الفصل التاسع عشر

195 3 0
                                    

الفصل التاسع عشر
...........................

وجع يضخ في كل جزء بجسده يأبى أن يغادره وكأنهُ يعذبه على ما أخطائه و على أي ذنب من الذنوب الذي ارتكبها يعاقبه و كم هي تلك الذنوب كثيرة..اه فقط هل سيستمر هذا الوجع طوال عمره..؟.ثلاث أيام مرت على العزاء ..ثلاثة ايام متواصلة فيها اخفى نفسه بعيداً عن ملاكه..حتى ذاك اليوم عندما ترك نوران لوحدها بمنزله ليجد نفسه فور أن طبق الباب يتخبط خائفاً من المواجهة و قد بدت له كلمات نوران حقيقة مؤلمة..فبأي وجه يقابلها ..ماذا يقول لها..؟..آسف..آسف على كل شيء..طوال حياته لا يتذكر أنهُ اعتذر لأحد ليس كبرياء أو غرور بل لأنهُ لم يحتاج ليعتذر لأحد..ابتداء من والدته ثم والده حتى نوران هي من تخلت عنه..نفض تلك الأفكار ليحرك رأسه بخفة غير عابث بأن الرجال الأقلة الذين من حوله ينظرون له مستغربين متعجبين و هو جالس هنا في عزاء الرجال وقد كان آخر عزاء يحظره هو عزاء والده..إلا أن عزاء والده كان مختلفاً جداً ..رجال فاحشين الثراء و مكان العزاء فخم جداً بينما هنا البساطة تضخ في كل بقعة بهذه الغرفة المتوسطة الحجم ..صوت القرآن كان يتخلخل إلى أذنيه فيشعر بسكينة غريبة و كم آيات مرت على أذنيه فيهلع قلبه منتفضاً..يشعر الآن وكأنه قضى عمره كله هنا في هذا المكان رغم أنه لا يأتي إلا في بداية العصر كل يوم ليغادر آخر الرجال و كأنه يريد رؤيتها بالخطأ تمر عابرة ..إلا أنها قاسية و رغم كل رقتها ..ابتلع ريقه بغصة و لا يعلم كم مر من الوقت و هو هكذا صامت والتعب ظاهراً على وجهه يفكر وقد أنهكه التفكير..لم يفق اخيراً إلا على أصوات خفيفة فيرفع عينيه ملاحظاً أنهُ لم يبقى احد سواه بالغرفة عدا رافي بالطبع..بطرف عين نظر إليه فيقف اخيراً و قد بدأت الحرارة تضخ بجسده بمجرد أن نظر لرافي ..نطق بكلمتين معبراً عن خروجه من المنزل مشيحاً عينيه عنه فلم يجبه رافي بشيء مكتفياً فقط بالنظر إليه كابتاً كل قهره وقد سأم من سؤال الناس البسطاء على رعد فهم غير معتادون على أشخاص يبدو عليهم الثراء مثله..عليه أن يحتمل قليلاً فاليوم هو آخر يوم للعزاء ..ثلاث ايام فقط خاصة وان الناس قليلون جداً لم يأتي احد من اقارب ملك نهائياً ..فقط رجال العمارة وبعض من سكان الحي ..ما يطمئنه فقط هو أن ملك لم تسأل عنه لم تذكر له شيء بعد أن عادت منهارة تلك الليلة من بيته فتصدم بموت جدتها الحمدلله انه كان موجود عنها يتلقاها بعناق عميق...ابتسم ساخراً و هو يستمع لصوت انفتاح باب المنزل على يد رعد هو الآخر كان يجاهد نفسه على الصمود و هو ينظر لساعة يده محدقاً بالوقت و قد كانت xxxxب الساعة قد غادرت الثامنة والنصف مساء..عينيه توقفتا على ذاك الباب المفتوح نحو منزل ملك حيث يقام فيه عزاء النساء بينما منزل أم سعيد كان لعزاء الرجال ..اهتزت عينيه بتشوش في تلك اللحظة التي خرجت بها أم سعيد من البيت فيعتدل بوقفته لينظر لها تبتسم من بين حزنها لتقترب منه تسأله عن حاله فيجيبها ليخبرها باختصار أنهُ سيغادر الآن..يد المرأة الحنونة أقبلت تربت على كتفه فتنطق قائلة
- " بالله عليك بني احضر شقيقتك إلى هنا ..أن ملك لا تقبل أن تتحدث مع احد.."
لم يفهم ما تقول في البداية لكنه ادرك أن هذه المرأة لازلت تصدق بالكذبة التي اخترعتها ملك لإسكات جدتها لم يعرف كيف هز رأسه وهو يقول
- " حسناً سأخبرها.."
فتربت على كتفه مجدداً لتنطق
- " ليحفظك الله يا بني لم تقصر بشيء منذُ بداية العزاء.."
بمجرد أن ينظر لعينيها الشاكرة له و صوتها الحنون حتى يشعر وكأنه طفل صغير .. وكأن حياته التي قضاها كانت مجرد كابوس ..وبينما ينظر لها نطق قائلاً
- " كيف هي ملك..؟.."
أجابته متنهدة
- " هادئة إلى ابعد حد...الآن بمفردها بالمنزل بعد أن أخبرتني صراحة برغبتها بالانفراد لوحدها .."
نطق رافضاً بخفة
- " لماذا تركتها وحدها..؟.."
فأجابت باستسلام
- " لأنها تريد ذلك..تعرف أن لا احد من أقاربها معها والجيران توافدوا إلينا في أول يوم والثاني إما اليوم فلا احد إلا أنا و هي..قلبي يؤلمني على تلك المسكينة من دون أهل أو سند .."
ترك أم سعيد تكمل كلماتها ثم تعود لمنزلها فتتركه وحده بينما كان فقط هو ينظر للباب الذي لازال مردوداً وقد نسيت ام سعيد إغلاقه..قدميه وجدتا طريقهما فوراً و من دون أي تفكير كان يفتح الباب ليدخل بسرية فيغلقه خلفه ببطء أول شيء وقعت عيناه عليه هو الممر القصير وقد دخله سابقاً..عينيه سارتا على ارجاءه فلم يجد فيه إلى حذائها الخفيف وقد لطخ بالأتربة..!..حاول أن يسير قليلاً لكنه شعر بالعجز و كأن الشلل قد أصاب قدميه حتى أن احدى يديه قد ارتفعت لتمسك الجدار فيبقى بمكانه لثوان..ثوان وذاك الصوت وحده من يتخلخل لأذنيه منذُ أن دخل المنزل ..صوت كأنه أشبه بصوت ارتطام ماء على الأرض مع حركات سريعة..عندها فقط تحركت قدميه متبعاً ذاك الصوت ليذهل محدقاً بالباب الذي أمامه عند نهاية الممر و قد كان شبه مردوداً هناك قدميه توقفتا ليسترق النظر عبر فتحة الباب ..لبرهة لم يعد يستمع لضربات قلبه العنيفة و عيناه تتوسع بتشنج محدقاً بجسدها النحيف لا يرتدي غير ثوب رقيق..لا ليس ذاك الثوب الواسع اللعين بل ثوب رقيق قطني يكاد يصل إلى ركبتيها عاري الكتفين اسوداً فتبدو بشرتها بيضاء محمرة..يكبت أنفاسه يخشى أن تلتفت إليه و هو ينظر لشعرها الباهت بلونيه الأسود والبني مرفوع بإهمال بمقبض شعر و قد حررت خصلات كثيرة من شعرها لتسقط على جوانب وجهها و ما أثاره أكثر هو أنفاسها المتلاحقة و هي تسكب كميات من الماء عبر وعاء بلاستيكي للأرض مرة مرتين متمسكة بيدها بالأداة الخشبية تلك والتي بها تشفط الماء بجهد..لم يكن يعرف هل تلك حبيبات ماء أم عرقاً يقطر من جبينها ..كتم آه كادت تنزلق منه فيما يرآها تعاود سكب الماء لتشفطه بقوة ..متمسكة بعصا الخشب بين يديها بإحكام وكأن تلك العصا ستهرب منها..قلبه كاد أن يتوقف بينما تزداد حركتها أكثر وأكثر حتى ان صوت ارتطام الماء بالأرض اصبح اكثر قوة لتبدأ شيء فشيء باطلاق آهات ..آهات محروقة فتعاود عملها بجهد كبير غير عابثة بأن الحمام خالي من أي أتربة على الأرض..لم يستطع أن يتحمل أكثر و قد تمسكت يديها بالعصا فتخفض رأسها إلى الأرض اخيراً تشهق و تبكي كما لم تبكي يوماً بحياتها و عندما خذلتها قدميها عن حملها فتنحني ركبتيها للأرض ببطء حارق..وقبل أن تلامس برودة الأرض كانت يديه تتلقيان خصرها فيرفعها إليه بيدان مرتجفة..!..انتفض صدره و هي تشهق بألم..تنهار و قد تشبثت أظافرها الطويلة بقميصه ..و كأنها لا تعرفه ..لا تعلم هويته بل كأنها لا تدرك أن الذي تمسكت به هو انسان ..فكيف وكيف تتمسك به بهذه الطريقة وكأنه طوق نجاه وقد كان يحاول أذيتها نعم لقد حاول امتلاكها بالقوة غير عابث بأن ملاكه لطهارة فقط..إلا أنهُ لم يسمح لنفسه أن يفكر و يديه تلتفان حول خصرها تتمسك به تضمها لصدره فتلامس خصلات من شعرها المبلل صلابة صدره .." ابكي حبيبتي..ابكي كما لم تبكي من قبل.."..لم يدرك أن صوته خرج شاحباً ميتاً كما عينيه بالضبط..يده تمسكت بظهرها تضمها إليه أكثر وقد شعر بتقلص جسدها و كأنها تستوعب حالتها احس وأن الزمن يبطئ بشدة حتى يتوقف و هي ترفع رأسها فتبدو له هشة بضآلة جسدها ..يحدق بالدموع على خديها تنهمر وقد توقفت عن النحيب..تراجع فوراً عنها و هي تدفعه بصمت فتتراجع خطوة إلى الوراء ليصدم ظهرها بالحوض حاجبيها معقودين بصدمة و عينيها الرماديتان متسعة لترتجف شفتيها المحمرة مع اهتزاز جسدها اكتفى فقط بالنظر إليها صامتاً ليهمس باسمها اخيراً فينتفض جسدها لتستدير تقابل الحوض تفتح ماء الحنفية بسرعة فتتعثر لتمد يدها نحو الرف تمسك بعلبة المنظف البلاستيكية تنطق بهدوء وقد بدا هدوء ما قبل العاصفة لتذهله..
- " اذا كنت رعد حقاً كما ترآك عيناي الآن..فاخرج من امامي..اخرج.."
صوتها بنهاية كان يتحشرج و كأنه يجاهد على الخروج ثم بحركات سريعة امتدت يديها امام ناظريه لتبدأ بفرك قطعة القماش المبللة داخل الحوض الأبيض تفركها بيديها بقوة ليستمع صوت الماء ثم تمد يديها لتسكب كمية هائلة من مادة التنظيف و تعاود الفرك..تعطيه ظهرها وتستمر بعملها وكأن احد يجبرها عليه فينظر إلى ما تفعل من فوق كتفها ليقول بذهول
- " ماذا تفعلين ملك..؟..توقفي ستؤذي يديك بهذا النوع من المنظفات انهُ مضر على الجلد.."..
كانت هذه المرة تلتقط العلبة مجدداً لتفرغ بقية محتواها إلا أن يده كانت أسرع و هي تسحب علبة الكلور تلك ليرميها على الأرض بعنف..فيشعر بلهيب يلهبه و هو ينتزع يدها من تلك القطعة ليديرها إليه بتلك المسافة الضيقة فتصدم بصدره و كأن البركان الخامد انفجر..نعم ذاك ما رآها بعينيها وهي تطلق صرخة مدوية جعلت عينيه تتسع بذهول و هي تهتف بجنون
- " ابتعد عن حياتي ايها القذر..دعني اغسل ثوبي..دعني افعل.."
لم يعرف كيف همس وعينيه تضاق بدهشة
- " و أي ثوب يستحق هذا العناء.."..
رفعت ذقنها وقد بدت في حالة منفصلة عن الواقع لتقول لاهثة
- " أنها دمائك يجب أن تزول.."
ارتخت عينيه فينفتح فمه ليتحدث بصدمه عضلات جسده تتشنج وقد استرقت عينيه النظر لذاك الثوب الذي أصبح كومة مبللة إلا انهُ تذكره جيداً فهو ما كانت ترتديه عندما كان يحاول...نفض تلك الليلة المشؤومة وهو يقول
- " هاتيه لأرميه حالاً.." قال كلماته بحزم وكأنه ينفض تلك الذكره ليمد يده من فوقها ليأخذ الكومة المبللة ..فيفاجئ بها تعترض لتدفعه بيديها صارخة " لا..سأغسله بيدي.."..
" ملك..". اوقفت اعتراضه بتصميم " لقد مللت من النظر إليها كل مساء معتزلة عن العالم بأكمله حبيسة الغرفة لا احدق فقط إلا بدمائك وقد جفت على ثوبي فتجعله قذراً.."...هذا الوضع مثير للجنون خاصة و هي تكمل محدقة به بعيناي جليدية..
- " أريد أزاله هذه الدماء كما سأزيل تلك الليلة ..كما سأزيلك من حياتي بالضبط.."
بترت آخر كلماتها صارخة وكأنها تبسقها بسقاً و بدل ان تعود لتغسل تلك الكومة أخذت تمسك بالعصا الخشبية وتسكب الماء سكباً تصرخ قائلة
- " ابتعد أريد أن أنظف الحمام..اخرج فقد وسخ حذائك السيراميك..."
لقد مل..مل و هو بحالة الذهول هذه عندها صرخ ويديه تمسكان تلك العصا ليرميها خارجاً نحو الممر فتعترض صارخة .." اخرج يا رعد.."..استدار لها وقد عادت روحه الشرسة ليقول
- " رائع فأنت من بين نوبة الانفصال عن الواقع لازلت تذكرين اسمي.."
تراجعت إلى الوراء قليلاً فتقول بشراسة
- " اخرج أيها الحقير ..النذل ..القاسي ..ايها الحيوان و.."
طارت بقية الحروف وهي تطلق صيحة من هجومه المباغت ليدفعها حتى آخر الحمام وقد وقعت قبضته الحديدية على كتفها و هي تواصل قائلة
- " ابتعد عني ..ابتعد عن حياتي..لقد ماتت جدتي الآن وما عدت اخشى تهديداتك..و.."
من بين كلامها الجنوني قال وهو يرطم بظهرها الجدار
- " تحتاجين لهذا يا حبيبتي.."
لم يسمح لها بالتفكير وهي تتلقى رشاش الماء المنهمر باندفاع من الاعلى بعد أن امتدت يديه لتفتح حنفية الرشاش فتشهق مذعورة وقد تلقت لسعات باردة..باردة لدرجة انها ما عادت قادرة على الكلام..يديه تلتفان حول وجهها تربت عليه قائلا بأنفاس مضطربة
- ..." استيقظي ملك..أنا معك هأنا لن اتخلى عنك.."
وكأنه لا يجيد شيء يقوله غير هذه الكلمات ..الماء كان ينهمر بشدة فيلامس كل خلية بجسدها إلا أنها احست بيده الصلبة تلتف حول ظهرها تجذبانها لشيء اصلب فترفع عينيها بصدمة تلتقي بزرقة عينيه فتستوعب الآن أنهُ واقف معها هكذا تحت سيل المياه وقد تبللت ملابسه الثمينة وشعره فقد اناقته.. " رعد.."..فيجيبها هامساً .." حياة رعد أنتِ.."..لماذا الآن لا تمزق وجهه الجميل لماذا لا تشوه ملامحه بحقد ...احست بالغصة تخنقها وقد ادركت الآن جيداً ما يحدث معها..انسالت الدموع الحارة على خديها تمتزج مع الماء فيما تنطق قائلة
- " كيف دخلت..؟..بل كيف تجرؤ..؟.."
لم يشعر بالبرودة ابدا بينما يحدق بها بعينين متألمة ينطق بمرارة
- " و هل أجرؤ على تركك ..؟..وهل استطيع..؟.."
خنقتها العبرة فتغمض عينيها بألم تبلتع ريقها بصعوبة فتسيل دموعها الحارة لتفتح عينيها وقد أرهقت لتشعر بملامسة خشونة لحيته البسيطة لخدها ..وقد دنا بوجهه لمستوى وجهها ..احست بأنفاسه تمر على وجهها بينما يكمل بعذاب
- " يالله ملك..ثلاث ايام..ثلاث أيام اكاد اموت من دونك..من دون لمساتك ..صوتك وهمساتك...."
انتفض حين شهقت وقد عجزت عن كتم صوت بكائها لتقول باتهام خافت
- " لم تكن كذلك..لقد حرمتني من اقرب الناس إلي....واصلت شهقاتها لتكمل من بينهما ..نعم لقد دفعت لها أموال المستشفى وعالجتها إلا أنك استغليتني..ما كنت لتعالجها لو لم ارضخ لك.."
حرك رأسه بالنفي ينطق بصدق على الفور
- " لقد استغليتك نعم لأني اعلم انك بنهاية كنت سترضخين .. اقسم انني ما كنت لاتركها تموت حتى وإن رفضت ان تكوني معي طوال اليوم...."
لم تأبه لما يقول وهي تؤكد له
- " وهدتني بابلاغ الشرطة.."
- " ما كنت لأفعل لو على موتي.."
اصابعه ارتفعت لخدها تلامسه برقة دون أن تفارق عينيه شفتيها المفتوحتين فتقول له بألم
- " وماذا عن روحي يا رعد..ماذا عن افعالك السوداء وقد حاولت أن تسلبني اغلى ما املك.."

الشيطان حولك لكاتبة سمايل رانياحيث تعيش القصص. اكتشف الآن