الفصل الخامس و العشرون: (الأخير )
دلف امين الى المنزل ببسمة راضية تزين وجهه لأول مرة منذ أكثر من ...... !
رباه هو نفسه لا يذكر متى اخر مرة كان يطفو فيها فوق غيوم الرضا مثل اليوم !
اغمض عينيه و تنفس بعمق ثم تحرك بداخل الردهة غير مستغربا خلوها من ساكني المنزل في هذا الوقت من الليل ..
صعد إلى غرفة قصي ليطمئن عليه فوجده نائما مثلما توقع فقبل رأسه و داعب شعره قليلا هامسا بخفوت :
" سنصبح بخير يا بني .. لقد سقط حمل اباك عن ظهره و اصبح حرا كما لم يكن يوما "
ليدثره بعدها بالغطاء ثم يقبل رأسه مرة أخرى و يرحل الى غرفته ..
استلقى فوق فراشه متنهدا براحة ليرجع به عقله الى اللحظة التي اكتفت فيها عهد من حديثه بعد أن فهمت و شعرت بكل حرف نطق به لتتبع بعد ذلك قلبها فتغمره بين ذراعيها لوقت طويل دون أن تنطق بحرف غير عابئة باحتمال وجود من يتلصص عليهم !
و بدوره شدد هو الآخر ذراعيه حولها و كأنه يحتمي بها من تلك الذكريات الحارقة التي فتح بابها بنفسه فيتشاركا الوجع و يطبباه سويا ..
يختبئ بها كطفل صغير فتهبه امومتها دون حساب ..
تدمع عيناه فتشاركه الدمع دون أن ترى عيناه !
لكن قلبها يشعر به ، مرتبط به برباط مقدس غير قبل للانقطاع ..
كان جائعا للأمان فأشبعته بوطن مختزل في عناق !
غلف الصمت المكان حولهما لكنه لم يقدر ابدا على صخب قلبهما ..
فقد كانا يتشبثان ببعضهما كغريقين على وشك النجاة من أمواج ماض متلاطمة كادت أن تبتلعهما معا !
ليفترق بعدها الجسدان دون القلوب و يحدقا في بعضهما بوعد غير منطوق أن ما مضى قد مضى فلا حديث عنه بعد اليوم !
كانت طعنة غدر من صاحبة نفس مريضة اوهنته لأعوام الى أن عثرت عليه عهده فعلمته الجرأة و طببت وجعه و جعلت منه آخر يفتح ذراعيه للحياة بعد أن اولاها ظهره بكل تخاذل و جبن ..
رن هاتفه وقطع أفكاره فنظر إلى صورتها التي تزين شاشته ثم استقبل المكالمة فتبادره هي بصوتها المتلهف الناعم الذي يدغدغ رجولته :
" حبيبي .. هل وصلت ؟!! "
تنهد امين ثم رد عليها :
" وصلت منذ قليل و كنت على وشك الاتصال بكِ "
فتعقب بسماحتها :
" لا يهم .. الحمد لله على سلامتك "
" سلمك الله من كل شر يا عهدي "
صمتت عهد لا تدري بأي شيء ترد فينتهز هو الفرصة و يسألها بخفوت :
" عهد .. ما رأيك أن نقيم الزفاف اول الشهر القادم ؟!! "
حسنا هي ليست فكرته بل فكرة العم إمام الذي طلب منه تعجيل الزفاف حتى يخرجاها من حلقة الحزن التي باتت تدور بها !
على الناحية الأخرى صمتت عهد قليلا ثم قالت بعد تفكير :
" لكن اول الشهر بعد ثلاثة أسابيع .. كيف سأستعد ؟!! "
فيزفر هو براحة على قبولها المبدئي للفكرة ثم يرد عليها :
" كل شيء جاهز تقريبا .. و من الغد اذا اردتِ سنبحث لكِ عن اجمل فستان زفاف و قد نبعث بطلبه من الخارج ايضا لا مشكلة ثم نقيم الحفل هنا في حديقة المنزل أو بمنزل المزرعة مثل بكر أو حتى نختار قاعة سويا .. كل الاختيارات متاحة ، فقط اختاري أنتِ ماذا تفضلين و انا تحت امرك "
ابتلعت عهد ريقها ثم سألته ببعض التردد :
" و أين سنعيش ؟!! "
قطب امين قليلا ثم أجاب ببطء :
" سأنقل غرفة قصي الى مكان اخر و اوسع و اجدد المكان كليا لأجلك "
تنحنحت عهد ثم سألت بحذر شديد :
" ألا يمكننا أن نعيش بمكان مستقل ؟!! "
تفاجئ امين قليلا لكنه قال بعد لحظات من التفكير :
" اذا كنت ِ لا ترغبين بالعيش في المنزل سأجد حلا .. قد اطلب من بكر ان يتنازل لنا عن الملحق فنقيم به رغم أنني اشك في قبوله بعد كل تلك التجهيزات التي أنهاها به من أجله هو و جزاء ، لكن لا مشكلة سأحاول معه .. لكن اخبريني يا عهد لماذا لا ترغبين بالإقامة في المنزل ؟!! "
زفرت عهد ثم اجابته ببعض التوتر :
" الأمر ليس له علاقة بالمنزل نفسه ، لكني ...... "
صمتتت لا تدري كيف عليها أن تصيغ جملتها فيحثها هو قائلا :
" تكلمي حبيبتي ، لا داعي لتوترك "
تنهدت عهد من جديد ثم همست بخفوت :
" انا اعلم اني مخطئة و تفكيري طفولي لكني لم استطع مسامحة جزاء حتى هذه اللحظة "
اعتدل امين بجلسته ثم قال ببعض الحذر :
" تسامحينها على ماذا يا عهد ؟!! .. جزاء لم تخطئ بحقك ابدا "
دمعت عيناها لتهمس بألم :
" اعرف .. اقسم بالله اعرف لكن لا اعلم كيف اشرح لك نفسي ، هذه امي يا امين .. تلك المرأة التي قام جدي و الجميع من بعده بنفيها امي .. لا استطيع التوقف عن التفكير بها و بحالها و رغما عني .. رغما عني "
صمتت من جديد فأكمل امين عنها :
" رغما عنك تحملين جزاء نتيجة ما حدث بل وتتمنين لو أنها لم تعد من الأساس "
لم تستطع عهد النطق بشيء لكن شهقاتها فضحت مدى وجعها فاستطرد امين بصوت خافت :
" لم اعهدك ظالمة يا عهد "
فتدمع عيناها بعجز و تتمتم بصوت مبحوح :
" غصب عني يا امين ، ماذا افعل ؟!! .. أخبرني "
تنفس امين بعمق ثم رد عليها بصوت صلب :
" اسألي نفسك لو كنتِ أنتِ مكانها و تعرضتِ لكل ما تعرضت هي إليه ماذا كنت ستفعلين ؟!! "
بكت عهد مجددا بينما اكمل هو :
" اخرجي مكانة أمك في قلبك من الصورة و انظري لها بحيادية كما فعلت وصال .. ستجدين وقتها الحل لمعضلتك ، وصال ليست اقوى ولا اذكى منك يا عهد .. لكنها اختارت أن ترى الأمور من الزاوية الصحيحة و هذا ما عليكِ أنتِ فعله الآن "
مسحت عهد وجهها ثم سألته بصوت ضعيف :
" هل هذا يعني أن أمي لن تشهد زفافي ؟!! "
اغمض امين عينيه ثم رد عليها بصبر :
" اعدك أن افعل كل شيء حتى احضرها لكِ "
ابتسمت عهد وسط دموعها ثم همست له :
" لا حرمني الله منك يا امين "
فتصيبه عدوى الابتسامة لا سلكيا و يهمس لها :
" و لا منكِ حبيبتي .. فقط لا تنسي ما تحدثنا عنه ، جزاء لا ذنب لها فيما حدث بل كانت الضحية الأولى مثلها مثل امها رحمها الله بالضبط .. اتفقنا ! "
هزت عهد رأسها بإرهاق فيما تتمتم بصوت خافت :
" اتفقنا "
" حسنا .. أراك ِ غدا في الشركة "
" تصبح على خير حبيبي "
" و أنتِ كل أهلي حبيبتي "
...................................
تحسس الفراش بجانبه فلم يجدها ففتح بكر عينيه يبحث عنها في الغرفة بتشوش معتقدا انها تذاكر في أحد الأركان كعادتها هذه الفترة لقرب اختباراتها لكنه كان بمفرده تماما ..
نهض ببطء من نومه وجلس على الفراش يتمطئ بكسل ثم أعطى لنفسه بضعة دقائق يستفيق خلالها فنهض و غسل وجهه ثم ارتدى ملابسه و خرج يبحث عنها قبل أن تغتال أحد أو يغتالها احد !
ابتسم كالابله لمسار أفكاره ثم تحرك يبحث عنها في أنحاء المنزل لكنه لم يعثر عليها فزفر ببعض القلق و تحرك عائدا إلى غرفتهما ليتصل بها لكنه توقف حين سمع بعض الهمهمات القادمة من غرفة عمه حامد فاقترب بحذر ينظر من شق الباب ليجدها أخيرا .... تجالس والدها !
قطب بكر بارتياب من جلوسها معه أثناء نومه ..
ألم يكن من الأفضل أن تجالسه مستيقظا ؟!!
يشهد الله لقد حاول مرارا طوال الفترة الماضية أن يجعلها تقترب من تلك الغرفة لكنها كانت ترفض و تتهرب و تغير الموضوع كلما قام بفتحه ... إذا ً لما الآن و ما الذي تفعله جوار أباها النائم ؟!!
ارهف بكر السمع فيصله صوتها الخافت بحشرجة بكاء :
" لم اتخيل يوما أن اتمنى لك الشفاء ، لكني حقا أريد أن اسمعك .. اريدك ان تخبرني لما فعلت بها كل تلك الأشياء البشعة ! .. حسنا انت برئ من مؤامرة اختك و زوجتك لكنك تعديت عليها و هذا ما لن يغيره شيء "
قبض بكر كفه بغضب لأجلها بينما استطردت هي بدموع :
" لقد حاولت تخطي الأمر لكن رغما عني لم استطع .. في كل مرة حاولت فيها تجاهل الأمر تصفعني الحقيقة بقوة ، حقيقة انني لست سوى ثمرة عفنة نتجت عن حادثة اغتصاب "
شتم بكر بخفوت و ود لو يقتحم تلك الغرفة فيهدها فوق رأس صاحبها لكنه استدعى كل طاقات الصبر الكامنة بداخله و ظل مكانه يسمع منها بدلا من الغافي فتكويه حروفها الممتزجة بدموع القهر :
" أخبرني انت كيف افعلها ؟!! .. كيف أنسى و اتخطى تلك الحقيقة المخزية التي كرهت نفسي بسببها لسنوات ؟!! .. كيف اعبر فوق كل تلك الحقائق و اسامحك كأن شيئا لم يكن ؟!! "
اوشك بكر على اقتحام الغرفة لكن اوقفه صوتها من جديد حين أكملت بحزن مكلل بالشموخ و هي تهم بالنهوض من مكانها :
" لكن لا بأس ، انا لست بحاجتك من الأساس .. لم اكن يوما و لن اكون ابدا ، لقد دربت نفسي لأعوام و جعلتها تعتاد على عدم وجودك حتى بات هذا الأمر عاديا بالنسبة لي ، دفنت تلك الفتاة الواهنة الهشة التي كانت تنتظر عودة والدها نادما و خلقت بدلا منها أخرى شرسة تحارب بضراوة حتى لا تكون بحاجة أحد و لا بانتظار أحد خاصةً انت .. لهذا انا آسفة ، آسفة جدا .. فأنا لا اعتقد انني استطيع مسامحتك .. على الأقل في هذه المرحلة من حياتي "
أنهت جزاء كلامها ثم تحركت للخارج لكنها وقفت مجفلة حينما رأته يقف مستندا على الجدار المجاور للغرفة فتقطب باستياء و تسأله بصوت مستنكر رغم أنها تعلم إجابة سؤالها مسبقا :
" هل كنت تتنصت على حديثي ؟!! "
اومئ لها بكر بوقاحة ثم كتف ذراعيه قائلا بصوت هادئ :
" حين استيقظت و لم اجدك جواري بحثت عنك و حين سمعت صوتك هنا وقفت و استمعت إليكِ "
ازداد انعقاد حاجبيها ثم تركته و ذهبت الى غرفتهما تدب الأرض بقدميها مدركة أنه يتبعها لا محالة لتدخل بعدها الغرفة بعصبية فيتبعها هو كظلها لتهتف هي بضيق :
" توقف عن محاصرتي يا بكر "
رفع لها حاجبه مستهجنا ما تقول ثم يرد عليها ببرود مغيظ :
" لقد انتابني الفضول لا اكثر "
تنهدت جزاء بضيق شديد فهي لا ترتاح لكونها مكشوفة أمامه لتلك الدرجة و هو لا يساعدها إطلاقا بل يكاد يحشر أنفه في كل صغيرة وكبيرة في حياتها !
جلست على طرف الفراش و اطرقت بوجهها يأسا منه فهي باتت تدرك جيدا أن معظم الأحيان لا يكون هناك قيمة للحديث معه من الأساس لأنه ينفذ ما يرغب به فقط و لا يستمع لغير نفسه .. بينما جلس بكر جوارها فأعطته ظهرها معلنة خصامها له فأبتسم بدفء لم تراه ثم اقترب برأسه هامسا جوار اذنها :
" أنا آسف "
ارجفها قربه لكنها سيطرت على نفسها ولم تتنازل عن موقفها ليصعقها حين استطرد :
" لا تفهمني خطأ فأنا لست آسف على تصنتي عليكِ "
جزت على أسنانها و التفتت له تسأل ببوادر زوبعة غضب جديدة :
" إذا ً على ماذا تعتذر يا محترم ؟! "
أبعد بكر خصلة ثائرة فضربت يده بعصبية تبعدها عن وجهها ليرد هو بعد لحظات من الصمت :
" انا اعتذر نيابة عنه .. انا نادم بدلا منه "
قطبت جزاء بعدم فهم لتسطع الإجابة أمامها حين استطرد :
" سأكون لسانه اليوم و اخبرك ما لن يستطيع هو قوله لكِ .. أنا آسف جدا ليتني ما اضعتك من يدي ، بل ليتني ما اقترفت ذلك الذنب الذي لا يُغتفر بحق امك "
شعرت جزاء بضربة عنيفة في قلبها فنهضت تهتف بضيق عارم :
" اصمت يا بكر "
نهض بكر بدوره ثم اكمل دون أن يعير حديثها اهتماما :
" آسف على كل دقيقة شعرتِ فيها انكِ بمفردك ولا سند لكِ .. آسف على كل يوم طعنك فيه خنجر اليتم و انا على قد الحياة .. آسف على كل مرة كنتِ بحاجتي فيها و لم تجديني جوارك "
" قلت توقف "
يقترب خطوة أخرى ثم يقف أمامها تماما مواجها ضعفها بقوته هامسا بعمق عاطفته نحوها مشيرا إلى قلبه :
" آسف على كل لحظة مرت و انتِ بعيدة عن عيني لكنك لطالما كنتِ هنا .. أنتِ قطعة من روحي ، أنتِ ابنتي و أول فرحتي "
وضعت جزاء كفيها على اذنيها تهمس ببكاء و توسل :
" توقف ارجوك .. توقف "
فيبعد هو كفيها عن أذنيها و يحدق في عينيها الباكيتين منهيا حديثه :
" اجرمت في حقها و حقك اعترف .. لكن تأكدي ان الله اقتص لكن و اصبح عقابي هو رؤيتك أمامي دون أن استطيع رفع عيني لعينيكِ الكارهتين أو حتى لمسك .. ابنتي أمامي بقرب خطوة ببُعد السماء ، هل يوجد عقاب اصعب من ذلك ؟!! "
هتفت جزاء باكية بانهيار :
" اصمت .. اصمت ، هو لن يقولها أبدا ً .. لم يندم على فعلته "
لم يرأف بكر بحالها و واجهها بما تنكره :
" هل تتصنعين العمى يا جزاء ؟! .. كل من رأى اباكِ رأى ندمه ساطعا في نظراته نحوك ، أنتِ من ترفضين رؤية الأمر و متمسكة بنفورك منه و كأنك ستخونين امك اذا سامحتِ اباكِ "
هتفت جزاء باكية بقهر :
" كيف اسامحه على ما فعل ؟!! .. لو كنت انت مكاني ..... "
قاطعها بكر مكملا عنها :
" لو كنت مكانك لأنهيت الأمر من أجل نفسي .. و إن كانت نهاية عذابي تكمن في مسامحتي لرجل اضعف بكثير من طلب السماح و المغفرة بلسانه سأفعلها شفقة به و رحمة بنفسي "
غطت جزاء وجهها بكفيها هاتفة بوجع خالص :
" صعب .. صعب "
أبعد بكر كفيها عن وجهها هامسا بثقة خبئ خلفها ألمه على حالها :
"الصعب ليس مستحيلا ، أنا لا اطلب منك ِ تخطي الأمر فورا لكن على الأقل اعطي لنفسك فرصة .. أنتِ تستحقين السعادة بعد كل ما مررت به حبيبتي و سعادتك هذه المرة لن تكون إلا من صنعك أنتِ "
ابعدت جزاء وجهها عنه بعجز فعانقها هو غامرا إياها بين ضلوعه رغما عنها فيما يهمس لها بنبرة محترقة :
" انا لن اتركك تسقطين في تلك البؤرة السوداء من جديد .. و إذا لم تتمكنِ من مسامحته ضعيني انا مكانه ، اصنعي مني أب لكِ "
حين وجدها استكانت على صدره مازحها مكملا :
" أب منحرف ووقح بعض الشيء لكن لا بأس ، لقد تدربت قليلا في قصي و اعتقد انني سأفي بالغرض "
ضحكت جزاء رغما عنها فيما تعقب ساخرة :
" منحرف ووقح بعض الشيء ! "
أبعدها بكر و نظر لها قائلا بصدق مضحك :
" و الله بعض الشيء .. أنا حتى هذه اللحظة أحترم خجلك و لم أحاول خدش حياءك حتى "
ضحكت جزاء مرة أخرى بصوت أعلى حتى ادمعت عيناها من جديد فيصيح هو موبخا إياها بحنق مصطنع :
" توقفِ عن السخرية من حديثي ، انا لا امزح "
تنهدت جزاء ثم حاولت التكلم بصوت اهدئ :
" و بما أنك تريد لعب دور أبي من الذي سيشد لك اذنيك حين تغضبني كزوج ؟!! "
رفع لها كتفيه و أجابها ببساطة شديدة :
" أولا أنا لا اغضبك ابدا .. انا زوج مثالي جدا لكن لو حدث في يوم ما لا قدر الله لديكِ أبي اذهبِ و اشكيني إليه "
رفعت جزاء حاجبا مستفهما و سألته :
" و لما لا أذهب إلى جدي ؟!! "
لوى بكر شفتيه بضيق مصطنع و رد عليها :
" لأنه لن يتوانى عن طردي من المنزل .. هو يبحث عن فرصة ليفعلها منذ زمن من الأساس و أنتِ اذا ذهبتِ له غاضبة في يوم سيحقق حلم حياته و يطردني أشد طرد "
ضحكت جزاء من جديد و عقبت ساخرة :
" جدي يحبك للغاية .. أليس كذلك ؟!! "
فيضحك هو مغمضا عينيه بتأكيد و يجيبها :
" جدا .. قصة عشق رهيبة بيننا "
تعالت ضحكتها مرة أخرى ثم عقبت و هي تشبك ذراعيها خلف عنقه :
" يا مسكين "
فيسحبها هو من خصرها الى صدره متمتما بصوت أجش وهو يقترب من شفتيها باحثا عن شهدها :
" جدا .. مسكين جدا و عريس جديد جدا لم يأخذ فرصته بعد "
فتضحك جزاء بخفة و تستسلم له تنهل من عبق قربه الذي يغنيها عن كل شيء .
...........................
تحركت وصال بتثاقل من فوق فراشها ثم نهضت ببطء تهم بالدخول إلى دورة المياه لتتوقف خطواتها حين لمحت جاسم يقف مبتسما في الممر مع امرأة فارعة الطول مثله و تبدو كما لو أنها خرجت من إحدى مجلات الازياء العالمية !
حدقت وصال فيهما بغيرة مؤلمة و هي تلاحظ مدى توافق هيئتهما و قارنت الوضع بهيئتها هي حين تقف معه و كيف تبدو جواره قزمة هزيلة شاحبة بحاجة إلى من يسندها ..
اغتم وجهها و تراجعت بينما لمحها جاسم فاعتذر من محدثته و دلف إليها دون أن يمنح امها الجالسة في الخارج نظرة واحدة ولو من باب الشفقة !
" لما نهضتِ ؟!! .. هل تحتاجين لشيء ؟! "
لم ترد عليه بشيء و أكملت طريقها إلى دورة المياه ثم أغلقت الباب خلفها بكل قوتها إعلانا عن غضبها منه ..
رفع جاسم حاجبيه باستغراب ثم ذهب و جلس على أحد المقاعد منتظرا خروجها لتدخل امها في تلك اللحظة هادرة بخفوت شديد حتى لا يصل الصوت الى ابنتها :
" انت بأي حق تظل مع ابنتي في الغرفة بمفردكما ؟!! .. أخرج من هنا "
لم يعير جاسم غضبها اي أهمية لكنه مع ذلك قال بصوت هادئ :
" ابنتك خطيبتي و في اقرب وقت ستصبح زوجتي "
جزت مديحة على أسنانها بغضب مجنون تداري به رعبها من ظنها بأنه ينتقم منهن في وصال فيما تقول بصوت مكتوم :
" لم تصبح خطيبها و لن تكون بإذن الله .. سأفعل ما بوسعي حتى أنقذها منك ، انت لا تعـ....... "
قطعت هذرها مجفلة حينما وجدته أمامها في ثانية يقول بغضب مرعب :
" قسما بالله العلي العظيم إذا اقتربتِ منها و بثثتِ سمك في اذنها لن ارحمك و لن يشفع لكِ عندي شيء ولا حتى وصال نفسها "
نظرت له مديحة بحقد جلي لتهتف بعدها بسخرية سوداء :
" هل تريد اقناعي بأنك استيقظت فجأة ووجدت نفسك عاشق لها ؟!! "
اسودت نظرة جاسم و قال ببرود مهين :
" اقتناعك من عدمه لا يهمني في شيء "
كادت مديحة أن ترد عليه لكنها صمتت تماما حين خرجت وصال من دورة المياه و ركضت إليها حتى تساعدها رغم إدراكها انها لا تحتاج إلى مساعدة فباغتتها وصال سائلةً بضيق واضح :
" ماذا تفعلين هنا يا امي ؟!! "
صُدمت مديحة من قسوة سؤال ابنتها و احراجها لها أمام جاسم فتمتمت بهمس خافت :
" ماذا ؟! .. أليس من حقي رؤية ابنتي و الوقوف معها في محنتها ؟!! "
تجاوزتها وصال ببطء تتجنب النظر إلى عينيها الدامعتين بانكسار ثم اجابتها بنفس النبرة :
" لقد فقدتِ كل حقوقك بما فعلتِ "
نظرت مديحة لظهر ابنتها و هتفت بلوم باكِ :
" هل ستتخلين عن امك يا وصال ؟!! "
جلست وصال على الفراش بصمت دام للحظات ثم تمتمت بألم :
" ليتني استطيع التخلي عنك لكان الأمر أكثر راحة ، لكن مع الأسف أنتِ امي ولا أستطيع تركك بمفردك .. و مع ذلك انا لم اتخطى بعد فعلتك لهذا ارجوكِ لا تضغطي عليّ اكثر بوجودك "
تدفقت الدموع من عيني مديحة ثم اومأت برأسها متفهمة وخرجت من الغرفة لتهمس وصال الى جاسم الذي كان يقف في نهاية الغرفة :
" اتبعها من فضلك حتى لا يحدث لها شيء "
قطب جاسم سائلا بضيق :
" و أنتِ ؟!! "
تمتمت وصال وهي تغمض عينيها :
" انا بخير لا تقلق .. كما أن آدم سيأتي لفحصي مجددا بعد قليل "
خرج جاسم من غرفتها كارهاً ليقابل آدم الذي بادره سائلا عن وجهته فيرد هو باقتضاب :
" لحظات و سأعود "
حدق ادم في طيفه بتعجب ثم أكمل طريقه و دخل إليها فبادرته بابتسامة مصطنعة ليقول هو بذكاء و هو يقترب منها :
" لاحظت اختفاء امك .. هل تشاجرتِ معها ؟!! "
هزت وصال رأسها نفيا ثم قالت بخفوت :
" لم نتشاجر ، لكني طلبت منها أن ترحل "
سحب ادم كرسي و جلس أمامها ليسألها بنبرة يشوبها العجز :
" كيف تتعاملين مع الأمر ؟! .. كيف تشعرين ؟!! "
رفعت له وصال عينين حزينتين لترد له سؤاله :
" اخبرني انت .. بما تشعر ؟!! "
تنهد ادم ثم مال بجسده للوراء يسنده على ظهر المقعد و أغلق عينيه مجيبا بتشوش :
" لا اعلم .. أنا حتى لم اصدق ، الأمر كله أشبه بكابوس بشع لا استطيع الاستيقاظ منه "
ابتسمت وصال إبتسامة مريرة ثم عقبت :
" كابوس لن نستيقظ منه ابدا ، بل أصبحنا مجبرين على التكيف و التعايش معه "
صمت ادم لتباغته هي بسؤالها :
" هل لازلت تقاطع بكر ؟!! "
تغصن وجهه بالألم ثم رد عليها قائلا بضيق :
" في كل مرة تعرضت فيها لاختبار صعب كنت اركض إليه و الآن في أصعب إختبار مررت به لا أجده بجانبي .. ليس لأنه لا يريد لكن لأنني لا أستطيع ، بكر خانني بشكل ما يا وصال ، كان يخطط للإيقاع بأمي من خلف ظهري "
اعتدلت وصال في جلستها ثم سألته من جديد :
" و هل كنت ستقف معه و تساعده إذا كان اخبرك ؟!! .. هل كنت ستقدر موقفه ؟!! "
صمت ادم غير قادرا على الرد فتمتمت وصال تصارحه بما يرفض هو رؤيته :
" كلانا نعلم و أنت بالأخص أن جزاء بالنسبة لبكر ليست مجرد زوجة أو ابنة عم .. إنها روحه التي يحيا بها ، بكر منذ أن وعيت و انا أراه يهيم في دنيا خاصة به محورها جزاء ، قد يكون الأمر مبتذلا أو مريبا بالنسبة لنا لكننا في النهاية مجبرين على تقبله "
قطب ادم بعدم رضا لتهمس وصال بخفة :
" انت الآن غاضب لأنه أعلن ما حدث قديما و عفوا منك شوه صورة والدتك ام لأنه لم يخبرك بالأمر من البداية ؟!! .. كن صريحا مع نفسك ثم أخبرني "
ظل ادم على صمته للحظات قبل أن يتمتم معترفا :
" كلاهما "
اومأت له باستحسان ثم قالت مازحة :
" توقعت هذه الإجابة .. أفضل صفاتك انك صريح مع نفسك "
تنهدت ادم مبتسما بهدوء ثم نهض لتبادره هي هامسة من جديد بنصيحة هي أصغر عمرا بكثير من منحها :
" لا تهدم صداقة عمر بسبب موقف يا ادم مهما كان صعبا عليك .. أنت وبكر أكثر من أخوه بل انت أقرب إليه من أمين نفسه و انا متأكدة أنه الآن يتألم لما حدث اكثر من الجميع لكنه كعادته ثور لا يعرف يحتوي غير جزاء "
ضحك ادم بخفوت ثم وافقها قائلا :
" صدقتِ في وصفه بالثور .. لديكِ حق "
بادلته وصال الضحك بينما فحصها هو بشكل روتيني ثم قال بدفء :
" هكذا استطيع ان اقول .. انرتِ مكاننا المتواضع سيدتي ، دعينا لا نراكِ مجددا "
" حقا ؟!! "
جاء السؤال من جاسم الذي دلف إليهما في تلك اللحظة ليجيبه ادم :
" نعم و لا "
حين وجد عدم الفهم يعلو وجههما زفر مستطردا :
" نعم ستعود غدا للمنزل و لا سنراها مجددا مرة كل شهر لإجراء بعض الفحوصات اللازمة "
تنهد جاسم حامدا ربه بينما نظر ادم إلى وصال بطرف عينه ثم لعب حاجبيه بشيطانية فيما يتمتم ساخرا :
" سنسحب منكِ عينة كل شهر "
ابتسمت وصال باستهانة ثم ردت عليه :
" لقد اعتدت الأمر .. لقد تعرضت للجلسات الكيميائية هل سترهبني عينات الدماء ! "
عقب ادم ضاحكا وهو يهم بالخروج من الغرفة اتقاءاً لشر جاسم الذي لا يحبذ مزاحهما :
" وحش يا ابنة خالي "
لينطلق بعدها ضاحكا و هاربا من نظرات جاسم النارية التي صوبها نحوه دون أن ينسى إغلاق الباب خلفه تجنبا للفضائح ..
عاد جاسم بعينيه الى وصال التي تجلس مكانها بوداعة و برود ثم قال بهدوء ما قبل العاصفة :
" اعتقد أننا تناقشنا من قبل في موضوع الحدود "
لكن وصال باغتته حين هتفت من بين أسنانها :
" يا سلام ! .. تكلمني عن الحدود و أنا لم أفعل شيء بتاتا غير الحديث مع ادم و امامك بينما انت كنت تقف في منتصف الممر تضاحك احداهن منذ اقل من نصف ساعة ! "
ضيق جاسم عينيه بتركيز ثم ما لبث أن قال بصبر :
" انا كنت ابتسم بمجاملة لعميلة لدينا في الشركة قابلتها صدفة .. اما أنتِ يا حلوة ما حجتك ؟!! "
قطبت وصال بطفولية ثم قالت بصوت حاد :
" انا لا أحتاج إلى حجة أو سبب للتحدث مع اقاربي و المزاح معهم .. انا افـ........ "
ابتعلت حديثها حين وجدته أمامها فهدرت فيه بجدية مضحكة وهي تلوح في وجهه باصبعها :
" جاسم .. توقف عن ترهيبي ، انا احذرك "
ليمسك جاسم اصبعها كما بات يفعل في كل مرة تهدده فيها و قال بجدية :
" احترمي غيرتي عليكِ يا وصال و لا تتباسطِ مع أحد بهذا الشكل خاصةً ادم .. فأنا لم أنسى بعد عناقكما في الحديقة "
نهضت وصال و هتفت بغضب :
" لقد شرحت لك الأمر مرارا .. قلت لك كان عناق اخوي لا اكثر "
" أخوي أبوي لا يخصني .. ليس من حق أحد غيري أن يعانقك أو يقترب منكِ و هذا آخر كلام "
ضحكت وصال باستهزاء ثم تخصرت و هتفت :
" ليس من حق أحد غيرك ؟! .. عن اي حق تتحدث ؟!! .. نحن لم نُخطب بعد "
ثم رفعت كفها أمام وجهه فيما تكمل مسلسل سخريتها دون حذر :
" أنظر إلى يدي جيدا يا سيد جاسم ، انا لم ارتدي محبسك لذا لا تتشدق عليّ بأي حقوق "
ابتسم جاسم ابتسامة ثعلبية ثم أمسك كفها عنوة فيما يقول بهمس خافت :
" و هل مشكلتك في المحبس ؟!! .. حسنا "
أمسك بكفها بيد بينما اخرج بالاخرى علبة من القطيفة الناعمة زرقاء اللون من جيبه ثم استطرد أمام عينيها المتسعتين و هو يلبسها شبكتها دون سابق إنذار :
" الخاتم موجود و المحبس موجود .. ألف مبروك يا عروس "
أصابها الخرس للحظات ظلت تحدق فيها إلى إصبعها الذي حمل خاتمه فجأة لتعود و تنظر اليه فترى ابتسامته المنتصرة لتسأله بعدها بتشوش و غباء :
" انت ماذا فعلت ؟!! "
فيجيبها هو بثقة دون أن يفلت يدها :
" ألبستك شبكتك يا عروس و كله بعلم من جدي "
" ماذا تقصد ؟!! "
فيرد بنفس النبرة :
" اقصد انك ِ الآن خطيبتي رسميا و عقد قراننا سيكون في نهاية هذا الشهر باذن الله "
دمعت عيناها و هتفت به :
" هكذا دون أخذ رأيي ؟!! "
انحسرت ابتسامته بالتدريج و اختلجت عضلة في خده بينما ارتجف قلبه ليسألها بنبرة باهتة :
" و هل لديك ِ رأي آخر في ارتباطنا يا وصال ؟!! "
صمتت و أنذرت عيناها بالدمع فاقترب هو منها من جديد سائلا بخفوت مرتعش غير مستوعبا ما حدث لها بالضبط :
" ألا تريدين الزواج مني ؟!! "
" اريد بالطبع "
هتافها غير المتردد أثلج قلبه و جعله يزفر ارتياحا للحظات لكنه عاد ينظر إليها منتظرا بقية حديثها لتكمل هي :
" أريد لكن ........ "
صمتت مرة أخرى و اطرقت بوجهها أرضا ليستوعب ما تريد قوله فيهدر فجأة :
" هل سنعود للخوف و التردد من جديد ؟!! .. انا لا افهمك يا وصال ، كيف تحبيني و لا تثقين بي ؟!! "
همست بصوت ضعيف :
" الأمر ليس هكذا "
فيهتف هو مرة أخرى :
" إذا ً كيف هو الأمر ؟! .. أشرح ِ لي "
حين لم تجد وصال ما ترد به صمتت فأستفزته ليمسك جاسم بوجهها بين كفيه قائلا بلا تراجع :
" أنظري لي و اخبريني صراحة انكِ لا تثقين بي .. هيا قوليها "
" أنا اثق بك اكثر من أي شخص "
همست بها وصال بصوت يكاد يُسمع فيطالبها هو دون أن يرأف بحالها و دون أن يسمح لجملتها بالتسلل الى قلبه و العبث به :
" أثبت ِ لي "
ابتعلت وصال ريقها و سألته بتشوش :
" كيف ؟!! "
" جدك سيسألك عن رأيك النهائي فور أن يراكِ .. إذا كنت ِ تثقين بي حقا كما قلتِ ستوافقين على ارتباطنا و على موعد عقد القران ، أما إذا رفضت ِ سأفهم وقتها قرارك و لن افرض وجودي عليكِ "
للحظة شعرت وصال بالرهبة من حديثه ليفاجئها هو أكثر حين سحب خاتمه من اصبعها فتنسحب روحها منها ليقول هو بثبات :
" من هذه اللحظة أنتِ صاحبة القرار و انا عليّ التنفيذ "نهاية الفصل الخامس و العشرون
قراءة ممتعة💚💜💗❤
أنت تقرأ
ضربة جزاء (ج1 من سلسلة قلوب تحت المجهر) لِـ"هاجر حليم" مكتملة
Romansرواية للجميلة الكاتبة هاجر حليم أرجو أن تستمتعوا بقراءتها.. حقوق الملكية محفوظة للكاتبة "هاجر حليم"