🌲الفصل الأول🌲

2K 27 2
                                    

مساء الورد بداية الضربات

الفصل الاول :

صباح يوم جديد لا يختلف كثيراً عن ما قبله يمر في فيلا عائلة الغانم حيث ان الايام تبدو متشابهة للغاية لكلاً من عماله وساكنيه .. فكما في كل صباح يكون العاملون اول من يستيقظ للبدء بالطقوس المعتادة من تحضير الطعام الى تنظيف بهو المنزل الضخم حتى يستيقظ أهل البيت و يتناولون افطارهم سوياً في طقس معتاد منذ سنوات، طقس غير قابل للمساس الا لماما حيث يحرص الحاج صفوان على أن يجتمع بأولاده وأحفاده في كل صباح على طاولة الطعام و بالطبع لا يجرؤ أياً منهم على معارضته !
تحركت ام رمزي بما يناسب عمرها من سرعة تنهي ترتيب الاطباق على الطاولة قبل أن يكتمل العدد ليأتي بعدها الحاج صفوان و يجلس بهيبته الفطرية على رأس المائدة ثم نظر إليها قائلاً بصوت وقور :
" صباح الخير يا حاجه ام رمزي .. اجلسِ هيا و أتركِ الفتاتين ينهين العمل "

امتثلت لأمره فهي الوحيدة المسموح لها من العاملين أن تجلس و تتناول طعامها وسط أهل المنزل حيث يعتبرها الحاج صفوان من ضمن العائلة بعد أن امضت اكثر من خمس و ثلاثون عاما ً في خدمتهم و تربية أولادهم
كعادته جلس الحاج صفوان دون أن يظهر أي مؤشر لمرضه على وجهه و قد بدأ يجتمع حوله معظم أبناءه و أحفاده لكن كالعادة عينيه التقطت غياب البعض فسأل بهدوء :
" اين البقيه يا مديحه ؟!! .. ألم يستيقظوا بعد ؟! "

لم يكد ينهي سؤاله لابنة أخيه و زوجة ابنه حامد حتى أتاه صوت اقرب أحفاده الى قلبه و قلب الجميع والذي وصل في تلك اللحظة :
" صباح الخير يا جدي .. كيف حالك اليوم ؟!! "
ليبتسم الحاج صفوان بهدوء مجيباً بمحبه :
" صباح الخير يا ولدي ، ليس من عاداتك التأخر يا أمين !"
مسد امين جبينه بإرهاق فيما يجيب :
" انه قصي .. لم يتركني انام كالخلق بالأمس "
نظر الحاج الى حفيده بإشفاق حيث يعلم الجميع بأنه بعد وفاة زوجته و ابنة عمه علياء تحمل امين مسؤولية ابنه كامله رافضاً رفض قاطع أن يحمل احداً معه هم طفله حتى و إن كانت جدته مديحه و التي قد اكتسى وجهها بالحزن في تلك اللحظة هي الأخرى بعد ان عادت ذكرى صغيرتها الراحلة إليها من جديد !
لاحظ صفوان الصمت الكئيب الذي خيم على الجميع فأدار دفة الحوار لجهةٍ اخرى سائلاً امين ببعض الضيق :
" و أين المحروس اخيك ؟! "
ابتسم امين و بعض الجالسين حيث ان بكر يكاد يكون خروف العائلة الاسود بسبب تصرفاته المستفزة تجاه الجميع دون استثناء ليُجيب امين جده بهدوئه المعتاد :
" بكر لا يزال نائماً جدي فكما تعلم لقد عاد بالأمس فقط من رحلته قرابة الفجر و لا اعتقد انه قد يستيقظ قبل عدة ساعات أخرى "
أدار صفوان وجهه للاتجاه الآخر بغير رضا .. دون ان يفوته اهتمام حفيدته رغده المبالغ فيه بالحديث عن بكر بينما الآخر يقابل كل ذلك الاهتمام بقدر لا متناهي من الإهمال و الوقاحة و على مرأى من الجميع !
ومضت في عقل صفوان ذكرى ذلك اليوم الذي جلس فيه مع حفيده العاق و عرض عليه الارتباط بأبنة عمه التي تعشقه ليفاجئه الآخر ببروده فيما يجيب :
" انا لن اتزوج من رغده يا جدي "
" لماذا ؟!! "
فيهز المستفز كتفيه له كما المعتاد و قد اعتلت تلك الابتسامة الصفراء التي يبرع بها شفتيه قائلاً باختصار قاتل :
" لأني لا اطيقها ، كما أنها تتعامل معي و كأنني حق مكتسب لها "
عاد صفوان إلى حاضره يستغفر الله بحنق من أفعال حفيده ليظهر بعدها صوت " جاسم " و الذي ما أن رأته أخته رغدة حتى هتفت ضاحكة :
" لقد استيقظت قبلك اليوم جاسم .. هذه سابقه من نوعها اخي "
بدأ جاسم في تناول إفطاره مجيباً أخته بلا مبالاة :
" تعالي و تحملي معي هذا الكم من العمل و أريني كيف ستستيقظين بعدها من الأساس "
لتجعد رغدة وجهها فيما تقول :
" لا لا لا .. لقد جربت الذهاب و العمل معكم في الشركة والمصنع و لم اربح سوى تورم قدمي و ألم ظهري "
ابتسم لها جاسم باستخفاف ليصدح صوت ابنة عمه الأخرى وصال التي نادراً ما يظهر صوتها في حضوره كما انها تختلف اختلافاً جذرياً عن امها و ابيها :
" انا ايضاً اريد ان التحق بالعمل معكم يا جاسم "
" لدينا عماله زائدة هذه الفترة و لا نحتاج لعاله أخرى "
ألقاها جاسم بوقاحة لتصمت الفتاة بإحراج و قد اخرستها ردة فعله امام الجميع بينما تسبه هي بأقذر الألفاظ بينها وبين نفسها لكن قبل أن يوبخه جده صدح صوتها مجدداً و لا كأنها نفس الفتاه التي اهينت منذ لحظات فيما تقول لأمين هذه المرة متجاهله تماماً ما قاله الاول :
" ما رأيك أن أعمل معك يا امين ؟! "
ابتسم لها امين كاتماً غضبه من الآخر ليقول بحنان :
" ما رأيك انتي يا حلوه أن تمري اليوم عليّ بمكتب الشركة و نبحث سويا ً في مجال اهتماماتك قبل أن آخذك للعمل معي "
نظرت له وصال بامتنان فهكذا كان امين دائما ً .. مراعيا ً للجميع نعم الاخ لها و نعم الاب لقصي كما كان نعم الزوج لأختها رحمها الله .. رمت نظرة انتصار خبيثة ناحية جاسم ليصدح صوته هو هذه المرة قائلاً:
" هل تبحث عن المشاكل في بكرة الصباح يا امين ؟!! "
هتف بها جاسم فأدرك الجميع انهما سيتناطحان كما المعتاد و بالفعل نظر له امين قائلاً بنديه :
" انت لا تريد عملها معك لكن انا ارغب بمساعدتها لي .. ما الذي يغضبك بالتحديد عملها ام رفض قرارك البائس ؟! "
لينظر له جاسم بكره واضح للعيان يهس من بين أسنانه :
" انت....... "
فيقاطعهما الحاج صفوان هاتفاً :
" كفى !! "
صمت الجميع ليستطرد بعدها الحاج بغضب واضح :
" هل ستتقاتلان أمامي ؟! .. حين اموت فقط تستطيعان اخذ القرارات كما تريدان ، لكن الان كلمتي هي فقط السارية و انا فقط من يقول ما يحدث في العمل و ما لا يحدث "
تكلم امين بنبرة تخفي الكثير من الحنق :
" ادامك الله لنا جدي ، انا لم اقصد تخطيك "
" انتهينا .. و الان اذهبا و انتظراني في غرفة المكتب ، لدي حديث طويل معكما "
لينظر بعدها الحاج صفوان إلى ابنه عبد الحميد المراقب الصامت كعادته فيقول بغير رضا عن صمته و هدوئه :
" و انت .. اصعد و احضر لي ابنك ، يكفيه نوم بهذا القدر .. أخبره انني أريده لأعلم ماذا فعل بسفرته "
ثم وجه اخر أمر قبل ان يلحق بحفيديه :
" و انتي يا وصال اصعدي و تجهزي حتى انهي حديثي مع ابناء عمك ليأخذك امين في طريقه "
............................
نظر جاسم لجده بغضب مكتوم فهكذا هو دائما ً ينصر امين على الجميع و لا يرفض له طلباً كما أنه لا يخفى عليه تحضير جده لأمين بحيث يجعل منه كبير العائلة من بعده و هذا من لن يسمح بحدوثه الا على جثته ، فهو اكبر الاحفاد حتى و إن كان يكبر امين بشهرين لا اكثر و من حقه أن يرأس هو مصالح العائلة لكن جده العظيم يجعل امين ينوب عنه في معظم الأمور مما أعطى انطباع للجميع أن امين هو خليفة صفوان الغانم و بات هو الرجل الثاني أو الثالث في ظل وجود جده!
دخل ثلاثتهم الى غرفة المكتب ليجلس صفوان قائلاً بضيق واضح :
" كم مره وضحت لكما أهمية أن تظلا على وفاق ! .. كم مره عليّ أن اخبركم أنه حتى يظل اسم العائلة عالياً يجب أن تكونا كتف في كتف و لا تتناطحا كالثيران الهائجة طوال الوقت ! .. ماذا ؟! .. هل أخطأت حين ظننتكما رجلين استطيع الاستناد عليهما ببال مرتاح ؟! .. اذا كنتما تفعلان هذا في حياتي ماذا ستفعلان إذاً بعد موتي هل سيقتل احدكم الآخر ام ماذا ؟!! "
حاول امين التحدث بنبرة خافته ليقاطعه جده ساخطا ً:
" انتهينا امين لا مزيد من الهراء في هذا الأمر "
نظر بعدها إلى جاسم مضيفا ً بثقة استفزت الآخر :
" و انت يا سيد جاسم أعلم انك إن لم تتوقف عن افتعال هذه المشاكل سيكون لي معك تصرف آخر لن يعجبك على الاطلاق ، فأنا لم يفتني السبب الحقيقي وراء رفضك لعمل ابنة عمك بتلك الطريقة المهينة و أعلم جيدا ً انك تفعل ذلك نكالاً بمن يجلس أمامك الان كنوع من أنواع فرض السيطرة لا اكثر "
تنفس جاسم بحنق واضح لينهي صفوان حديثه الاول قائلا ً :
" للمرة الأخيرة سأقولها .. هذه العائلة من دونكما انتما الاثنان ستسقط لا محالة ، بعيداً عن أمور أسهم الشركة كلاكما مهم .. كلاكما مكملان لبعضكما فما لا تستطيع حله بحكمتك و هدوئك يا امين يحله جاسم بصرامته و حين يخونك عقلك وقت غضبك كالعادة يا جاسم ستجد امين هو الوحيد الواقف خلف ظهرك يدعمك بحلمه و صبره "
نظر الشابين لبعضهما و كلاهما يعلم جيداً أن السبب الحقيقي خلف عداوتهما الغير معلنه .. فلم يكن فقط التربع على رأس العمل هو ما يشغل بال كلا منهما و يجعله فريسةً لوساوسه تجاه الاخر و لكن السبب الحقيقي وراء دمار صداقة عمر نشأت منذ الصغر يتلخص في اسم واحد فقط و هو " علياء " .
قاطع الجد نظراتهما النارية التي لا يعلم لها سبباً سائلاً بصوت حاول اخفاء اهتزازه :
" هل من جديد في الموضوع الآخر ؟!! "
عادا الشابين لجدهما فيقول جاسم بصوت قوي يليق بهيئته الموحية بسلطته و قد أخرج نفسه عنوه مما غاص فيه :
" لقد كنت على وشك اخبارك جدي .. اعتقد انني و اخيرا ً وجدت طريقها الحقيقي هذه المرة "
لم تخف نظرات الجد التي لا تخلو من قبس صغير من اللهفة على جاسم الذي أكمل بثقة :
" اليوم سأرسل صدقي الى العنوان الأخير الذي توصلت إليه و سنرى "
اومئ صفوان باستحسان فيبدو أن القدر اخيراً يقف في صفه و سيصل إلى حفيدته المفقودة ، وصية ابنه الذي يقبع مريضاً خلف قضبان غرفته و لا يخرج منها الا لماماً .. لكنه يعلم !!
يعلم جيداً أن حرص ابنه على استعادة ابنته المفقودة يتخطى بكثير لهفة اب على ابنته بل هو ذنب .. ذنب عظيم يثقل كاهل ابنه حارماً اياه من الراحة ، فحامد لطالما كره جزاء منذ ولادتها حيث أنها كانت السبب الرئيسي و الوحيد في زواجه من صباح تلك التي لم تمثل لحامد اكثر من صيد سهل حيث كانت فتاه جميله في ريعان شبابها لا سند لها و لا عائلة تعمل لديهم كخادمة بسيطة ليكن جمالها تذكره خاصه ارسلتها الى جحيم ابنه الذي لم يرحم ضعفها لينهي هو الأمر وقتها فارضاً على حامد الزواج منها ليصلح ما أفسدته يداه .
" وافيني بالتفاصيل أولاً بأول "
هز جاسم رأسه بطاعة ليظهر اخيراً صوت بكر الناعس الذي دخل في تلك اللحظة :
" صباح الخير جدي .. ماذا حدث ؟! "
هتف صفوان منفعلاً و هو ينظر إلى هيئته بارتياع :
" ما هذا ؟! .. هل جننت ؟!! .. كيف تخرج هكذا امام النساء ؟! "
كتم امين ضحكته المهددة بالانفلات بينما نظر له جاسم بسأم ليأتي جواب بكر الذي فرك عينيه قائلاً بصوت كسول دون أن يهز فيه صوت جده شيء :
" لقد أخبرني أبي انك تريدني في الحال "
ليضرب صفوان الارض بعصاه هاتفاً بحده :
" هذا ليس معناه أن تنزل لي بملابسك الداخلية ، بحق الله أين سروالك ؟!"
كان امين مدركاً أن أخيه لم يستيقظ بالكامل بعد لهذا لم تفاجئه إجابته حين قال ببديهيه دون أن يفتح عينيه :
" في غرفتي "
" حسبي الله ونعم الوكيل .. حسبي الله ونعم الوكيل ، ماذا فعلت يا الله حتى تبتليني بهذا المتخلف ؟! "
قالها الجد يائساً و هو يرى مدى عقم الحوار مع حفيده المستفز لينهض امين منقذاً الموقف كعادته :
" انا سأحضر له السروال جدي .. اهدأ انت فقط "
ثم جذب أخيه المستسلم واضعاً إياه مكانه فوق المقعد فيما يقول :
" وانت اجلس هنا ولا تتحرك حتى اعود "
" و كأنني ارغب في ذلك "
تحرك امين مغادراً المكتب بينما تجاهل صفوان بكر تماماً ليتحدث قليلاً مع جاسم عن العمل ليصمتا تماماً و ينظرا الى بكر مصدومين حين سمعا صوت شخير الأخير ليدخل امين في تلك اللحظة بعد أن عاد بسروال أخيه فيشير الجد بعصاه ناحية بكر قائلاً لأمين بانفعال تام :
" ايقظه .. ايقظه قبل أن اقتله .. هذا الولد سيصيبني بالشلل مبكراً "
ضحك امين بحنان يغدقه على الجميع بلا تحفظ فيما يجيب جده :
" اعذره يا جدي .. الرجل لم ينام في يومين إلا ثلاث ساعات و انت من اصررت على ذهابه إلى هناك من أجل إنهاء الاتفاق مع شركة منصور"
اشاح صفوان بوجهه دون رضا و هو يرى محاولات امين لأيقاظ أخيه بعد أن ساعده في ارتداء سرواله ليهتف بكر بعدها بنزق ناعس و هو يتحرك عائداً لغرفته :
" ماذا تريدون ؟!! .. لما ايقظتموني الأن ؟! .. لم اراها منذ زمن "
تحرك امين مجاورا ً إياه فيما يسأله ضاحكاً :
" من هذه ؟! "
لا تغادر الابتسامة شفتي بكر فيما يجيب دون أن يفتح عيناه :
" عروسي "
.......................................
نائمة فوق فراشها الذي اعتادت تقاسمه مع صديقتها .. لا بل توأم روحها ندى !!
ندى التي تركتها و ارتاحت هي من أوجاع و ظلم هذه الحياة !!
ندى التي رزقها الله بما تمنته هي دائما ً !!
بلى .. في حالتها هي الموت رزق و امنيه !
الموت راحه لها من كل معاناه ، فلن تجد بعد الموت من يظلمها و يؤذيها و يهينها .. الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تجعل من كل الناس سواسية .
نهضت من فوق فراشها تترنح و ما زالت اثار الصدمة و المرض جليه فوق روحها قبل وجهها لكن آن اوان العودة الى المقهى فقد اشرقت الشمس منذ ساعات و عليها أن تكون شاكره لأن السيدة حسنه قد اشفقت عليها بعد سقوطها المريع و تركتها لمدة يومين ففي النهاية من هي حتى تملك رفاهية الحداد على روح صديقتها !!
بل من هي ندى من الأساس حتى يتوقف العالم بعد موتها ؟! .. هي الآن متيقنة بأن فور عودتها إلى المقهى لن يشعر أحد باختفاء ندى و لن يهتم أحد بالسؤال عنها !
عالم ظالم مجبرة أن تحيا به في حين أن هناك عائلة كاملة نبذتها هي و امها بجبروت و بلا رحمة .
ارتدت عباءتها السوداء الاكثر من بسيطة ثم تحركت بنية الخروج لتتوقف للحظات حين داهمها الدوار من جديد بسبب المرض !!
تباً لحظها البائس في هذه الدنيا !
فهي أحوج الناس إلى المال و في نفس الوقت تعلم جيداً أن عائلة ابيها من أغنى عائلات المنطقة البحريه لكنها مجبره أن تخفي حتى انتسابها إليهم حتى لو بمجرد الاسم !
" تذكري يا ابنتي أن الله عدل .. ربك لن ينسى من ظلمنا ابداً و لو مر مائة عام "
" لكن الله لن يساعدني و انا اجلس بكل هذا الضعف و الخنوع دون ان أسعى لاستعادة حقي و حقك .. بحق الله يا امي انا ابنه شرعيه لهذا الرجل لهذا هو مجبر على الإنفاق علّي و عليك "
عادت مشهد دموع امها التي كانت ترقد فوق فراش الموت يكوي قلبها من جديد لتهمس قبل أن تغلق عيناها للأبد :
" عديني يا ابنتي انكِ لن تبحثين عنهم أبداً .. عديني انكِ ستتحملين قدرك و لن تحيدي عن طريق الحق فتنقلبين من مظلومة الى ظالمة "
نزلت دموعها بعد أن عادت لواقعها لتهمس بخفوت من همست به في تلك الليلة المريرة بجوار جسد امها الخامد :
" اعدك يا امي .. اعدك "
سمعت صوت طرق على باب غرفتها البسيطة فتحركت تسند نفسها الى أن فتحت الباب لتجد نفسها أمام رجل يبدو في العقد الرابع من عمره بهيئة مختلفة تماماً عن ما اعتادت أن ترى في هذه المنطقة حيث يبدو و كأنه من الأعيان مما اقلقها منه !
نظر لها الرجل قائلاً بهدوء بينما يدقق في وجهها بطريقة اخافتها اكثر :
" هل هذا منزل الانسة جزاء ؟! "
ارتبكت نظراتها للحظه قبل أن تسأل بقلق حاولت إخفاءه :
" من يسأل عنها ؟!! "
تنهد الرجل بقلة صبر و كأنه يجبر نفسه على الوقوف معها ثم أجاب :
" مرسال من عائلة ابيها "
أسندت نفسها قبل أن تسقط أرضا ً فقد عاد قتلة امها و يبحثون عنها هي الأخرى .. هم من يبحثون عنها دون أن تبادر هي بالبحث ورائهم ! .. لماذا ؟!
" يا انسه هل انتي جزاء ؟! "
هتف الرجل بها لتهز هي رأسها نفياً دون أن تفكر و قد ارعبتها فكرة وجود خيط يأخذها لتلك العائلة من جديد ليعود حديث امها و يرن جرس الانذار في عقلها فتجيب بعدها بتماسك واهن :
" جزاء .. جزاء توفيت منذ عدة أيام بحادث سيارة "
نظر لها الرجل بصدمه ثم سألها من جديد بريبه واضحة :
" و انتي من تكونين ؟! "
ابتلعت ريقها بتوتر ثم أجابت بعد لحظات وقد حسمت قرارها :
" انا .. انا ندى عبد الحي .. صديقة جزاء رحمها الله "
..............................
" ماذا ؟!! ... ماتت ؟! .. اللعنة على هذا الحظ الأسود "
هتف بها جاسم بعد أن طارت كل آماله في الهواء فجده قد كتب للفتاه ما يعادل تقريبا ً نصيبه و هو كان يخطط للتقرب منها و الزواج بها حتى تعلو نسبة أسهمه و يستطيع منافسة امين الذي يتحكم بسلطات اكبر لأنه يدير نصيبه و نصيب أبيه و علياء الذي أصبح نصيبها تلقائياً ملكه بعد وفاتها !
و الان و بعد أن أصبحت جزاء خارج الصورة عاد مجدداً إلى نقطة الصفر ، تباً جزاء كانت ستصبح ورقته الرابحة لأن نصيبها بالإضافة إلى نصيبه كانا سيجعلان له نصيب الأسد في الاسهم مما سيمكنه من انتزاع الإدارة من أمين .. لما يعانده القدر بهذا الشكل !!
" سيد جاسم .. هل انت بخير؟! "
نظر له جاسم متهكماً فيما يقول بسخرية سوداء :
" خير ! ... و من اين سيأتي الخير بعد هذا الخبر يا سيد صدقي ؟! "
صمت صدقي قليلاً مدركاً خيبة الأمل التي يعاني منها رئيسه ، فهو اعلم الناس بما كان يخطط له و الاحلام الكثيرة التي بناها على عودة قريبته ..
صمت جاسم قليلاً يفكر في حل لمعضلته ليرفع رأسه مره واحده سائلاً صدقي باهتمام بالغ :
" كم عمر الفتاة التي وجدتها هناك ؟! "
صمت الاخر قليلا ً مفكراً ليجيب بعدها :
" على الأغلب .. تبدو في السابعة و العشرين "
" كيف تبدو ؟! "
ارتبك صدقي قليلاً ثم أجاب مجدداً :
" فتاه مثل اي فتاه سيدي لكن آثار الفقر المدقع كانت جليه عليها .. تبدو هزيلة و شاحبه لا أعلم إن كان هذا من الحزن ام أنها تعاني من مرض ما"
هز جاسم رأسه قليلاً بشرود ثم سأل بنبرة غريبه :
" اخبرني ماذا كان اسمها ؟! "
" ندى عبد الحي يا سيدي "
اومأ جاسم مجدداً ثم هتف مره واحده :
" احضرها لي ... وفي اسرع وقت "
.....................
" صباح الخير "
القتها عهد بابتسامتها المرحة وهي تدخل الى مكتب امين تحمل بيد فنجان قهوته و باليد الأخرى أوراقه .. ارتبكت ابتسامتها قليلاً حين وجدت وصال تجلس مع أمين في مكتبه ليرد كلاً منهما تحيتها ثم نهضت وصال لتقبلها فيما تقول بعتب :
" مرحباً بالآنسة المشغولة .. والله من يرى قلة حضورك لبيت جدي لن يصدق أبداً انكِ ابنة عمتنا "
ابتسمت عهد بلطف لترفع بعدها الاوراق الممسكة بها فيما تقول :
" كما ترين .. معظم وقتي اما عمل او دراسة أو تحضير لعمل جديد "
التفتت بعدها وصال الى امين فيما تقول بمشاكسة :
" برويه على الفتاه قليلا ً يا امين .. واضح انك تنهكها للغاية في العمل ، ما رأيك أن تمنحها عطله و يكون هذا اول قراراتي هنا ؟! "
اوشكت على الرفض لكن سبقها امين الذي ضحك مجيباً بعفويته التي تضرب قلبها دائما ً :
" مستحيل .. انا لا استطيع التحرك بدونها ، عفواً منك ِ عهد لكن كما تعلمين نحن في صدد صفقة مهمه مع عائلة المنصوري و لن استطيع التصرف بمفردي هذه الفترة "
ضحكت عهد ثم قالت بنبرة عملية أصبحت جزء من شخصيتها من كثرة تعاملها بها :
" لا تقلق انا لست بحاجة إلى عطله من الأساس .. لقد اعتدت على العمل لدرجة أنني بت لا اعلم ماذا يفعل الناس عادةً في العطلات "
ابتسم لها امين ثم قال مشيرا ً إلى وصال :
" حسناً يا عهد .. اقدم لكِ مهمتك الجديده ، وصال تريد الانضمام الينا لذا اريد منك تدريبها "
أزاحت احساسها بالتوجس جانباً ثم قالت :
" حقاً !! ... سيكون من الرائع انضمامك إلينا وصال "
ابتسمت لها وصال بمودة فلطالما كانت عهد لطيفة المعشر و سهلة الطباع عكس أخيها الفوضوي الذي ما أن يجتمع مع بكر في مكان واحد حتى يحيلاه الى كارثة بيئية و بصريه بكثرة الفوضى التي يشيعاها فيه !!
ابتسمت وصال بداخلها حين لمحت تلك النظرة الخاطفة التي القتها عهد على امين ظناً منها أنها لا تراها فهي تعلم جيداً أن مشاعر عهد ناحية امين تتخطى بكثير كونه ابن خالها كما أنها تشعر أن امين أيضاً يضعها في مكانه خاصه حتى وإن لم تجد مشاعره طريقها إلى السطح بعد !
" مرحبا ... الى اين ذهبت ِ بأفكارك ؟!! "
كان هذا صوت امين الضاحك والذي أخرجها من أفكارها لتتمتم اخيراً بمرح اجادت رسمه بينما بداخلها تدعو الله ان يجد امين سعادته مع عهد بعيداً عن ضغوط امها التي تحارب في الخفاء حتى تزوجها منه لتحل محل اختها الراحلة :
" معكم هنا .. حسناً اي عمل ستكلفونني به ؟!! "
" خففي حماسك قليلاً يا فتاه .. يجب أن تتعرفي أولا ً على سير العمل و تتدربين عليه و بعدها سنضع فوق كاهلك الكثيييييييير "
القى امين كلماته ضاحكا ً لترسم وصال فوق وجهها ملامح الجزع فيما تقول باستغاثه ممازحه إياه غير غافلة عن الأخرى التي تحترق من الغيرة جوارها :
" لا .. لم نتفق على هذا ، اعيدوني الى امــــــــــي "
........................
( في المساء )
" ماذا ؟! .. هل وجدها جاسم هذه المرة حقاً ؟! "
اومأ امين إليه ثم أكمل مفسراً :
" لقد استطاع الوصول إلى عنوان المقهى الذي تعمل فيه ومن هناك توصل إلى عنوانها لكنه قال إنه حين ارسل صدقي الى المكان لم يجيبه أحد "
نظر إليه بكر بصمت مطبق ثم سأل مجدداً بغموض يجيده حين يرغب بإخفاء دواخله :
" و هل تأكد انها هي حقاً ام انه مجرد تشابه اسماء أو اي شيء آخر كما يحدث في كل مره ؟!! "
حدق امين في أخيه متعجباً من الهدوء الذي حل عليه مره واحده ليجيب بعدها :
" اظنها هي هذه المرة .. كل الدلائل تشير إلى ذلك "
هز بكر رأسه بلا معنى و رغماً عنه تهاجمه ذكرى فتاه صغيره تشبه الدمى لم تتخطى عامها الثالث بعد اعتاد صبي في السابعة من عمره التسلل إلى غرفتها هي و امها حتى يراها أثناء نومها ويداعبها كما يشاء بعيداً عن زوجة عمه الثانية التي كانت تحرض الجميع عليهم و تحذرهم من الاقتراب منهم و كأنهم وباء حل على المنزل لكن اوان انقاذه هو قد فات وقتها فلعبته الصغيرة كانت و كأنها قد سلطت عليه سحر ما اسره و علمه كل انواع الحيل منذ طفولته حتى يجتمع بها !
" بكر .. يا بكر .. انت يا ابني فيما شردت ؟! "
انتبه بكر لأخيه الذي كان يرفع حاجبيه تعجباً منه ليسأل امين مجدداً :
" فيما شردت و انا اكلمك ؟! "
" لا شيء .. اظن انني لم احظى بكفايتي من النوم بعد لهذا يتشتت تفكيري كل بضعة دقائق .. سأصعد لغرفتي ، تصبح على خير"
رد امين تحية أخيه دون أن يغادره استغرابه من تناقض احوال الآخر بينما ظل بكر على صمته و شروده ليجدها قفزت أمامه من جديد و كأنها خرجت إليه من تحت الارض :
" مرحباً بأبن العم الشارد .. اين اختفيت من الصباح ؟! "
لم يكن بكر في مزاج مناسب لبدأ حديث آخر يعرف نهايته جيداً معها فقال مختصراً دون أن يوقف خطواته :
" تصبحين على خير يا رغده "
" لم تجيبني .. اين كنت ؟! "
التفت اليها أخيرا ً ثم قال من بين أسنانه :
" شيء لا يخصك "
هتفت رغدة بغيظ منه :
" لماذا تتعامل معي هكذا ؟! .. بكر انا احبـ..... "
قاطعها هو قبل أن تكمل مقررها اليومي :
" اسمعي يا ابنة عمي .. لقد سأمت من تكرار الأمر لهذا و لأخر مره سأقولها لكِ بالحسنى .. اخرجيني من رأسك لأنكِ لن تملكيني ابدا ً "
ليتحرك بعدها قبل أن تتفوه بأي شيء آخر يعكر مزاجه فيما همست هي لطيفه الراحل بينما يتصاعد داخلها بركان لا سبيل لإخماده :
" سنرى يا بكر ... سنرى لمن ستكون الغلبة في النهاية "
.............................
انهى ارتداء ملابسه ثم رمى جسده بإنهاك فوق الفراش يفكر في حل لتلك المعضلة التي وجد نفسه فيها !
تباً .. كل شيء من سيء لأسوأ .. لا يعرف ماذا عليه أن يفعل الان ؟!
إن فشلت خطته فلن يتبقى له أي أمل في الانتصار على امين و تولي مصالح العائلة و لكن إن نجحت فهذا سيكون أكبر تعويض له عن كل ما خسره منذ أن كان مراهقاً ..
يعلم جيداً أنه يجازف بكل ما يملك هذه المرة و إن خسر ستكون خسارته فادحه بكل معنى الكلمة فلن يتوقف الأمر فقط على مبالغ مالية بل سيتطور الأمر و يخسر دعم جده نهائيا ً مما سيخلي الساحة للآخر بشكل كامل لكنه أصبح على حافة الجنون منذ أن أعلن الطبيب أن حالة جده في تراجع مستمر .
هذه الأخبار مع تصرفات جده التي تثبت له رويدا رويدا أنه يحضر امين لرئاسة الشركة و العائلة جعلته يضع كل ما يملك على طاولة اللعب فإما أن يربح كل شيء أو يخسر كل شيء !
اغمض عينيه يتنهد لتفاجئه كعادتها و تهاجم أفكاره فتطيح بكل شيء عداها ...
مليكة القلب و قاتلته .. علياء
علياء التي كان مستعداً لفعل اي شيء من أجلها، من أجل أن يحظى بحبها لتتركه في النهاية و تتزوج من أمين !
لكن هو المخطئ .. هو حقاً فعل كل شيء للوصول إليها إلا البوح !
مليكة قلبه كما يحب أن يدعوها كانت تقابل كل ما يفعله لأجلها بشكر هادئ أقرب البرود دون أن يدري هو سبب تلك الجدران التي كانت تصر هي على بقائها مرتفعة بينهما تحيل بين قلبه و قلبها لتقصم ظهره و ظهر قلبه في النهاية بزواجها من امين رغم علمها بقوة مشاعره تجاهها !
بلى كانت تعلم ..

رغم الجهل الذي كانت تتفنن في رسمه عيناها فضحت رؤياها لحبه المرسوم في عينيه ، اذنها سمعت همس حروفه المختبئ خلف هالة الصرامة الصادرة عنه حتى قلبها هو يعلم جيداً أنه كان يشعر بخفقات قلبه التي كانت و ما زالت تصرخ باسمها في كل حين .
هي كانت علياءه .. مليكة قلبه ووجدانه الى أن قررت أن تجتث جذور حبها من قلبه حين وافقت على الزواج من غيره دون أي تفسير ليضحى هو من بعدها كل شيء و عكسه !!
أصبح عاشقها و ماقت ذكراها .. أصبح ابن عم يتمنى الأذى لمن هو من دمه !
فقط لو يعلم لما أهدته كل هذا الوجع رغم يقينها بحبه !!
ضرب قبضته على الفراش و نيران قلبه الغاضب تشتعل مجدداً ليصدر بعد دقائق صوت هاتفه الذي أعلن عن وصول رساله جديده .. رساله ينتظرها بفارغ الصبر .. رساله ستحدد مكانته الجديده بين أفراد عائلته
( سيد جاسم .. الفتاة رفضت اللقاء لهذا سأرسل لك عنوان الغرفة التي تقطن فيها لأنها رفضت رفضاً قاطعاً القدوم إليك .. اما بقية الأمور فقد انهيتها اليوم )

نهاية الفصل الاول

ضربة جزاء (ج1 من سلسلة قلوب تحت المجهر) لِـ"هاجر حليم" مكتملةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن