف من الأخرى ، لو كنت بشعة لأصابني الرعب ، حقا ولكنك لست أقل جمالا مني ولكنني مثلك تماما ، أشعر بأننا التقينا قبل اثني عشر عاما ؛ كان مقدر لنا أن نكون صديقتين منذ الطفولة حيث أنني لم أحظ بأصدقاء قط فهل يمكن أن نكون كذلك ؟ بادلتني نظرة ملؤها اللهفة والسرور ، خالط ذلك شعور بالانجذاب نحوها وشعرت بأن الوهن قد باغت جسدها الناعم فودعتها على عجل وتمنيت لها ليلة سعيدة ثم انصرفت مسرعة وذكرتها بكلام الطبيب حيث إنه أوصى بأن تبقى معها خادمة هذه الليلة وأخبرتها بأنها سوف تحب ذلك بالتأكيد . أخبرتني بأن هذا لطف كبير ، وقالت : معي أنا لا أستطيع النوم عندما يكون أحدا وفي ذات المهجع ، صحيح أنني أخاف اللصوص فقد سرق بيتنا ذات مرة وقتل خادمان لذا اعتدت أن اقفل حجرتي ليلا وأعتقد أني رأيت مفتاحا معلقا في ثقب الباب . عانقتني وهمست في أذني : طابت ليلتك يا عزيزتي ، لا أحبذ تركك لكننا بالتأكيد سنلتقي غدا .. غاص رأسها الجميل في الوسادة وراحت عيناها تتبع خطاي ، لقد تأثر كثيرا بما أظهرت لي من عاطفة رغم أنني لم أكن أستحقها . التقينا صبيحة اليوم التالي ، كان جمالها مكتملا كالبدر ونسينا كلانا تلك الذكرى وضحكنا منها كثيرا ، لقد كانت أجمل ما رأت عيناي يوما .

اوووه! هذه الصورة لا تتبع إرشادات المحتوى الخاصة بنا. لمتابعة النشر، يرجى إزالتها أو تحميل صورة أخرى.

............

ايات
وقت النشر
2021/jul/24
5:53 am

كَارمِيلٌا / للكاتب شيريدان لو فانو . «كاملة»حيث تعيش القصص. اكتشف الآن